منير الربيع
تعيش الولايات المتحدة الأميركية جدلاً مفتوحاً منذ سنوات حول سياستها في الشرق الأوسط. النقاش المفتوح يتنامى عند كل محطّة انتخابية، بين الديمقراطيين والجمهوريين. فباراك أوباما، خاض معركته الانتخابية تحت شعار الاهتمام بالداخل الأميركي والانسحاب من أزمات المنطقة، والشرق الأوسط تحديداً. وهو أعلن انسحابه من العراق وأفغانستان. دونالد ترامب ذهب بعيداً في ولايته الأولى حول مسألة الانسحاب من المنطقة، ورفع شعار أميركا أولاً. وها هو يستعيد الأسلوب ذاته تحضيراً للمعركة الانتخابية التي يأمل الفوز فيها بولاية ثانية.
“صفقة القرن” وأمن النفط
تريد الولايات المتحدة الأميركية، الوصول إلى سياسة صفر مشاكل مع مختلف الدول التي كانت في مواجهة معها، ككوريا الشمالية وإيران وروسيا. والهمّ الأساسي لواشنطن يبقى في مواجهة الصين لاعتراض مبادرة حزام وطريق، أو فرض نفسها كشريك قوي في هذا المشروع. سياسة أوباما في هذا المجال لم تكن تختلف عن سياسة دونالد ترامب. الرجلان يستلهمان من زبيغنيو بريجنسكي، ومن هنري كيسنجر، حول ضرورة التقارب مع روسيا تدعيماً لمواجهة الصين وإجبارها على عقد ما الشراكة معها في ظل تناميها وتعاظم اقتصادها.
افتتح ترامب معركته الانتخابية لولاية ثانية بالإعلان عن “صفقة القرن”. وقبلها كان انسحب من الاتفاق النووي وفرض عقوبات قاسية على إيران، بغية تغيير الاتفاق وتقديم نفسه المستعيد للهيبة الأميركية. اليوم تغيرت أحواله وأصبح بحاجة إلى صورة مع أي مسؤول إيراني تعزز وضعيته الانتخابية. تمكنت إيران من استفزاز أميركا في العديد من المجالات وصولاً إلى ضرب خطوط النفط. بينما ترامب لم يكن قادراً ولا راغباً بالدخول في حرب أو مواجهة، لأن الأميركيين لا يريدون الانغماس أكثر في الشرق الأوسط. وتتنامى لدى الأميركيين وجهة نظر مفادها أن ليس على الولايات المتحدة تحمّل تكاليف أمن النظام العالمي الذي أرسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. تتخلى واشنطن عن وظيفتها في إدارة العالم متخففة من دفع التكاليف المترتبة عن ذلك. وقد تجلى ذلك بعد الضربات الإيرانية في الخليج. إذ أعلن ترامب أنه غير معني بحماية خطوط النفط، وعلى الدول الأخرى المستفيدة من النفط أن تتكفل هي بحماية الناقلات والمنتوجات النفطية.
أربع قوى
يستكمل ترامب معركته الانتخابية بالإعلان عن أن أسوأ قرار أميركي اتخذ في التاريخ هو التورط في الشرق الأوسط، معلناً سحب خمسين جندياً أميركياً من شرق سوريا، وتسليم المنطقة إلى تركيا، ما يعني أنه منح تركيا غطاءً لعمليتها العسكرية هناك. إعلان ترامب هذا، لا يعني بالضرورة الانسحاب الكامل من الشرق الأوسط. ولكنه في مضمونه يعود إلى نظرية بريجنسكي وكيسنجر في تسليم ملفات المنطقة إلى قوى دولية ترتبط بعلاقة وثيقة بواشنطن، ولن تكون قادرة على الخروج من تحت العباءة الأميركية. وهذا ما دفع أميركا إلى تسليم سوريا لروسيا، وجزء منها لتركيا. بينما غايتها الأساسية، حالياً، تتركز على عقد صفقة كبرى مع إيران. فتكون طهران شريكاً أساسياً ضمن هذه القوى الأربع التي تمنحها واشنطن أدواراً في المنطقة، أي تركيا وروسيا وإيران وإسرائيل.
أدوار هذه القوى الأربع هي الجواب البديهي على سؤال حول ما الذي سيحل بدلاً من الوجود الأميركي. بينما ليس لدى العرب سوى الفراغ، وهم الذين افتقدوا لأي مشروع وراهنوا بكلية مشاريعهم ومقدراتهم على الأميركيين. لن يكون الانسحاب نوعاً من الانكفاء الكامل عن المنطقة، بل محاولة احتوائية جديدة للمنطقة من خلال قوى إقليمية فاعلة كإيران وتركيا وروسيا. بينما تبقى واشنطن قادرة على ضبط هذه اللعبة بالاستناد إلى تحكمها الاقتصادي والمالي.
الخسارة العربية
خسارة كبيرة بالنسبة إلى العرب الذين راهنوا على واشنطن على مدى عقود. وفي المقابل سيسجل خصوم واشنطن “انتصاراً معنوياً” لصالحهم بعد الانسحاب الأميركي، طالما انهم يتفوقون في مشاريعهم على العرب، الذين يضيعون في خطابات متناقضة ومتعددة. الخطابات القومية أو الإسلاموية أو اليسارية الفاقدة لأي رؤية أو أفق، إضافة إلى خطابات الطغم العسكريتارية التي تعزز أدوار الأنظمة على حساب الشعوب ومصالحها.
هكذا، تحولت واشنطن إلى عنوان يستدعي تعليق خيبات العرب عليه.
طوال السنوات الماضية ترسّخ وهم اسمه الولايات المتحدة الأميركية. بينما اليوم يتوجب طرح السؤال عن البدائل التي يمكن اعتمادها. هل الإيرانيين بنموذجهم في الحشد الشعبي، وحزب الله، والحرس الثوري؟ أم نموذج روسيا بوتين، صاحب العشرين عاماً في حكم روسيا، ورمز تجدد الأنظمة الشمولية والمخابراتية، التي تغيب فيها أي تعددية أو حرية أو ديموقراطية، أم النموذج التركي. أما النماذج العربية البائسة التي لا تنتج سوى الموت لشعوبها كالنظام السوري؟
ما يحدث حالياً في المنطقة، ولبنان من ضمنها، يشبه إلى حدّ بعيد ما جرى إبان الحرب العالمية الأولى، في إعادة رسم الخرائط والأدوار الجديدة في المنطقة ودولها، حيث تتوزع مراكز القوى الحالية بين إيران وتركيا وروسيا وإسرائيل. وكل ذلك تحت رعاية شعبوية أميركية، وشعبوية أوروبية، تعيش على إعادة إنتاج منطق العصبيات القومية، والتي تلاقي صداها في الشرق الأوسط، بنماذج مختلفة.. تبدأ من “صفقة القرن”، ولا تنتهي في فدرلة سوريا، وفي ترسيخ الدويلات المسلحة داخل الدول، وإضعاف الدور العربي وإغراق العرب والخليجيين في همومهم الداخلية واستنزاف ثرواتهم بعد ضمور شرعيات الحكم، مقابل تعزيز منطق الأقليات القومية والمذهبية المتلاقية ضد العرب أو ضد “الأكثرية” في هذه المنطقة.
الحال اللبنانية
يمثل لبنان مرآة جلية لهذه التطورات وتفاعلاتها. إذ أن واشنطن تترفع عن التورط في تفاصيل السياسة اللبنانية، على الرغم من سيطرة حزب الله على القرار اللبناني، ومن مضي الأميركيين في فرض العقوبات عليه. ما تريده واشنطن من العقوبات على حزب الله هو أولاً إمساك العصا من الوسط بين الإيرانيين والعرب. وثانياً إخضاع حزب الله كما إيران لضوابط معينة تؤمن بنوداً متعددة، تبدأ بملف ترسيم الحدود وحماية النفط، ولا تنتهي بحماية أمن إسرائيل. هذا من دون أن يكون لدى واشنطن أي مشكلة في احتفاظ حزب الله بسلاحه. إذ تحول النقاش من السلاح الكامل إلى الصواريخ الدقيقة فقط. وهذا يعني أن واشنطن لا تمانع أن يكون حزب الله هو الوصي على لبنان برعاية إيران، وبناء على التفاهم بين القوى التي لديها مشاريع واضحة في الشرق الأوسط. وكلها تبحث عن شراكة مع الأميركيين، الذين سيبقون ضباط إيقاع وتوازنات وفق ما يلاءم مصالحهم. وهذا سيكون مرعياً عن كثب بوجود الأميركيين في أكبر سفارة على البحر المتوسط يتم تشييدها في لبنان.
المصدر: المدن