عبد الباسط حمودة
جاء دخول القوات التركية، لتخليص حدودها مع سورية من ميليشيا “قسد” الإرهابية، ضمن ترجمة جديدة لمقاربات وخطــوط تاريخيــة لم يعد من المفيد لتركيا الركون لهـا. لعل ذلك ما يميز هذه المرحلة، كمرحلة انتقالية، من تاريخ منطقتنا العربية وتأثرها بالصراعات والنزاعات والتنافسات التي أخذت منحىً جديدًا ومصيراً جديداً – خاصة مع الربيع الديمقراطي العربي الهـادر – في علاقات القوى كلهــا.
فقد تم، توجيه ضربة قاصمة ولو مرحليـة للمشروع الانفصالي للـ PYD و YPGالإرهابيين التابعين للـ PKK ” الأوجلاني” الإرهـابي الأم، والذي أسسه النافـق حافظ الأسد في ثمانينــات القــرن الماضي ليكون تابـعًا له ولمخابراتـه ولتتوجـه مخالبـه لتركيا وبأيدي مواطنيها، وهو ما دفـع ’’أمريكا‘‘ كمُنسقة لحلف الأقليات للإسراع بالحد من اندفاعـة الهجوم التركي، بعد ركونهـا لكل النتائج السلبية على ثورتنـا وشعبنـا خلال الأستانـات العديدة والسوتشيـات، التي ما كان لها أن تتم لولا المباركة الأميركية، وهـا هو الهجوم التركي قد نال من التأييد والمباركة الأميركية ما جعل منه حقيقة قائمة.
فقـد حملت “قسد” منذ البداية مشروعــاً ’’أوجلانيًا‘‘ غير وطني، يهدف لتقسيم سورية عمليـاً؛ تحالفت من أجله مع الشيطان، بدءً من عمالتهــا لنظام الشبيحة والتعــايش معه، وصولاً إلى التحالف مع أميركا التي خذلتــه. إنه مشروع مناقض للهدف الـذي قامـت الثورة السورية من أجله، وها هم يعودون مرة أخرى لأحضـان تنظيـم الأسد تحت مظلة المشروع الروسي الـذي يُطبخ عبر مسـاوئ اتفـاق “سوتشي” وبمطبخ لجنـة الدســتور.
إن تناقض المواقف تجــاه العمل العسكـري التـركي مع الفصائل العسكريـة السوريـة التي تنضوي تحت قيـاده، ليس مفاجئــاً، ذلك أن مفهــوم الإجمــاع الوطني حـول أي مســـألة ذات صلة بالشأن السوري، مهما كانت جزئية، يكاد يكون معدومـاً للأسف. والذي يعود بشكل جوهري لغياب الفهم المشترك للمسألة الوطنية الأم وغيـاب آليات التفكير المشتركة كخط ناظـم أيضاً للوضع الراهن ومعطياته على سورية أرضـاً وشعبـاً.
لـقـد ثبـت أن جميـع الأطـراف الدوليـة المتصارعـة على الجغرافيـا السورية غير معنية بأوجــاع السوريين بل معنية فقط بمصالحهـا المختلفة التي تعتمد التغييـر الديمغرافي وسياسة التهجيـر لخدمة حلف الأقليات بزعامة اسرائيل – الجسم الغريب عن المنطقة ونسيجه المتعدد – واستدامة مصالحها عبر تعويم هذه الأطراف لنظام الجريمة الأسدي الفاشي مع تجاهلٍ مطلق لما تعني ثورة شعب مقهـور، انتفض بوجه نظامٍ استبدادي متوحّش، وتجاهل مطلق أيضاً لجميع المحدّدات والتداعيات الإنسانية الموجبة لالتفاتة الضمير الإنساني؛ ما يعني أن التنصّل الأخلاقي الأوربي والأميركي، بلّْه العربي والإسلامي، من القضية السورية، تحوّل إلى إذعــان صريح، وموافقة واضحة على أن تتحـوّل الثــورة السوريـة إلى جثـة مقبـورة، وما الاستمرار بذبح السوريين سوى عقـاب لهـم على ما اقترفــوه بحق أنفسهم! حين رأى بعضهم أن الشعب السوري هـو السبب فيما هـو حاصل له من دمـار ومـوت وخـراب! ولا بـد أن يُـترك لمصيـره؛ وهذا ما خططت له زعيمة حلف الأقليات ” المذكورة” عبـر تغذية جميع بواعث (الجوسسة) التي تخـدم مشروعهـا وسرديتهـا التوراتيــة اللاهوتيــة المعاكسـة للتــاريخ والعقــل والمنطق. لقـد بـدأ ذلك حين تم قبول كذبتهـا وتخيلاتهـا حول وجودهـا المُتخيل في فلسطين معــززاً بسرديـة إسلاميـة تقليديـة تدعي الوجـود الكـاذب لأنبيــاء اسرائيل في فلسطين الحالية، بـدل العـودة لحقـائق التـاريخ والتوراة الأصليـة لتبيُّن أن جغرافية التــوراة هي أرض “اليمن” بكل ما تتضمنه، وأن أنبياء بني اسرائيل ” بما فيهم موسى وسليمان والنبي إبراهيم عليهم السلام أيضـاً” لم يعرفوا البحر المتوسط ولا مصر الحاليـة ولا فلسطين الحاليـة ولا نهـر الأردن إطلاقــــاً. هـذا الأمـر دفـع الصهاينة منذ ما قبـل مؤتمر ” بازل” بسويسرا للترويج لتلكـم السرديـة المُتخيلة والكـاذبة، حتى وصلوا لهـذا التقاطــع بالمصـالـح مـع الغــرب، كل الغرب المسيحي، ومـع إيران، للتغلب ديمغرافيـاً على العـرب والمسلمين من خلال تعميـم القتل والتهجير بأربع أرجـاء المنطقـة العربية وخاصـة في الدول المحيطـة بكيانهــا الغــاصب والمُصطنع.
هـذا ما أكـده الدكتور (نبيـل خليفـة) في كتـابه “استهداف أهـل السنة بالمنطقة العربية”؛ اللبناني المسيحي الكاثوليكي، وقالهـا صريحـة بأن الغرب، كل الغرب المسيحي، بما في ذلك روسيا وإيران، يهـدف للتخلص بأكبر قدر ممكن من المسلمين العرب السنة، وكل هـؤلاء تحت حلف الغرب المذكـور للأقليات والمأجـور كله لإسرائيل، ذلك ليس من خلال أي نظـرة طائفية بل من خـلال نظرة واقعية لبعثرة المنطقة؛ والتي بدأت في فلسطين ومن ثم في العراق وفي سوريا الآن. ومازالـت مستمرة بعـد اسقــاط الجــدار العربي السني باحتـلال العراق ضمن مقايضـات إيرانية أميركية غربية تجلت بشكل واضح بالاتفاقيـة النوويـة المشـتركة معهـا لقـاء تسليمهـا العراق ضمن حرب الكبـار ووكلائهـم على الأرض العربية ومبدأ الاستراتيجية الدولية ضمن توجيه وقيادة اسرائيل لكل مفاعيل هـذا المبـدأ منـذ ما بعــد 1976 وخطــوط ” كيسنجر ” الحمـــراء.
الغرب الـذي سمح بالتدخل الإرهابي الإيراني ثم الروسي والميليشيـا، وصولاً إلى الانسحاب الأميركي الأخير، أفقد نفسه أدوات الضغط، ولن يحاول فعل ما كان متاحـاً له فعله بسهولة من قبل؛ نكذب على أنفسنا عندما نهوّل من القوة الغربية وقدرتها على فرض ما تشـاء في أي وقـت، فالغـرب الذي حجب وسائل الدفـاع والحماية، خاصة الدفاع الجوي، عن السوريين وهـم تحت المقتـلة، بدوره التهويل بالقوة الاقتصادية الغربية في غير محله، فسلاح المساهمة في إعادة الإعمـار ينفع مع قـوى سياسية عـاقـلة تُفكـر في مصالـح بلدانهــا، وقـد رأينــا في غير مناسبة فشل سلاح العقوبــات.
مواجهة هذا الواقع المرّ ممكنة رمزياً بمقاطعة ما يتصل به من مفاوضـات ولجـان على شاكلة لجنة الدستور، وإذا كان من أمل لاحق فسيتأتى عبر عجز الأسدية عن استعادة زمنها وسوريـون يجدون أنفسهم بلا خيـار سوى التعلـم من فشل السنوات الماضيــة.
إذ تفقد المنطقة الآمنة الكثير من معناها بوجود عصابـات الأسد، والمصلحـة السورية التركية في إقامة “منطقة خالية من الإرهــاب بمختلف أشكاله ومسميــاتـه” وقـادرة على استقبال مئات الآلاف من المدنيين الهاربيـن من الأسد وأدواتــه الإرهابيــــة.
المصدر: اشراق