د. مايكل ويلتون ترجمة: علاء الدين أبو زينة
في الحالة المثالية، في مختلف المجالات العامة، يخاطب المواطنون بعضهم بعضاً في حوار من الأخذ والرد الحر والمفتوح. وهذا يتطلب ما يمكن أن نسميه “فضائل المحادثة”. ويعني ذلك أنه يجب علينا أن نتعلم احترام الآخر، ويجب أن نعرف كيف نتعلم الملاحة لشق طريقنا عبر الأزمات، وأن نحفر بعمق في تصوراتنا ورغباتنا لتوفير أسباب سليمة لإقناع شركائنا في المحادثة (أو، أن نقتنع نحن، بالمقابل). ويشكل إطلاق الكلمات الصارخة الغاضبة المحملة بالكراهية على المعارضين المتصوَّرين حاضراً شائعاً للغاية في عالمنا المليء بالكلام المتشظي والحوار المحظور. وتمتلئ وسائل التواصل الاجتماعي بالانتقادات المستفزة المهينة، وبالحزبية السياسية المثيرة للجدل وتسود الشتائم والإهانات.
* *
كيف يجب فهم الديمقراطية؟ لا شك في أن هذا سؤال مهم وملح بالتأكيد في هذه الأيام، لأن هناك أدلة تجريبية كبيرة على وجود استياء مستقر عميقاً داخل الديمقراطيات الدستورية الليبرالية، وخيبة أمل وفزع من استمرار الأنظمة الاستبدادية الوحشية في جميع أنحاء العالم. وفي واقع الأمر، إذا كانت “الديمقراطية” تعني أن يكون للمواطنين صوت في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم، فإن الديمقراطية الليبرالية إما في حالة تفكك، أو أنها تعمل كأوليغارشية تحكمها نخب قاسية فظة القلب.
ثمة علماء السياسة الذين يبلغوننا، بطريقة مفزعة حقاً، أن مُدخلات المواطن نادراً ما تكون أساس القرارات السياسية على أي حال. فالمواطنون، كما يقال لنا، هم أقل دراية وأكثر انشغالاً من إمكانية التفاوض بشكل وثيق مع المجموعة الواسعة من القضايا التي تواجه مجتمعاتنا؛ دعوا الأمر للمتخصصين وكونوا سعداء كمستهلكين. وفي النص الرائع، المعنون “بين الوقائع والأعراف” (1996)، يقول هابرماس أن النموذج الليبرالي “يضمن وجود هدف مشترك غير سياسي بشكل أساسي، هو تلبية خطط الحياة الشخصية وتوقعات الأفراد الخاصة بشأن السعادة” (ص 298).
سوف ننظر الآن في أربعة منظِّرين للديمقراطية، بحثاً عن استبصارات نقدية في وضعنا الحالي: غيدينز Giddens في مقالته، “نظريتان للديمقراطية”، في كتاب أ. جيدينز، “ما وراء اليسار واليمين: مستقبل السياسة الراديكالية (1994)؛ وآي آنغوس I. Angus “ما هو النقاش الديمقراطي، الجماهير الناشئة: مقال عن الحركات الاجتماعية والديمقراطية (2001)، وبومان Bohman “مقدمة: التداول والديمقراطية”، في كتاب ج. بومان، “المداولات العامة: التعددية والتعقيد والديمقراطية (1996)؛ وتشامبرز S. Chambers “الخطاب والممارسات الديمقراطية”، في كتاب س. وايت S. White، (محرر)، “دليل كيمبريدج لهابرماس (1995). ويجادل هؤلاء المؤلفون بأن الديمقراطيات الليبرالية تعاني من نقاط ضعف مختلفة وتحتاج إلى الإصلاح.
يتفق هؤلاء المنظّرون جميعاً على أن الديمقراطيات الليبرالية تتميز –رسمياً- بسيادة القانون، وحق التعبير الحر، والحق في الملكية الخاصة، والحق في تكوين الجمعيات السياسية والتصويت. لكنهم لا يعتقدون بأن مجرد تحديد الخصائص الرسمية للنظام السياسي يوفر لنا، ببساطة، تحقُّقاً غنياً حقاً للديمقراطية. وهم وكلهم يضعون الديمقراطية التداولية في معارضة الفهم الأرثوذكسي. ويعتقدون أن “حكم الشعب” الحقيقي يرتبط ارتباطًا وثيقاً بنوعية ومدى النقاش العام. ويهتم غيدينز (1994) بشكل خاص، عالم الاجتماع كما هو حاله، بكيف تتجلى الديمقراطية الحوارية في أربعة مجالات متصلة (الحياة الشخصية؛ والحركات الاجتماعية ومجموعات المساعدة الذاتية؛ والمجالات التنظيمية؛ والنظام العالمي الأكبر). وهو يربط، حُكماً، ممارسة الديمقراطية الحوارية بعلاقات الثقة والالتزام والتضامن. ويركز وحده اهتمامنا على العلاقات الحوارية داخل دوائرنا الأكثر حميمية. فإذا كانت العائلات غير متسامحة وصماء أمام سماع آراء أولادها، فسوف يلتقط الأولاد تعصب الوالدين ومقاومتهما العنيدة للاستماع.
بلغة واضحة وبسيطة، يتجول بنا آنغوس (2001) في داخل معنى النقاش الديمقراطي. وهو يعرب عن القلق، شأنه شأن الآخرين، من أن مؤسساتنا ووسائل إعلامنا القائمة لا تتم حمايتها بشكل كاف من سيطرة النخب. وبالنسبة لآنغوس، يتطلب حكم الشعب –لكي نحكم، يجب أن نشارك في صنع القرار- توفر شروط مسبقة عدة إذا كنا لنتمكن من صياغة الأسئلة التي يجب أن يقرر بشأنها الجمهور. لا يمكننا، حسب قوله، أن نكون خاضعين للقانون فقط؛ يجب أن تكون لدينا “السلطة للتداول وتحديد ما سيكون عليه القانون” (ص 24).
سوف يحصل آنغوس على موافقة قوية من هابرماس حول هذه النقطة. لاتخاذ قرارات جيدة، يحتاج المواطنون إلى كل من الاطلاع (الوصول إلى المعلومات ذات الصلة) وقدرة الوصول إلى الأماكن العامة (الأسواق، والحانات، وزوايا الشوارع، وغرف المعيشة والمجالات العامة من أنواع مختلفة). وهذه مكونات أساسية للديمقراطية التداولية.
أما أطروحة بومان (1996)، فهي الأكثر تعقيداً وصعوبة من بين القراءات الأربعة المختارة. وهو يجول بنا على بعض المناقشات السياسية المعقدة حيث يمكن أن تكون اللغة زلقة للغاية. ومثل الآخرين، يربط بومان إصلاحات المؤسسات الديمقراطية بالتحسينات في التداول. عندما يكون تفكيرنا العملي مشوشاً، أو غير مطلع، أو مفروضاً علينا بالإكراه، سوف تعاني الثقافة السياسية بأكملها. ويساعد بومان، بشكل خاص، في تزويدنا بتعريف أولي للديمقراطية التداولية (الصفحات 4-9). وبالنسبة له، تتضمن هذه الديمقراطية وجود المداولات العامة بشكل أو بآخر، والتشريعات التي يصادق عليها المواطنون الذين سيخضعون لها، ورفض اختزال السياسة وصنع القرار إلى العقلانية الاستراتيجية والأدواتية، والقرارات الجماعية التي تضمن أن تكون مبررة بأسباب معلنة.
ترتاد تشامبرز (1996) مناطق مماثلة لتلك التي ارتادها الآخرون. لكنها تضيف عدة خيوط إلى نسيج فهمنا. إنها تعتقد، مثل الآخرين، أن الديمقراطية الاستطرادية تعتمد على إضفاء الطابع المؤسسي على الشروط المسبقة الضرورية للعمل التواصلي. لكننا سنحصل، إذا تركنا الأمور هناك، على مقاربة مفرطة في الرسمية لبناء عالم هو في أصله قابل للمناقشة. يجب تحفيز الناس على -بل إن لديهم مصلحة في- الانخراط في ديمقراطية التحاور. وبالتالي، تضيف تشامبرز عنصراً مهماً لخريطتنا للديمقراطية التداولية: يجب أن يكون الرجال والنساء قد اكتسبوا عادات المحادثة والتحاور من خلال التنشئة الثقافية والتشجيع الاجتماعي والممارسة الاجتماعية.
كما أنها تثير السؤال وثيق الصلة -والذي دائماً ما يكون حاضراً في أذهان النقاد- حول مدى كفاءة الديمقراطية الاستطرادية (الاستطراد من موضوع إلى موضوع). وردها على هذا الاستعلام حكيم ومقنع؛ حيث يصنع تحليلها للخطاب والمفاوضة في النقاش الدستوري الكندي قضية قوية ضد مجرد السماح للنخب بالتفاوض، والمقايضات، واستخدام مختلف التدابير القسرية لتحقيق غاياتهم. وهي تجادل بأن الديمقراطية الاستطرادية لا يجب أن تقتصر على التجمعات الصغيرة وجهاً لوجه، ولكنها ذات صلة بعمليات التعلم الاجتماعي المعقدة على مستوى الدولة والمستوى الدولي أيضاً.
في الحالة المثالية، في مختلف المجالات العامة، يخاطب المواطنون بعضهم بعضاً في حوار من الأخذ والرد الحر والمفتوح. وهذا يتطلب ما يمكن أن نسميه “فضائل المحادثة”. ويعني ذلك أنه يجب علينا أن نتعلم احترام الآخر، ويجب أن نعرف كيف نتعلم الملاحة لشق طريقنا عبر الأزمات، وأن نحفر بعمق في تصوراتنا ورغباتنا لتوفير أسباب سليمة لإقناع شركائنا في المحادثة (أو، أن نقتنع نحن، بالمقابل). ويشكل إطلاق الكلمات الصارخة الغاضبة المحملة بالكراهية على المعارضين المتصوَّرين حاضراً شائعاً للغاية في عالمنا المليء بالكلام المتشظي والحوار المحظور. وتمتلئ وسائل التواصل الاجتماعي بالانتقادات المستفزة المهينة، وبالحزبية السياسية المثيرة للجدل وتسود الشتائم والإهانات.
يلخص بومان ما يسميه “الإجراء المثالي” للتداول الديمقراطي كما يلي:
شمول جميع المتأثرين بالقرار؛
تتضمن المساواة السياسية الموضوعية والحقيقية فرصة المشاركة في المداولات؛
المساواة في أساليب صنع القرار وفي تحديد جدول الأعمال؛
التبادل الحر والمفتوح للمعلومات وتوفر السبل الكافية لتكوين فهم لكل من القضية المعنية وآراء الآخرين.
المناظرة، المناقشة، والإقناع: هذه هي مادة الديمقراطية التداولية ونظرية التعلم الاجتماعي. وهي تتناقض بحدة مع ما يمر ليشكل مادة لأخبارنا التلفزيونية اليومية: وجوه أناس تصرخ على أولئك قتلوا أطفالهم بالقنابل أو البنادق؛ وحطام سيارات مشوهة يتصاعد منها الدخان خارج مدينة ما في مكان ما. يدرك بومان بدقة أن العديد من المنظرين السياسيين رفضوا فكرة الديمقراطية التداولية، زاعمين أن التطورات التاريخية قد تجاوزتها وحلت محلها، بمعنى أن الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة معقدة للغاية، وتعددية للغاية، وبيروقراطية للغاية بحيث لا تسمح لهذا النوع من مدخلات المواطنين بالعمل. ومع ذلك، فإن هذه الثيمة تردد أصداء أطروحات النقاد الأميركيين في أوائل القرن العشرين، مثل والتر ليبمان الذي أعلن نهاية المواطن النشط في عالم أصبح الآن شديد التعقيد بحيث أصبح الخبراء وحدهم هم القادرون على حل المسائل كلها لنا.
ومن جانبه، يعتقد آنغوس بأن هناك أسباباً وجيهة للقلق بشأن الحالة الراهنة للديمقراطية التمثيلية في المجتمعات الرأسمالية، ناهيك عن جحافل الآخرين الذين يتنكبون ظهور مواطنيهم ويقبضون على العنان. إن قيم المستهلك -الشراء من دون استشارة أحد، ومشاهدة العروض العامة، والارتفاع الكبير في التسويق والإعلان- قد انسربت وتوغلت في تكوين تفكيرنا بشأن المواطنة. وقد أصبحنا نستسلم بسهولة لفكرة أن المواطنة هي مجرد شكل من أشكال الاستهلاكية، ببساطة. وحدي أختار منتجي، ولدى تجميعها معاً، يحدد مجموع الخيارات الفردية قيمة المنتج.
تتجلى فكرة “تراجع الجمهور” الشهيرة، التي أعلنها هابرماس في أوائل الستينيات، في ميلنا إلى تفضيل المنظمات البيروقراطية، واستراتيجيات التسويق، والعروض العامة، والترفيه الجماعي. ومع ذلك، ليست هذه التطورات الأخيرة سوى ميول ونزعات. ويشجعنا آنغوس على بسط الديمقراطية وتوسيعها إلى عوالم الشركات/ الأعمال، والبيروقراطيات الحكومية، والحكومات البلدية. وهذه مهمة ملحة وعاجلة!
تلخص مايفي كوك Maeve Cooke، وهي من أبرز المعلقين على موضوع الديمقراطية التداولية، ونصيرة أيرلندية لنظرية نقدية تحظى ببعض الشهرة، الأطروحات التي يضمها في هذا المقال القصير بدقة. وهي: 1) القوة التعليمية لعملية المداولات العامة؛ 2) قوة توليد المجتمع لعملية المداولات العامة؛ 3) عدالة إجراء المداولات العامة؛ 4) الجودة المعرفية لنتائج المداولات العامة؛ و5) تطابق فكرة السياسة التي تعبر عنها الديمقراطية التداولية مع “من نحن” (“خمس حجج من أجل الديمقراطية التداولية”، مجلة الدراسات السياسية، المجلد 40، 2000).
إننا نحن الأبناء الذين تعرضوا بكثافة للتنوير. ونحن نرى أنفسنا كأشخاص مستقلين يقررون لأنفسهم. ونحن نعلم أنه لا يوجد أي أساس واضح لطلب التوجيه من أحد في عملية صنع القرار. ومعاً، يجب أن نستخدم هذه المبادئ الخمسة للتوصل إلى قرارات تخدم مصلحة جميع المواطنين. من نحن؟ أناس لديهم قدرات عقلانية ووكلاء أخلاقيون. عميقاً في نفوسنا، حفر ميراثنا المستنير مكاناً له واستقر. لا نريد أن يترأس أحد علينا ويخبرنا بما يجب القيام به. كم من الوقت يجب أن يتحكم بنا المترئسون وتُكبَّل رؤوسنا ونؤمر بالجلوس في الزاوية والتزام الهدوء؟
المصدر: (كاونتربنتش) / الغد الأردنية