حسام ميرو
تقتضي المكاشفة الجرأة، والجرأة تضيع غالباً في بحر المصالح، أو مستنقعها الآسن، فتصبح الأكاذيب مداد الحاضر والتاريخ، خصوصاً أن من بيده الميزان هو من يكيل، فلا نرجو إذاً أن تكون الحسبة النهائية صحيحة، بل حسبة على مقاس الكيّال، والكيّال هنا النادي الرسمي للمعارضة السورية، وما عرف بـ “منظمات المجتمع المدني”، وهما وافدان جديدان على الساحة السورية بعد 2011، فرضتهما حسابات كثيرها لا صلة له بقضية السوريين، ولا بعمق الامتداد الشعبي، بل بقوى الخارج، الإقليمية والدولية، ومؤسسات أمريكية وأوروبية.
في ثمانينات القرن الماضي، كانت أحزاب المعارضة السورية، اليسارية والقومية، ملاحقة أمنياً، وقد زجّ النظام بآلاف منها في فروعه وسجونه، ومعظم من عاش تجربة الاعتقال هم من الشباب، بعضهم لم يبلغ العشرين من عمره في لحظة اعتقاله، وكثر كانوا طلبة جامعيين، ينتمون إلى الطبقتين المتوسطة والفقيرة، لكنهم كانوا مدركين قبل انخراطهم في العمل السياسي أنهم معرضون للاعتقال في أي لحظة، لكن السجن في نظرهم كان في منزلة بطاقة اعتماد في الوطنية، والسياسة طريقة وطريق لتحقيق الحلم بدولة الحريات والقانون.
لم يكن آنذاك مال يدفع للمنتسبين إلى الأحزاب، بل كان الرفاق والرفيقات يتبرعون لأحزابهم، بحسب قدراتهم المالية، وكان الموظفون في بعض الأحزاب يتبرعون بنسبة ثابتة من مرتباتهم الشهرية، على حساب عائلاتهم وأولادهم، مفترضين أن ذلك بعض واجبهم تجاه قضايا الحزب والوطن، ونوعاً من أنواع المشاركة المطلوبة أخلاقياً، خصوصاً أن بعض التبرعات كانت تذهب إلى عائلات المعتقلين.
العمل في المعارضة السياسية لم يكن مفصولاً عن الفكرة الأخلاقية، والوجود الأخلاقي لمن رهن حياته لتصحيح أخطاء وخطايا التاريخ الوطني، بل يمكن القول إنه في حالات كثيرة كان الدافع الأخلاقي سبب انضمام كثيرين إلى العمل السياسي، وإلا كيف يمكن تفسير ذهاب المرء بقدميه إلى التهلكة من دون فكرة أخلاقية عُليا، والتضحية بأجمل سنوات العمر، في قضية -كان المجتمع في معظمه- يعدّها قضية خاسرة، فالنظام الأمني كان قد أغرق المجتمع بالخوف، وجعل من سوريا بلد الصمت.
بعد توريث الحكم للأسد الابن، نشط سياسيون سابقون ومثقفون وأكاديميون، في ما عرف بـ “لجان إحياء المجتمع المدني” التي شكّلت رافعة ربيع دمشق، وأوجدت لأول مرة حركة مدنية عابرة للمدن والمناطق، تُطرح في منتدياتها قضايا سياسية واقتصادية غاية في الأهمية، وقد واجهها النظام باعتقال أبرز رموزها، وبعضهم كان معتقلاً في وقت سابق.
بعد أشهر من انتفاضة السوريين في 2011، شهدنا أولى التشكيلات السياسية التي تضم أطرافاً حزبية عدة، في إطار “المجلس الوطني” الذي اعتمد اعتمادا أساسيا في تحقيق الشرعية على الخارج، وهو ما ترافق مع التمويل، ومنذ تلك الولادة لأول بنية تنظيمية للنادي الرسمي للمعارضة، أصبح مألوفاً أن تعتمد التشكيلات السياسية المعارضة على دعم الدول الإقليمية والأجنبية، وأصبح مألوفاً أن تأتمر كل جهة بتوجهات الداعم، وأن تلتزم بخطوطه الحمر، بل أن تصبح -إذا لزم الأمر- مدافعة عن توجهاته السياسية وقراراته ضد أبناء شعبهم من السوريين، ولا حاجة لذكر أمثلة في هذا الاتجاه، فقد أصبحت أكثر من أن تعد، ومعروفة لدى قطاعات واسعة من السوريين.
ممثلو السوريين في تشكيلات النادي الرسمي للمعارضة أصبحوا ممثلي الدول المنخرطة في الصراع السوري، يعتمد كل منهم في معيشته على الرواتب المقدمة من الدولة التي يتبع لها، وقد شهدنا في السنوات الماضية صراعات بين أعضاء تلك الهيئات على مرجعية الخلافات بين الدول الداعمة، لا مرجعية الرؤية السياسية أو آليات العمل.
الأوضاع في ما يسمى “منظمات المجتمع المدني” السورية ليست أفضل حالاً، وهي من حيث التأسيس والهيكلية منظمات غير حكومية، والفرق بين الأولى والثانية أن منظمات المجتمع المدني هي في معظمها منظمات تطوعية، يتقاضى قلة قليلة ممن يعملون فيها رواتب منتظمة، وتعبّر عن خطّ محدّد تعمل فيه، ورؤية فكرية تنطلق منها لمناصرة الفئات التي تدافع عنها، وهي ليست حيادية تجاه القضايا السياسية، بل لها رؤية لما يحدث في مجتمعها ودولتها، بينما تعمل المؤسسات غير الحكومية وفق تمويل جهات محددة، ويذهب قسم كبير من تمويلها إلى الرواتب والمصروفات الإدارية، ويشترط على معظمها الحياد السياسي.
مئات من الشابات والشباب السوريين لم ينخرطوا في العمل السياسي، وفضلوا العمل في “منظمات المجتمع المدني”، وأصبحوا موظفين يديرون أعمالهم من وراء مكاتبهم، ويتقاضون رواتب بحسب سلسلة الرواتب في الدولة التي يتعاملون معها.
مئات الورشات، بل ربما آلاف، عُقدت في السنوات الماضية، بمسميات التوثيق والدعم النفسي ومناصرة النساء والقانون الدولي، وغيرها كثير، من دون أن تحدث تلك الورشات فارقاً كبيراً في المجتمع السوري، قياساً بالمال والجهد والوقت الذي استهلكته، والأخطر هو ابتعاد تلك المنظمات عن أي موقف سياسي واضح، نظراً لكونها تطبّق شروط الداعمين في التزام الحياد.
الأحزاب السياسية المعارضة، ومنظمات المجتمع المدني، هي مثل الملح الذي يحفظ كل قضايا الناس وحقوقهم عموماً، والفئات التي يدافعون عنها على وجه الخصوص، من الضياع أو الانحراف أو تغوّل الفاسدين عليها، خصوصاً في المراحل الوطنية الخطِرة، كما الحال في سوريا، حيث أصبح وجود الوطن نفسه على المحك، فما العمل إذاً لو أصبح الملح نفسه فاسداً، وأصبحت شجاعة الاعتراف بالخطأ أو الفساد عملة منقرضة، وليست فقط نادرة؟ نعم لا بد من الاعتراف: فَسُد الملح.
المصدر: بروكار برس