أيمن أبو هاشم
تتسع لوثة تكفير وتخوين المرحوم جمال عبد الناصر، وتشويه وشيطنة التجربة الناصرية، والنظر إليها باعتبارها منشأ ومصدر الاستبداد وحكم العسكر في الدول العربية، ويجد المشاركون في إطلاق هذه الأحكام القاطعة على التجربة الناصرية العروبية، ومنهم “إسلاميون ويساريون وليبراليون..” في مواقف (القومجيين العرب) المؤيدين للنظامين الكريهين الأسدي والسيسي، دليلاً ومستنداً على مزاعمهم التي تحيل أصحاب تلك المواقف إلى الإرث الناصري وما تبقى من تمثلاته الفكرية والسياسية القائمة. بل يتحول كل نزوع ومطلب لقراءة التجربة الناصرية بكل ما لها وعليها، وبما تقتضيه الموضوعية في تناول دورها التاريخي على الصعيد الوطني المصري وتأثيرها في السياق القومي العربي، إلى تهمة جاهزة بمحاباة الاستبداد والتواطؤ مع أنظمة العسكر، بل وأكثر من ذلك، تعميم تلك التهمة على كل من يدعو إلى الحفاظ على الهوية العربية، وإعادة بناء مشروع نهضوي عربي ديمقراطي يقوم على أولوية بناء دول وطنية حديثة.
يتلازم هذا الهيجان في استسهال وضع عبد الناصر ومشروعه السياسي، في خانة الأنظمة الفاسدة والمتوحشة التي ثارت عليها الشعوب العربية، مع جهل غير قليل بالحقائق المصرية والعربية خلال الحقبة الناصرية، ومغزى ودلالات رمزية ومكانة عبد الناصر لدى الشعوب العربية وحتى عالمياً في مقاييس تلك الحقبة، وهو مالا يمكن تفسيره بأبعاده الوجدانية والعاطفية فقط. كما ينجم عن ذاك الاستسهال ( كما نرى اليوم بوضوح) صعود تيار هجين يقرن الرابطة العروبية في مختلف تجلياتها السياسية والثقافية، وتطلعاتها التحررية المتراكبة، بالفكر( القومجي الشوفيني)، ويحاول سلخ الشعوب العربية عن وشائجها الهويّاتية، وإعادة تعريفها كجماعات طائفية وأثنية ومذهبية متشظية، وتصنيفها وفق التناحر الأكثري والأقلوي، بما يكرس صورة ” الإرهاب الإسلامي” لمحو كل نماذج التعايش والتسامح الديني في هذه المنطقة، بذريعة بلايا الإسلام السياسي. يؤلمني كثيراً هذا الخلط المريع بين العروبة الإنسانية المنفتحة على غيرها من القوميات والأمم والملل، وهو ما تؤكده تجارب تاريخية ومعاصرة راسخة، وهذا الإسقاط والتزييف والتفكيك لكل ركائز وتجارب اجتماعنا التاريخي والسياسي، فالطريق إلى مواجهة تحديّات الاستبداد الداخلي والاحتلال الخارجي في منطقتنا، لا يمر بالتبرؤ من الروابط والمشتركات الكبيرة والعميقة التي تجمعنا، وليس في إدانة وتقزيم وتشويه كل المحاولات والتجارب التي شهدها العرب في تاريخهم القريب والبعيد. وهذا ما يحفزنا أكثر على نقد وانتقاد أوضاعنا من مختلف الجوانب، وهو ما أتاحت فرصته الثورات العربية أكثر من أي وقت مضى، فيما فهمه البعض أو أراد أن يحوّره حسب تكييفه الخاص، إلى منطق تعميم السوء والفشل والخسران واللا جدوى، بالضد من نسبية الحقيقة والمعرفة، واحتكار تكييف الأحداث والتجارب التاريخية بوعي مطلق، يلتحف برداء الديمقراطية، فيما يرى الآخرون لقطاء وعراة من كل شيء.