منير الخطيب
ما زالت صورة الشام التاريخية حاضرة بقوة في ضمائر السوريين، تلك الصورة التي يمتزج فيها التاريخ الأموي الإمبراطوري، مع الوضع الجيو- سياسي، حتى بداية القرن العشرين، حيث كانت تتبع لها كل مدن الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من إسكندرونة شمالاً وصولا إلى مدن الساحل الفلسطيني جنوباً، مروراً بطرابلس وبيروت وصور وصيدا. لقد انكسرت صورة الشام التاريخية تلك، عندما صحا السوريون في أعقاب اتفاقيات سايكس – بيكو على دمشق المدينة الداخلية، شبه الصحراوية، التي تقف على حدود بادية الشام، وقد فقدت أبوّتها على مدن الساحل الشامي.
تناسل “الجرح النرجسي ” السوري من الحنين، الواهم بالطبع، إلى تلك الصورة الوردية عن الشام التاريخية، في مقابل، مواجهة واقع دمشق العاصمة الداخلية وشبه الصحراوية. لذا كان هذا الجرح عنصراً مضافاً إلى عناصر أخرى مولّدة لأيديولوجيات متورمة ما فوق وطنية، اخترقتها وحكمتها مصالح فئوية ما دون وطنية، أسهمت في تشكيل بنية هشة ورخوة ” لوطنية سورية ” مفترضة، سرعان ما انهارت بعد الانفجار التاريخي الكبير الذي حدث في آذار عام 2011.
وأيضاً كان ذاك ” الجرح النرجسي” وما أنتجه من تورم أيديولوجي من الأسباب المهمة لتعامل السوريين مع كيانهم الحديث على أنه ” كيان عابر “، ومع “دولتهم” التي ابتلعتها السلطة المتغولة على أنها ” دولة ” عابرة، أي (ترانزيت) نحو ” الدولة العربية الواحدة” و “الشعب العربي الواحد”، و ” الوطن العربي”، و ” المجتمع العربي الموحد “. هذا الوعي الأيديولوجي بعبور “الوطن والدولة والشعب والمجتمع والأمة “، كان مدخل التشكيلات الاجتماعية ما قبل الوطنية للإمساك بهياكل ” الدولة ” الحديثة وإنتاج ظاهرة “الدولة السلطانية” المحدثة، وكان مدخل اغتصاب مفاهيم وسيرورات تشكل الشعب السوري، والمجتمع المدني السوري، والدولة الوطنية السورية، والوطن السوري.
والحال، إن نقد ظواهر راسخة في التاريخ السوري مثل: نقص الاندماج الوطني، كثافة وصلادة بنى “المجتمع الأهلي ” الطائفية والمذهبية والإثنية، التأخر التاريخي، نقص الوعي بمفاهيم الدولة والشعب والأمة والاجتماع الوطني، لا يستقيم بدون نقد الأيديولوجيات ما فوق الوطنية، وخاصة العروبية والإسلامية منها، فالطائفية والمذهبية وكافة التحاجزات المجتمعية في التاريخ السوري الحديث، عشعشت ونمت في أرحام الأيديولوجيات الكليانية الكبرى. وكذلك فإن التأسيس لتيار وطني سوري واجب وممكن، يقتضي مساءلة البديهيات المتوارثة والاقتناع التام بأن التاريخ لا يحركه الحنين إلى ماض مضى ولن يعود، وإن “الجراح النرجسية” لا تُبلسم بالشعارات الفارغة الجوفاء، و”الرقص المسعور حول الذات الميتة لا يجعلها تنبعث من رمادها“.
بعد الكارثة السورية، لم يعد متاحاً أمام السوريين ترف الانقياد الأعمى وراء الرومنسيات المُسكرة، في ذات الوقت الذي يفرض عليهم ضرورات تجاوز واقع التشظي والتعفّن الحالي، لذا حري بهم الاقتناع الواقعي، بأن الكيان الذي ورثناه من سايكس- بيكو، ولم نستطع الحفاظ عليه، وكان كبيراً وفضفاضاً على وعي السوريين ووعي نخبهم، هو كيان نهائي والاعتراف بنهائيته هو بداية نشوء الفكرة الوطنية السورية، والاقتناع بنهائية الكيان تفضي إلى القناعة بأن الوطنية السورية هي أوسع وأكبر من الإسلام والمسيحية والعروبة والكردية واليسار واليمين لأنها تحتويهم جميعاً، وبأنها لا تقوم على مفاهيم العرق والدين والمذهب والأكثرية والأقلية المذهبيتين، بل هي سيرورة تشكّل تاريخية، تنبني أساساً على فكرة الإنسان ككائن كلي منعتق من انتماءاته الهوويّة، وبأن تلك الوطنية ليست جمعاً حسابياً للطوائف والمذاهب والإثنيات القائمة فعلياً، بل هي تركيب جدلي معقّد يجعلها حاكمة عليهم جميعاً، وينقل السوريين من طور الجماعات المتحاجزة والمتقاتلة إلى طور المجتمع القائم على فكرة التعاقد، ومن طور “الدولة السلطانية ” المحدثة إلى طور الدولة – الأمة، ومن أفق الملة الديني إلى أفق الأمة العًلماني، ومن منسوب الرعية إلى منسوب الشعب بالمعنى الحديث، ومن عفن الهويّة إلى أفق الحرية.
مع هذه الانتقالات فقط يتبلسم جرح سورية النرجسي، فلم يعد مفيداً التشدّق بأن دمشق “قلب العروبة النابض”، وأن سورية ” قلعة الصمود والتصدي “، فكل ذلك أصبح لغواً ونفاقاً وهذياناً شيزوفرينياً، حيث بات معه انسحاب السوريين من متن الأيديولوجيات الكبرى مقدمة لازمة لعودتهم إلى الحياة الآدمية.
المصدر: بروكار برس