د. مخلص الصيادي
في مقال سابق بهذا العنوان ختمت الإطلالة بإبراز حقيقة واضحة في هذا الحراك الشعبي الثوري تؤشر إلى خسارة إيران- وأدواتها المحلية – الحاضنة الشعبية في الساحتين معا، وبروز موقف وطني شبه موحد ضد النظام الايراني وسياساته. وضد القوى المرتبطة به محليا على نحو لم يسبق له مثيل.
وكان التساؤل في الختام يتصل بتفسير هذه الظاهرة الجلية التي لا ينكرها إلا أعمى بصيرة وبصر. وتركت الإجابة على التساؤل إلى مقال يأتي في وقت لاحق. وأنا أحاول هنا أن أجيب على ذلك التساؤل، وأن أفسر تلك الظاهرة.
قد يعتبر البعض أن انفضاض الجمع الجماهيري من حول إيران وجماعاتها في العراق ولبنان وقع نتيجة أخطاء في ممارسة القيادة الإيرانية تجاه هذين البلدين، خلال الأزمة الراهنة، أو قبل ذلك، أو نتيجة أخطاء من هذه الجماعات في هذين البلدين، عكست نفسها على هذه الجماعات وعلى الدولة التابعين لها، أو نتيجة سلوكيات شاذة وقع بها قادة هذه الجماعات وكوادرها في مسيرة عملهم السياسي منذ وقت طال أم قصر، أو نتيجة تسلل الفساد إلى أوساط هؤلاء بعد أن باتوا هم المسيطرون على ثروة البلد، أو الموجهون لقدراته.
ولسان حال من يذهب في تفسير الأمر بهذه الأعذار يقول: إن هذا حدث ويحدث، بسبب طول الأمد، وبسبب ضعف الخبرة، وبسبب إغراءات السلطة، ويضيف هؤلاء أننا نستطيع أن نجد أمثلة لهذا الخلل في العديد من تجارب العمل الوطني والثوري على السواء.
وفي التدقيق يتضح سريعا أن هذه الأعذار لا تصمد أمام أي تحليل موضوعي لهذه الظاهرة.
وبغرض تلمس إجابة موضوعية على ذلك التساؤل، فإننا مدعوون لأن نوسع دائرة النظر والرؤية لتغطي ليس فقط جغرافية الحدث السياسية ” ايران ، والعراق ، ولبنان ، ويمكن إضافة دول أخرى، وفي مقدمتها سوريا”، وإنما لتغطي أيضا جبهة الفكر السياسي / الديني الحاكم لهذه القوى مجتمعة، وكذلك جبهة المسار التاريخي الذي حكم العلاقة بين هذه البلدان أو ما مثلته هذه البلدان ، منذ عمق تاريخنا ، وحتى مرحلته الحديثة.
و لا شك أن نقطة البدء في كل ذلك ، تكون في فهم النظام الإيراني الراهن، وعدم إضاعة الوقت أو تشتيت الرؤيا في تتبع مواقف القوى التابعة له في هذه البلدان، فهذه القوى التابعة لا حول لها ولا قوة، هي مجرد توابع لا تملك من أمرها شيئا، وهذا وضع لا تخفيه هي نفسها ، بل إنها تعلنه نهارا جهارا. مؤكدة أن منبع تبعيتها يعود إلى عقيدتها ، إذ تأمرها هذه العقيدة بأن تتبع أوامر وتوجيهات “الولي الفقيه”، فهي في هذا الجانب لا تملك من أمرها شيئا ( نحن هنا لا نناقش هذه العقيدة ، وإنما نثبتها كحقيقة حاكمة للفكر والسلوك السياسي).
وتإكيدا لهذه الزاوية تحديدا أسوق واقعتين لهما الدلالة نفسها.
* فقبل اكثر من عام وعلى شاشة إحدى القنوات العربية كان برنامجا سياسيا يناقش العلاقات الأمريكية الإيرانية، وكان أحد ضيوف البرنامج معمم شيعي عراقي من بغداد ، وكان مقدم البرنامج يضغط للكشف عن وجود علاقات بين البلدين رغم ظواهر الصراع بينهما، الضيف المعمم كان واضحا وصريحا حينما قال : إن موقفنا من أمريكا يستند إلى الموقف الصادر عن الفقيه الولي ، أمريكا عدوة لنا لأن الفقيه الولي قال ذلك ، وفي أي وقت يرى الفقيه الولي أن أمريكا دولة صديقة فإن موففنا يتغير وفقا لذلك.
وعند هذه النقطة بالذات سأل مقدم البرنامج ما إذا هذا الأمر ينسحب من الشيطان الأكبر ” الولايات المتحدة ” إلى الكيان الإسرائيلي، فإن المعمم كان واضح الإجابة. وضوحا لا تشوبه شائبة، إذ أكد أن الموقف من الكيان الاسرائيلي يرتبط بموقف الفقيه الولي، فإذا قال بتحول الموقف من هذا الكيان من العداوة إلى الصداقة فإننا نلتزم هذا الموقف، ولا نناقش في هذا الأمر.
** وقبل أيام تسرب تسجيل بين اثنين من عناصر حزب الله أحدهما نزل الى الساحات مشاركا في الحراك الشعبي، والثاني يدين هذا الحراك وهو ملتزم بموقف الحزب. وكان هذا يعاتب الأول على موقفه، منبها الى ضرورة الالتزام بمواقف الحزب. وكان أهم وأخطر ما قاله هذا الحزبي لرفيقه : علينا أن نلتزم توجيهات الأمين العام. ، لأن هذه التوجيهات ليست مجرد تعليمات حزبية بل نحن نتعبد بهذه التوجيهات .
أي أن الانصياع لها مظهر من مظاهر صدق الإيمان أمام الله مادام الأخذ بهذه التعليمات عبادة . هذه هي طبيعة القوى المحلية التابعة لطهران. وقبل الانتقال الى تحليل الموقف الايراني فإن من المهم استكمالا أن نحدد بعض الخصائص المشتركة لهذه القوى، حتى إذا غادرناها، الى الأصل لا نعود للوقوف عندها مرة أخرى .
والخصائص التي سنقف عليها هنا خصائص باتت واضحة لا تحتاج إلى مزيد بحث وإنما فقط إلى تحديد وتثبيت :
1 – بحكم انتماء هذه القوى للمذهب الشيعي وجعله حاكما لسلوكها وتكوينها السياسي، فإنها لا تمثل إلا جزءا من الشعب / المواطنين ، في كل بلد،. هذا أصل بدهي،
ثم إن الحراك الشعبي الراهن في العراق ولبنان أضاف إلى هذا الأصل حقيقة أن هذه القوى لا تمثل إلا جزءا من الطائفة الشيعية ، أي أنها في حقيقتها أقلية ضمن جزء من البنية الوطنية .
إن مشهد المتظاهرين في مدن العراق التي تصنف باعتبارها ذات أغلبية شيعية، وفيها المراقد والمقدسات الشيعية ، كان مشهدا باهرا. عبر فيه العراقيون ” ومعظمهم شيعة” عن رفضهم لإيران ، ولولاية الفقيه، وللقوى المحلية التابعة لها.
والأمر نفسه في لبنان وإن اختلف في تفاصيله قليلا. وحينما رفع اللبنانيون شعار ” كلن ” أي جميعهم، قالوا آن هذا الشعار يتضمن حسن نصر الله ، أمين عام حزب الله ، وميشيل عون رئيس الجمهورية ، ونبيه بري رئيس مجلس النواب ، وكل الآخرين .
في العراق وفي سوريا ظهر جليا الحجم الجماهيري الحقيقي لهذه الجماعات التابعة لطهران.
فهي جماعات لا تمثل إلا أقلية تتقوى على المكونات الوطنية الأخرى بسلاحها، وباعتماد إيران لها.
2- وبسبب هذه التبعية لطهران فإن العلاقة مع بقية الشعب، بقية المواطنين ، ليست في حساب أي من هذه الجماعات. لا في الإطار الطائفية ، ولا في الإطار الوطني.
ليس من هموم حزب الله أو حركة أمل دعم الطائفة الشيعية كطائفة، وبالتأكيد ليس من همهما دعم المواطن اللبناني والعمل على تلبية احتياجاته.
المسألة عندهما تتمحور في دعم وتأمين احتياجات حزبيهما وجماعتيهما.
والأمر نفسه تماما في العراق، لكن جماعة إيران في العراق يتميزون عن جماعة ايران في لبنان بأنهم جاؤوا على ظهر الدبابات الأمريكية، وأخذوا مواقعهم وسلطتهم من المحتل الأمريكي، ومن الدستور الطائفي الذي وضع أساسه الحاكم الأمريكي بول برايمر.
انعدام الصلة الحقيقة بين هذه الأحزاب وبين الوطن والمواطنين جعلت مكانتهم في الوطن طارئة تفرضها وتحميها القوة الذاتية ” العسكرية ، والمالية “، وبالتالي بات كل شيء في الوطن مباح على طريق تأمين هذه القوة.
لذلك كانت أبواب الفساد ونهب الثروة الوطنية مفتوحا على مصراعيه أمام هذه الأحزاب والجماعات والميليشيات ، ويتحدد مقدار فساد رجالات هذه الجماعات بمقدار مكانة هؤلاء داخل جماعاتهم .
3 -أعطت قضية فلسطين المقدسة مكانة مميزة لحزب الله لفترة طويلة من الزمن، بعد المقاومة المتميزة الذي واجه بها العدو الصهيوني ، على مدى عشرات السنين.
وسجلت هذه المكانة في تاريخ الحزب. وفتحت فلسطين المقدسة قلوب وعقول الأمة العربية جمعاء لهذا الحزب، رغم وضوح بنيته الطائفية من اللحظة الأولى ، قبل أن يتكشف الدور المدمر له في سوريا، حين أوغل بالدم السوري نصرة لنظام الاستبداد والقتل والفساد الطائفي المهيمن على سوريا.
4- وأعطت أمريكا مكانة مميزة للأحزاب الطائفية الشيعية في العراق، وسلمتها السلطة، ورضيت – وجيوشها تحتل العراق- أن تنقل تبعيتها إلى طهران ، فأصبحت واشنطن وطهران راعيتان لهذه الجماعات ، رغم ما يظهر من اختلاف وصراع ببن الطرفين.
5 – والمشهد لا يكتمل على حقيقته إلا برؤية الطرفين الطائفيين التابعين لإيران: الذي كرمته فلسطين بالمكانة التي بات يتمتع بها، وذلك الذي أعطته واشنطن مكانته وسلمته العراق، وهما يقفان يدا واحدة إلى جانب النظام السوري يدعمانه بالمقاتلين، وبالتشكيلات الطائفية التي ارتكبت أخس الأفعال ضد الشعب السوري.
6- رغم اختلاف في بعض مكونات صورة الأحزاب والجماعات الطائفية الشيعية التابعة لايران في لبنان والعراق فإن ” القاسم المشترك الأعظم ” الذي جمعهما سوية على أرض سوريا تمثل في التبعية لايران .
وحين نستحضر هذه الحقيقة، تظهر أمامنا حدود وأحجام وقيمة الخلافات التي تظهر في سلوك هذه الجماعات في كلا البلدين. بل وفي كل البلدان الأخرى.
لنعيد رسم الصورة الخاصة بهذه الأحزاب والقوى:
” إنها قوى طائفية. تمثل جزءا يتآكل بتسارع عال داخل طائفتها، وأقلية داخل وطنها وشعبها، لا علاقة لها بمفهوم الوطن والشعب، ولا صلة لها بمفهوم الوطنية، تفرض نفسها بالقوة العسكرية
وتعتمد على دعم مختلف الأوجه من القوة الخارجية التي تتبعها، وهي تنفذ تماما توجهات وسياسات تلك القوة الخارجية.
بعد تحديد هذه الخصائص للقوى المحلية بات الانتقال إلى تحليل وتفكيك الموقف الإيراني ضرروريا، وهو ما سنبسطه في مقال لاحق.