دانيال بنيم؛ ومايكل وحيد حنا ترجمة: علاء الدين أبو زينة
بالحكم من العناوين الرئيسية، يبدو أن العامين الأخيرين من سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط تميزا بسلسلة من التحولات المتعارضة جذرياً، والتي لا بد أن يتسبب تعقب حركتها في تصلب في العنق. فقد خاض الرئيس الأميركي دونالد ترامب حملته الانتخابية على برنامج المعارضة لسياسة خارجية تقوم على مبدأ “التدخل والفوضى”، ليقوم بعد ذلك بتصعيد الغارات الجوية الأميركية، من الصومال إلى سورية. وأعلن انسحاباً كاملاً للقوات الأميركية من شرق سورية في كانون الأول (ديسمبر)، وقال: “سيعودون جميعاً، وسيعودون الآن”، فقط ليناقض نفسه ويتحدث بحماسة عن عمليات نشر قوات إضافية في المنطقة لمواجهة إيران بعد ستة أشهر لاحقاً. وشجب الاستثمار المفرط لسلفه في الشرق الأوسط، بينما انتقد في الوقت نفسه ضعفه هناك أيضاً.
أتاحت هذه الإشارات المتضاربة ظهور تفسيرات مختلفة بشكل كبير لموقف إدارة ترامب في الشرق الأوسط. فبينما يؤدي التركيز على أحد التصريحات إلى إطلاق التحذيرات من اندلاع حرب جديدة، يسمح التركيز على أخريات بإعلان “عصر ما بعد أميركا” في الشرق الأوسط. ومع ذلك، يبدو أن معظم مراقبي الشرق الأوسط يتفقون على أن ثمة شيئاً جوهرياً في وجود أميركا في المنطقة آخذ في التغير.
في ظل رئاسة ترامب، لم يتغير الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط بطريقة يُعتد بها على الإطلاق. ما يزال المئات من الجنود الأميركيين يتمركزون في سورية بتفويض مفتوح النهاية (والذي يذهب أبعد من التبريرات الأولى لنشر القوات، التي ركزت بشكل مباشر على قتال تنظيم “داعش”). وقد تسبب القلق بشأن التهديد الإيراني في حدوث بعض التغييرات في الوجود العسكري، لكن هذه التغييرات أضافت حتى الآن أقل بكثير مما تم ترويجه. ويُظهر الحدث الأكثر جدارة بالملاحظة من بينها -عودة مئات عدة من القوات الأميركية إلى قاعدة الأمير سلطان الجوية في المملكة العربية السعودية- أن التعديلات الأخيرة لفرض الموقف في المنطقة كانت أصغر وأكثر تدريجية مما قد تقترحه المناقشات العامة حولها.
على الرغم من كل عناوين الأخبار، فإن الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط ثابت إلى حد كبير. وعلى الرغم من نية الإدارة المنصوص عليها في استراتيجية الدفاع الوطني للعام 2018، والتي تقترح إعادة تركيز جهد الجيش الأميركي لينصب على منافسة القوى العظمى، فإن موطئ قدم الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يظل ثابتاً نسبياً ودائماً على ما يبدو. بدلاً من ذلك، كان الذي تغير هو حجم الجهد المدني الذي كان، في معظم الإدارات السابقة، ليصاحب مثل هذا الوجود العسكري. فقد تركت إدارة ترامب العديد من الوظائف المدنية الرئيسية الخاصة بالشرق الأوسط شاغرة لفترات طويلة، وخفضت برامج المساعدات، وركزت على العلاقات الشخصية رفيعة المستوى على حساب العلاقات الأعرض نطاقاً. وبالإجمال، لم تتبنَّ مقاربة الإدارة، لا بإعادة التخندُق ولا التدخلية الواضحة، وإنما بما أطلق عليه باري بوسن، كاتباً في مجلة فورين أفيرز، “الهيمنة غير الليبرالية” -الهيمنة العسكرية المجردة من الإدارة الدبلوماسية.
على الرغم من أن بعض الشركاء الأميركيين منذ فترة طويلة في المنطقة سعوا إلى تصوير الولايات المتحدة بأنها “تخرج” من الشرق الأوسط بهدف الحصول على ضمانات وتطمينات إضافية، فإن هذه الرواية المتجددة تحجب عناصر من البصمة الدفاعية الأميركية الثابتة التي لا يطالها تغيير. وقد تم بالفعل تدوير بعض الأصول المتحركة ذات القيمة العالية خروجاً من الشرق الأوسط -فقط ليعاد تدويرها عائدة مرة أخرى. وعلى سبيل المثال، تم ملء الفجوات في ما كان الوجود المستمر لحاملات الطائرات الأميركية في مياه الخليج، والتي استمرت أشهرا عدة، بالعودة المتناوِبة لمجموعة ضاربة مرافقة لحاملة طائرات إلى المنطقة في أيار (مايو).
منذ انسحاب القوات الأميركية من العراق، دعا الرؤساء الأميركيون إلى إعادة النظر في التزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط. وتحدث أوباما عن الحاجة إلى عملية “إعادة موازنة”، بينما يزعم ترامب بأنه يعيد التركيز لينصب على منافسة القوى العظمى. وفي الوقت نفسه، ظلت الكثير من البنية التحتية العسكرية الدائمة اللازمة للنشر واسع للقوات الأميركية في المنطقة قائمة. وتحتفظ الولايات المتحدة بعشرات الآلاف من القوات المنتشرة في 14 دولة في المنطقة، بما في ذلك القواعد في تركيا والأردن والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين والكويت. كما أنها تدير مهمّات مستمرة للتدريب ومهمات مكافحة الإرهاب في العراق وسورية.
في بعض البلدان، يتوسع الوجود العسكري الأميركي -كما هو الحال في الأردن؛ حيث أدى الانسحاب المخطط له من سورية وغيرها من مناطق عدم اليقين في المنطقة إلى توسع هادئ، ولكنه مهم، للمنشآت الأردنية التي يستخدمها الجيش الأميركي. وحتى وسط الخلاف المستمر بين قطر وجيرانها في الخليج العربي، وقعت وزارة الدفاع اتفاقاً في كانون الثاني (يناير) 2019 لتوسيع البناء في قاعدة العُديد الجوية، المقر الأمامي للقيادة المركزية الأميركية في المنطقة. وكما أخبر مسؤول كبير سابق في البنتاغون أحد مؤلفي هذا المقال، فإن الشركاء الإقليميين “يحاولون دائماً أن يجعلونا نصبُّ المزيد من الإسمنت”.
كانت بعض جوانب التواجد الأميركي الضخم في الإقليم ثمرة لجهود إدارة أوباما لضمان وجود رادع عسكري موثوق ضد إيران خلال مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني. والآن، دفع انهيار هذا الاتفاق نفسه المسؤولين العسكريين إلى المطالبة بالمزيد من الزيادات في القوات.
إلى جانب خطاب التخلي عن المنطقة، تستمر حقيقة الوجود العسكري الأميركي المقيم فيها. وينظر الجيش في العادة إلى الشرق الأوسط من زاوية التخطيط للطوارئ: فهو يحتاج مدخلاً إلى قواعد وفيرة له عبر منطقة غير مستقرة، حيث تتراوح الأزمات المحتملة في المستقبل من التمردات الإرهابية السنية، إلى الهجمات الإيرانية على القوات الأميركية، إلى الحوثيين الذين يطلقون الصواريخ على السفن ويهددون الطرق الرئيسية للشحن البحري. ولعل الأهم من بين هذه الحالات الطارئة هي نشوب حرب مع إيران. وعلى الرغم من أن استراتيجية الدفاع الوطني تتضمن إشارات متكررة إلى مبدأ “المخاطرة المحسوبة” المطلوب لإعادة توجيه أولويات الولايات المتحدة بعيداً عن مواطن الطوارئ الإقليمية ونحو التركيز على منافسة القوى العظمى، ما تزال هناك عشرات الآلاف من القوات الأميركية المتواجدة في الكويت كاحتياطي للاستجابة السريعة للحروب الإقليمية؛ واستمرار العمليات الجوية في أفغانستان وضد “داعش” انطلاقاً من قطر والإمارات العربية المتحدة؛ والأسطول الخامس للبحرية الأميركية في البحرين من أجل إبقاء مضيق هرمز مفتوحاً. وحتى سلطنة عمان، ذات العقلية الميالة إلى الاستقلال، تسمح بـ5.000 تحليق و600 هبوط لطائرات عسكرية أميركية، وتستضيف 80 رسواً في الموانئ لسفن تابعة للبحرية الأميركية كل عام.
ومع ذلك، فإن التوترات الحالية التي تحيط بالسلوك الإيراني والأخطار المتزايدة على النقل البحري الدولي في الخليج، تعطي دليلاً إضافياً أيضاً على التحول نحو “الهيمنة غير الليبرالية”. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تسعى الآن إلى تجميع قوة تحالف بحرية لحماية السفن التجارية التي تمر عبر مضيق هرمز، فإن الدوافع الأولى لإدارة ترامب عكست ميلاً نحو أحادية صريحة، وبعيداً عن الأمن الجماعي. وفي هذا السياق، اقترح وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في البداية أن تكون المملكة المتحدة مسؤولة بشكل رئيسي عن أمن سفنها التجارية في المنطقة.
من المؤكد أن بعض جوانب البصمة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط قد تغيرت. فمع تباطؤ الحملة الأميركية ضد “داعش”، تراجعت الحملة الجوية التي بلغت أوجها في ذروة المعارك من أجل تحرير الموصل والرقة. كما كان هناك أيضاً تحرك بعيداً عن الوجود المتواصل لحاملات الطائرات نحو التدوير والمناوبات التي تزيد كل منها أو تخفض أعداد القوات الأميركية في المنطقة. وفي العام الماضي، تم تدوير بطاريات صواريخ باتريوت بإخراجها من الأردن والكويت والبحرين، ليتم نشرها الآن، إلى جانب 500 جندي أميركي، داخل المملكة العربية السعودية بعد غياب دام خمسة عشر عاماً. ولكن، وكما تظهر التحركات الأخيرة، حتى مع وجود بصمة أكثر مرونة في المنطقة استنادًا إلى المزيد من عمليات التدوير المتكررة، فإنه يمكن إعادة نشر الأصول العسكرية المتحركة في غضون وقت قصير.
التراجع الدبلوماسي
على الجانب المدني، كان تدهور وزارة الخارجية على مدى العامين ونصف العام الماضية قميناً بالرثاء حقاً. ومع أن أداء مكتب شؤون الشرق الأدنى كان أقل سوءاً من نظرائه في بعض النواحي، فإن هبوطه كان حاداً مع ذلك. ولننظر، على سبيل المثال، في مناصب السفراء الشاغرة في المنطقة. وقد ملأت إدارة ترامب بعض الشواغر مؤخراً فقط، بما في ذلك في مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وتركيا. لكن ذلك لم يحدث إلا بعد تركها شاغرة لمدة 25 شهراً، و16 شهراً، و27 شهراً و18 شهراً على التوالي. وما تزال هذه المناصب شاغرة في الأردن وقطر والمغرب. وعلى سبيل المقارنة، في الفصل الأول من إدارة أوباما، لم تكن سوى وظيفة المغرب هي التي ظلت شاغرة لمدة زادت على عام.
على نحو مماثل، ظل مكتب شؤون الشرق الأدنى من دون قائد معيّن ومصادق عليه من الرئاسة منذ كانون الثاني (يناير) 2017 حتى تم تمت المصادقة على تعيين ديفيد شينكر كمساعد لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى في حزيران (يونيو) 2019. وكان أوباما قد ملأ هذا المنصب في الأشهر الثمانية الأولى من رئاسته. ولا تقتصر المشكلة على رتب السفراء: فقد وجد تقرير للرقابة الداخلية أن 18 % من وظائف الخدمة الخارجية في مكتب الشرق الأدنى كانت ما تزال شاغرة بحلول شهر آذار (مارس) 2018، وهو أعلى مستوى من الشواغر في أي منطقة.
ما الذي عناه هذا في الممارسة العملية؟ عندما انضم ترامب إلى مجموعة من القادة الإقليميين والعالميين في الرياض في أيار (مايو) 2017، لم يكن قد عيّن سفراء لدى دول رئيسية في المنطقة، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر. وفي أعقاب هذا التجمع -الذي يتم تذكره بصورة لترامب، والملك سلمان ملك المملكة العربية السعودية، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقد تجمعوا حول مجسم متوهج لجرم سماوي- أطلقت المملكة العربية السعودية سلسلة من حملات القمع المحلية، وقامت -إلى جانب مصر، والإمارات العربية المتحدة والبحرين- بقطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر، التي تستضيف القيادة المركزية الأميركية، وأوقفت السفر البري والجوي والبحري من وإلى ذلك البلد.
بعد ستة عشر شهراً من ذلك، عندما انفجرت قصة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل تركيا وتحولت إلى أزمة دبلوماسية، لم يكن هناك سفير أميركي مصادق على تعيينه من مجلس الشيوخ في تركيا أو المملكة العربية السعودية لتقديم رؤية محلية، أو المساعدة في إدارة العلاقات نيابة عن الرئيس الأميركي مع قادة تلك البلدان. ونتيجة لذلك -وربما عن قصد- وجدت الإدارة نفسها وهي تعمل مباشرة من خلال ترامب وصهره، جاريد كوشنر، لتنفيذ استجاباتها السياسية. وليست إدارة ترامب هي الأولى التي تسعى إلى التحايل على القنوات التقليدية المكرسة وتجاوزها، أو تضييق نطاق مداولات السياسة بشأن القضايا الحساسة. لكن الدرجة التي شخصنت ومركزت بها السلطة، بينما تقوم بتهميش البيروقراطية، تعرِض شيئاً جديداً في العقود الأخيرة من السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
كان الشيء الأقل ملاحظة من الوظائف الشاغرة، وإنما الذي لم يكن أقل ضرراً، هو تفكيك الأدوات الأخرى للقوة المدنية الأميركية. ففي صيف العام 2018، قام ترامب بسحب القابس عن صناديق تثبيت الاستقرار في سورية، وهي أموال مدنية ساعدت مجالس الحكم المحلي وغيرها من التدابير لمنع عودة “داعش” إلى المناطق المحررة. والآن، ما تزال القوات الأميركية منتشرة هناك، لكن مساعدات الاستقرار المدنية ما تزال مجمدة.
وفي العراق، استثمرت إدارة ترامب في تحقيق الاستقرار للأقليات الدينية، لكنها تخلت عن إعادة الإعمار، ولم تفعل سوى القليل لمساعدة العراق على مواجهة تحديات الحكم -على الرغم من النفوذ الدبلوماسي الذي ما يزال قوياً للولايات المتحدة هناك. وقد أفضى تصاعد التوترات مع إيران إلى ظهور تهديدات أمنية، وفي نهاية المطاف إلى إغلاق القنصلية الأميركية في جنوب العراق في أيلول (سبتمبر) 2018 -وهي منطقة تقع في قلب أزمة الحكم في البلاد، وضرورية لبقاء حكومته الحالية. ثم، في شهر أيار (مايو)، أمر وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبو، بخروج الوجود المدني غير الضروري من البلد بأكمله وسعى، حسب ما ذُكر، إلى جعل ذلك التخفيض دائماً. وقد بقيت القوات في الخلف، مما أثار تساؤلات حول نوايا الولايات المتحدة ومدى التزامها.
وفي مصر، حدث التحول نحو علاقات تركز على الشؤون العسكرية على مدى فترة أكثر طولاً، وإنما لم يكن أقل وضوحاً. ووسط تجدد غير مسبوق مدعوم من الجيش للاستبدادية هناك، ظلت المساعدات الأمنية الأميركية لمصر من دون تغيير على مدى عقود عند 1.3 مليار دولار. وفي غضون ذلك، انخفض الدعم الاقتصادي للبلد على مدار العشرين عاماً الماضية من 800 مليون دولار إلى 120 مليون دولار. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت المساعدات الأمنية لمصر أكبر بثلاث مرات من المساعدات الاقتصادية؛ أما اليوم، في أكبر بـ11 مرة.
ربما كان الملمح الأكثر أهمية هو التغييرات التي حدثت في التعاون المدني مع الفلسطينيين. فقد أغلقت إدارة ترامب القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وألغت كل المساعدات الأميركية للفلسطينيين. وقامت بعثة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية للشعب الفلسطيني بتسريح حوالي 85 في المائة من موظفيها -منهية فعلياً جميع أنشطتها على الأرض تقريباً، بما في ذلك دعم المستشفيات في القدس الشرقية، وكذلك اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة. وهذه الخطوات عقابية بطبيعتها وهي مضرّة بالجانبين.
إعادة النظر في الوضع الراهن
بشكل إجمالي، يجمع نهج إدارة ترامب تجاه الشرق الأوسط بين الإبقاء على بصمة عسكرية أميركية مستقرة إلى حد كبير، وانخراط دبلوماسي أكثر عسكرة وشخصنة. ويمكن أن ينتج هذا النهج علاقات دافئة ومكاسب تكتيكية لبعض الوقت، لكنه يخاطر بخلق توازن على أسوأ ما في العالمَين؛ حيث تدفع واشنطن عشرات المليارات من الدولارات كل عام لتمركز القوات الأميركية في أنحاء المنطقة، بينما تخسر استثمارات أرخص بكثير في الدبلوماسية، والتي يمكن أن تساعد على تقليل احتمالات الحاجة إلى استخدام تلك القوات من الأساس. وضمن هذه الرؤية، تتعامل مجموعة فرعية ضيقة من الأميركيين مع مجموعة ضيقة مساوية من الحكام الإقليميين، والأسر الحاكمة، ومسؤولي الأمن، بينما يتم تهميش المجتمعات تماماً. وقد يبدو هذا واقعية متشددة عنيدة، لكن من المرجح أن يثبت كونه قصراً في النظر.
يؤدي هذا النهج أيضاً إلى تفاقم مشكلة قائمة منذ أمد بعيد، هي الاعتماد المفرط على الجيش باعتباره الأداة المركزية لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وحتى في أفضل أيام الدبلوماسية، يدرك القادة الإقليميون جيداً “تأثير القنصل” -التناقض بين القادة العسكريين الأميركيين ذوي الموارد الجيدة وزملائهم الدبلوماسيين الفقراء. ويؤدي المزيد من تهميش الدبلوماسيين إلى تجريدهم من النفوذ، والوصول، والقدرة على المساومة، في حين يتم وضع المجتمعات العسكرية والاستخبارية في موضع الجهات الفاعلة المؤسسية الأميركية الوحيدة الفعالة في المنطقة.
ثم هناك مسألة اليوم التالي بعد ترامب. فقد عملت مقاربة إدارته فعلياً على تعميق تسييس العديد من الشراكات الرئيسية وإضفاء الطابع الشخصي عليها، محوِّلة بذلك ما كانت ذات يوم علاقات دائمة مع الحزبين إلى ذيول ولواحق للرئاسة الأميركية الأكثر استقطاباً في الذاكرة الحديثة. وقد زرع هذا التوجه البذور لحساب قادم لا مفر منه تقريباً مع هؤلاء الشركاء حول سلوكهم في عهدته. وثمة جانب مشرق هو أن ترامب قد يوفر، من خلال طرح أكثر الافتراضات إثارة للقلق التي تقوم عليها الشراكات الإقليمية للولايات المتحدة، فرصة تمس الحاجة إليها لإعادة النظر في شروط هذه الشراكات. وفي نهاية اليوم، قد يؤدي نهج ترامب إلى إحداث تغيير حقيقي في البصمة العسكرية للولايات المتحدة في المنطقة -عن طريق جعل تولي خليفته المهمة أكثر احتمالاً.
يجب على الإدارة القادمة أن تفكر ملياً في التكاليف المحتملة لمواصلة التركيز الشديد الحالي غير المتناسب على الشرق الأوسط. ويشكل الوضع الراهن نقطة النهاية لمسار كان قد بدأ في العام 1980 مع عقيدة كارتر، الذي أعلن أن أي “محاولة تبذلها أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج الفارسي سوف تعتبر اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة، وسيتم التصدي لمثل هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية”. وبعد الغزو العراقي للكويت في العام 1990 وما تلاه من حرب الخليج، بدأت الولايات المتحدة في إرساء جذور لها في منطقة تستطيع، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أن تهيمن عليها بلا منافس. وقد وفرت تلك البنية التحتية في وقت لاحق القاعدة والدعم لما تحول إلى حرب العراق و”الحرب على الإرهاب” سيئة التقدير التي أطلقها الرئيس جورج دبليو بوش. ولا ينبغي لهذا الموقف أن يستمر إلى ما لا نهاية.
استكشف خبراء الدفاع، مثل ميليسا دالتون ومارا كارلين، خطوات تدريجية بين الإبقاء على الوضع الراهن بشكل دائم والمغادرة المزعزعة للاستقرار. وطورت كارلين هذه الأطروحة في مقالة نشرت في مجلة الشؤون الخارجية “فورين أفيرز” مع تمارا كوفمان ويتيس، محذرتين، عن حق، من أن إعادة التوازن من الاستثمارات العسكرية إلى الاستثمارات الدبلوماسية لا يمكن أن تكون بديلاً عن اتخاذ خيارات صعبة وتحديد أهداف أكثر واقعية. ويمكن للإدارة القادمة -وينبغي عليها- أن تدرس بعناية ما هو مطلوب فعلاً لمحاربة الإرهاب الجهادي وردع إيران واحتوائها والاستعداد لمختلف الأوضاع الطارئة في المنطقة.
في الوقت نفسه، سوف تحتاج الإدارة الجديدة إلى التركيز على إعادة بناء القدرات الدبلوماسية والإنمائية التي فُقِدت في السنوات الأخيرة. وفي حين يظل من المؤكد أن الولايات المتحدة لن تغادر الشرق الأوسط في أي وقت قريب، فقد تطور وجودها بصورة غير متناسبة ولا متوازنة -حيث أصبح مسيساً ومُشخصناً ومُعسكراً على حساب القوة المدنية. ويكمن الخطر في أن تتوصل إدارة مستقبلية إلى بدائل مهمة للنزعة العسكرية والانسحاب، فقط لتجد الخزانة عارية؛ وسوف ترث وضعاً إقليمياً حيث تكون قدما الولايات المتحدة واحدة في الماضي والأخرى خارج الباب.
المصدر: فورين أفيرز/ الغد الأردنية