حسين عبد العزيز
ما إن أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، انبثاق اللجنة الدستورية إلى النور، حتى اختلف السوريون المعارضون حولها اختلافا حادّا، بين مؤيد لها ومعارض شديد المعارضة. وقد يكون تباين المواقف هذا طبيعيا بسبب تعقيدات الملف السوري بمجمله، وفقدان الأمل في تحقيق الأهداف المرجوة، فضلا عن اختلاف أهداف الشخوص الفاعلة في الميدان السياسي والعسكري عن تلك غير الفاعلة. وتتطلب معاينة جوهر الاختلاف قراءة الخلفيات المؤسسة لهذه المواقف: طرف يمارس العمل السياسي في إطار الممكن والمتاح، ويخضع لأجندات إقليمية ودولية غصبا عنه، وطرف هو شخوص فردية بعيدة تماما عن اللعبة السياسية، وتصدر مواقفها من بعيد وهي متحرّرة من أي ضغوط خارجية، باستثناء ضغوط الضمير والعدالة. ولا يعني هذا دفاعا عن المؤيدين للجنة، وإنما هي محاولة لتشخيص مواضع الطرفين، كحامل أيديولوجي أو كموجه معياري في إصدار الموقف السياسي. ولذلك، كان طبيعيا جدا أن تكون المواقف من اللجنة الدستورية متباعدة، بسبب الخلفيات التي ينتمي إليها كل طرف، من دون أن يعني ذلك اتهام الطرف المؤيد بالغباء السياسي أو التلميح بعمالتهم، ومن دون أن يعني في المقابل اتهام القاعدة الشعبية والمراقبين للشأن السياسي بأنهم سذّج، وغير مدركين الحقائق الماثلة. ويصدر موقف الطرف المؤيد للجنة معطيات مهمة، يجب أخذها بالاعتبار:
أولا، صدرت اللجنة الدستورية من الأمم المتحدة وتحت إشراف المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون، مع ما يعنيه ذلك من أن مرجعية اللجنة هي مرجعية الأمم المتحدة، لا مرجعية أستانا أو سوتشي، وهذا تفصيل مهم، لأنه يقطع الطريق على الجهود الروسية الحثيثة خلال العامين الماضيين في اجتراح مسار سياسي، يكون بديلا عن مسار جنيف.
ثانيا، أن مسار العملية الدستورية سيكون بموجب القرار الدولي 2254 الذي يعتبر المرجعية القانونية ـ السياسية للحل. وصحيح أن بعض فقرات القرار قد طوى عليها الزمن، وأصبحت لا تلبي الواقع القائم، وصحيح أيضا أن البدء باللجنة الدستورية يخالف الترتيب الصريح للسلال وفق منطوق البند الرابع من القرار الدولي “.. تقيم في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، حكما ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولا زمنيا وعملية لصياغة دستور جديد، ويعرب كذلك عن دعمه انتخابات حرّة ونزيهة تجرى، عملا بالدستور الجديد..”. ولكن الصحيح أيضا أن نتائج الدستور، أو مضمونه، ستحدد آلية العمل السياسي الانتقالي، وأهمها العملية الانتخابية التي ستكون حرة ونزيهة، وفقا للدستور الجديد بحسب البند الرابع نفسه.
وكان المبعوث الأممي السابق، دي ميستورا، قد ميز بوضوح قبل عامين بين التفاوض السياسي والترتيب الزمني على أرض الواقع، فالبدء بمناقشة سلتي الدستور والانتخابات لا يعني تجاوز الترتيب الزمني الذي حدده القرار 2254، فعلى أرض الواقع يجب أن تستهدف عملية التغيير شكل الحكم، ولكن انطلاقا من الدستور والانتخابات.
ثالثا، انبثاق اللجنة الدستورية يعني عمليا خروج هيئة ذات اعتراف قانوني، ليس من المجتمع الدول فقط، بل الأهم من النظام السوري ذاته، أي اعترافه ضمنيا بالمعارضة ندا وشريكا في إيجاد الحل.
رابعا، وهو الأهم، المعارضة السياسية غير قادرة على رفض اللجنة، لأن قرار اللجنة دولي، بالتوافق مع اللاعبين الإقليميين، وفي مقدمتهم تركيا.
وكما لم تستطع المعارضة العسكرية رفض مطالب أنقرة بالتخلي عن مدينة حلب نهاية عام 2016، لا تستطيع المعارضة السياسية إبداء الرفض، لا لتركيا ولا للولايات المتحدة ولا للجماعة الأوروبية.
وفي المقابل، للطرف المعارض للجنة الدستورية حجته السياسية والأخلاقية أيضا:
أولا، نقلت هذه اللجنة الصراع السوري ـ السوري من مستواه الحقوقي ـ الأخلاقي إلى مستواه السياسي المحض، أي أنها اختزلت هذا الصراع إلى مجرّد خلافات حول الصياغة الدستورية ليس إلا.
ثانيا، ساوت اللجنة الدستورية بين الجلاد والضحية ووضعتهما في درجة واحدة، وبالتالي شرعنت النظام السوري بطريقة أو بأخرى.
ثالثا، تشكلت من دون أن يتم توضيح هدفها الرئيس، هل هو تعديل دستور 2012 أم تشكيل دستور جديد بالكامل؟ فقد أتى حديث بيدرسون عن إعداد وصياغة إصلاح دستوري يُطرح على الاستفتاء. وتعني هذه العبارة أن للنظام والمعارضة الحرية في اقتراح ما يرونه مناسبا، سواء مراجعة دستور 2012 أو دستور 1950 أو حتى دستور جديد بالكامل. بعبارة أخرى، لقد ترك تحديد هوية الدستور شكليا للتفاوض السوري ـ السوري، وعمليا للتفاهمات الدولية.
رابعا، أي قرار يصدر عن اللجنة يتطلب إجماع 75% من الأعضاء الـ55، بمعنى ضرورة تحصيل 112 ـ 113 صوتا، وهذا يبدو مستحيلا.
خامسا، قد تتطلب العملية الدستورية سنوات، وهي على الأغلب ستحتاج وقتا طويلا، ووفقا لذلك، سينحصر الضغط الدولي، إن وجد، على اللجنة فقط، وسيُترك النظام على حاله ريثما تنتهي عملية كتابة الدستور.
لكلا الموقفين حججه الموضوعية، لكن الأهم أن هذا الخلاف في مجمله مهم جدا، لأنه أداة ضغط على السياسيين في المعارضة من أجل أخذ رأي القاعدة الشعبية المعارضة وموقفها بالاعتبار، واستغلالها إيجابيا في سلوكها ومواقفها عندما تبدأ اللجنة أعمالها فعليا. وهذه اللجنة ستشكل تحدّيا كبيرا للمعارضة، واختبارا لمدى قدرتها على ولوج مجاهل الدروب السياسية للقوى الدولية الفاعلة ومتاهاتها.
المصدر: العربي الجديد