وائل السواح
ثمّة جملة من الأمور المتشابكة والمتعارضة تحيط بمتغيرات تشكيل اللجنة الدستورية المكلّفة بصياغة دستور جديد للبلاد وطريقة عملها. أول هذه الأمور أنها فُرضت على السوريين فرضا، فمعظم السوريين، سواءْ أكانوا موالين أم معارضين لم يكونوا يريدونها، كلّ لأسبابه. من جانب، النظام ومواليه لا يريدون لجنة هدفها الرئيس كتابة دستور جديد، لأن ذلك يعني –في ما يعني– أن دستور 2012 ليس مؤاتيا لسوريا الجديدة. ويعرف النظام أن أي دستور جديد، بالمطلق، سوف يقلّص من صلاحيات الرئيس ويخفّف من تسلّط أجهزة المخابرات والأمن، ويخفّف من غلواء طائفيي النظام.
لم يكن السوريون المعارضون للنظام يرغبون أيضا في تشكيل اللجنة الدستورية بالشكل الذي أتت عليه. فهم يريدون تحقيق المبادئ التي أتى بها بيان جنيف 1، وبنده الرئيسي الذي يطالب بتأسيس “هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، تتضمن أعضاء من الحكومة السورية والمعارضة، ويجري تشكيلها على أساس القبول المتبادل من الطرفين.” ويستندون إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي يدعو أولاً إلى حكم ذي “صدقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية،” في خلال ستة أشهر، قبل أن يحدّد “جدولاً زمنياً وعملية لصياغة دستور جديد.” وتريد المعارضة قبل الدستور أيضا إطلاق سراح عشرات ألوف المعتقلين في سجون النظام وكشف مصير مئات ألوف المختفين قسريا. ولكن شيئا من ذلك كلّه لم يحدث، وركزّت المجموعة الدولية وممثل الأمين العام للأمم المتحدة (الحالي والسابق) على تأسيس اللجنة الدستورية، قبل أي شيء آخر.
على أن تشكيل اللجنة ليس نصرا مطلقا للنظام، فمحض تشكيلها بقرار دولي وجعل ممثلي النظام مساوين لممثلي المعارضة في العدد والصلاحيات، ومن ثمّ وجود فريق ثالث من المجتمع المدني، وأخيرا رئاسة اللجنة المشتركة من رئيسين مشاركين، دليل أكيد على أن الخطوة ليست في مصلحة النظام.
بيد أن لا هذا ولا ذلك ينفي أن القرار لم يأتِ استجابة لمطالب السوريين، وإنما حدث على الضدّ من رغبتهم. ولكن انطلاقا من أن اللجنة الدستورية باتت حقيقة واقعة، يجد السوريون أنفسهم أمام خيارات ثلاثة، وعليهم أن يختاروا واحدا منها.
الخيار الأول هو القبول بدخول اللعبة الدستورية ومحاولة إثبات أن النظام هو من سيعرقل عملية كتابة دستور جديد. يفترض هذا الخيار أن يتفق ممثلو المعارضة على النقاط الرئيسية التي سيدور حولها نقاشهم وسيصرّون على وضعها على الطاولة. كما يفترض أيضا أن يقيم ممثلو المعارضة أفضل العلاقات مع الطرف الثالث في فريق إعادة كتابة الدستور، أي ممثلي المجتمع المدني والخبراء الذين اختارتهم الأمم المتحدة، فبينهم أساتذة في القانون منفتحون على التغيير، وبينهم أيضا أشخاص موالون للنظام جزئيا، ينبغي العمل على تحييدهم. بكلمات أخرى، إذا اختار السوريون هذا الخيار، فسيكون شغلهم في السياسة وليس في النشاط الثوري، ولن يكون كلّ من هو ليس معنا خصما وعدوا لنا.
لن يعني هذا بالطبع أن يسلّم ممثلو المعارضة والمجتمع المدني بكل ما يريده المبعوث الخاص غير بيدرسون أو الروس. إنه يعني فقط أن الصراع السياسي قد انتقل من خندق إلى خندق ومن خانة إلى خانة، بما يتطلب ذلك من تبدّل في الأدوات والوسائل. وفي نقاشات اللجنة الدستورية يمكننا وضع كلّ شيء على الطاولة، بما في ذلك شكل الحكم وصلاحيات الرئيس ومدّة حكمه، إلخ.
الخيار الثاني هو رفض الانخراط في اللجنة الدستورية ومحاربتها، مع العلم أن ذلك سيجعل السوريين وحدهم ضدّ الجميع. من البيّن أن العالم كلّه قد اتفق على هذه النقطة، بما في ذلك روسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا والاتحاد الأوروبي. قد يكون هذا الخيار تعبيرا عن النبل والترفّع عن تقديم أي تنازلات مهما صغرت. يفترض هذا الخيار الاستمرار في القتال والصراع السياسي وتحمّل التكلفة البشرية والسياسية والأخلاقية لذلك. يفترض ذلك أيضا شروطا غير الشروط التي تصمّم واقع معارضتنا التي فقدت الأرض والنفوذ السياسي والسمعة الحسنة والرصيد الشعبي ووضعت كلّ أوراقها وكرامتها في سلال الآخرين: تركيا التي تجتاح الآن الشمال السوري وروسيا التي تستعد بصفاقة لاجتياح الشمال الغربي، إضافة إلى القاهرة والرياض وقطر، وعواصم أخرى.
الخيار الثالث أن يجلس السوري في بيته، متخليا عن هذا وذاك، يبحث عن مأوى وعمل وبلد جديد يهاجر إليه، ويؤمن فيه مستقبل أولاده. وهذا حقّ لكلّ إنسان، ولكن السؤال وقتها يبقى ملحا في ضمائرنا وعقولنا وقلوبنا: لماذا إذن خرج من خرج إلى الشارع؟ ولماذا استشهد من استشهد، وعُذِّب من عُذِّب، وهُجِّر من هُجِّر؟
يدّعي النظام أنه قد انتصر، ولكننا نعلم جميعا أنه كاذب. فلا يمكن أن يكون منتصرا من خسر الأرض والشعب والشرف والكرامة، وربح فقط البقاء على كرسي الحكم. بالمقابل، من العدل والحكمة والكرامة أن نقول نحن إننا لم ننتصر أيضا. ومن ثم، قد يكون من الحكمة أن نقبل باللعبة المفروضة علينا، ونحاول أن نجيّرها في مصلحة السوريين جميعا، من خلال التركيز على أن يضمن الدستور المقبل أن الشعب مصدر كلّ سلطة، وأن سيادة القانون وتداول السلطة وحرية التعبير والحريات الفردية والجماعية واللامركزية والمساواة التامة بين النساء والرجال هي المقوّمات الرئيسية لسوريا الجديدة.
لكن الأهم، ربما، هو تأكيد أن أي حلّ سياسي لسوريا يتجاهل مبدأ العدالة والمساءلة هو حلّ سيلد ميتا، وأن من يبحث عن سلام دائم وبلد مستقر وعلاقات إقليمية سليمة لا بدّ أن يضع مبدأ المحاسبة أولا، ولا بدّ من أن ينطلق من أن لا سلام من دون عدالة.
المصدر: بروكار برس