عمر كوش
يأتي انطلاق الاحتجاجات الإيرانية، في أيامنا هذه، كي يُسطّر حدثاً إقليمياً شديد الأهمية، كونه يأتي في وقتٍ لا يزال فيه الحراك الاحتجاجي للثورة، في كل من العراق ولبنان، يهز أركان نظامي المحاصصة الطائفية السياسية فيهما، اللذين يشكلان ذراعين أخطبوطيين لنظام الملالي الثيوقراطي في إيران، ويشي بأن المشهد الاحتجاجي الجديد سيضع هذا النظام أمام تحدّ غير مسبوق، منذ أن قمع احتجاجات الثورة الخضراء في عام 2009، وراح يتغنّى ببسط نفوذه في كل من العراق وسورية ولبنان، الذي وصل إلى اليمن مع سيطرة الحوثيين على صنعاء.
وليس قرار رفع أسعار البنزين وتقنين توزيعه سوى الشرارة التي أطلقت المظاهرات الاحتجاجية في مختلف المدن الإيرانية، لكن المشهد لم يقتصر عليها، بل امتد إلى إقفال الطرق، وإشعال صور كبير ملالي إيران ووليّهم الفقيه، علي خامنئي، ذلك أن الشعب الإيراني عانى، وما يزال يعاني، من أزماتٍ عديدةٍ ومركّبة، إلى جانب ممارسات القمع والكبت والحرمان، التي طاولت غالبيته الساحقة منذ بداية حكم الخميني وصولاً إلى زمن خامنئي، وبالتالي فإن اتساع رقعة الاحتجاجات يعبر عن حراك شعبي واسع، ضد مرحلة بأكملها، عانى فيها أغلب الإيرانيين من ممارسات نظام الملالي أربعة عقود.
ويمكن القول إن الاحتجاجات الإيرانية جاءت، كي تستكمل أزمة نظام الملالي المتفاقمة، داخلياً وخارجياً، ذلك أن هذا النظام الذي وقف ضد ثورتي الشعبين، العراقي واللبناني، ووقف قبلهما ضد ثورة الشعب السوري، بات يواجه اليوم احتجاجاتٍ داخلية غاضبة، ولا يمكن التكهن بما ستؤول إليه مطالبها وحراكها، لكنها على الأقل توجّه صفعةً إلى غطرسة ساسة النظام ورموزه، وبالتالي من الطبيعي أن يستقبل المحتجون في كل من العراق ولبنان (ومعهم سوريون كثيرون)، الحدث الإيراني بإيجابية، ويسكنهم الأمل والطموح بأن تتطور الاحتجاجات إلى ثورةٍ عارمةٍ ضد هذا النظام، وأن تفضي إلى تغيير سياسي في إيران، لأن ذلك يعني فقدان نظامي المحاصصة الطائفية في كل من لبنان والعراق الداعم الأساسي لهما، ويفضي إلى توقف الدعم للمليشيات الطائفية المعادية للحراك الثوري في البلدين.
دفع ما تشهده إيران من انفجار الحركة الاحتجاجية رموز نظام الملالي ومرشده الأعلى إلى اللجوء إلى نظرية المؤامرة كعادته، واعتماد الحل الأمني من خلال القمع والاعتقال، واستخدام الرصاص الحي بقصد استهداف المحتجين وقتلهم، منذ اليوم الأول للاحتجاجات، فسقط متظاهرون بين قتيل وجريح.
ولم يكتف المرشد خامنئي بتأييد قرار رفع أسعار البنزين وتقنين توزيعه، بل راح يتوعد المحتجين الذين وصفهم بمعارضي الثورة والأعداء، الأمر الذي يكشف أن هذا النظام يستهين بالشعب الإيراني، ويريد أن يحل أزمته الاقتصادية على حساب غالبيته المسحوقة، بغية تأمين عجز نظامه الاقتصادي والمالي الذي يصل إلى نحو 21 مليار دولار سنوياً، نتيجة الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي حلّت به بعد العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة عليه من الإدارة الأميركية، والهادفة إلى إجبار النظام على تقديم تنازلاتٍ في برنامجيه، النووي والصاروخي، وملف تدخلاته ونفوذه الإقليمي. ولذلك بات مصير هذا النظام واستمرار نفوذه الإقليمي مرهونا بالوجهة التي ستمضي إليها الحركة الاحتجاجية، وما يمكن أن تقود إيران إليه.
لقد سعى النظام في طهران، سنواتٍ عديدة، إلى رسم خريطة جديدة للمنطقة، تخدم أجندته المذهبية، القائمة على تصدير الثورة الخمينية، وذلك على حساب حياة الشعب الإيراني ولقمة عيشه. وعلى الرغم من أن احتجاجات الإيرانيين المتعدّدة كانت تلاحقه على الدوام، إلا أنه لم يكترث بها، بل كان يقمعها على الدوام، وباعتبار أن الشعب الإيراني كان الطرف الوحيد الذي يدفع الفاتورة كاملة، جعل ذلك جعل الأسباب الموضوعية توفر بيئةً جاهزةً لانطلاق أي حراك شعبيٍّ ضد ممارسات نظام الملالي وسياساته.
ولعل أهم ما يميز الحركة الاحتجاجية في إيامنا هذه امتدادها السريع إلى أغلب المدن الإيرانية، حيث امتدت أفقياً من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق خلال أيام. وإن كان دافعها الرئيس للخروج إلى الشارع هو الأزمة الاقتصادية التي تعصف بحياة غالبية الإيرانيين، إلا أنها قد لا تتوقف عنده، بل تتجاوزه ماضية إلى الاجتماع والسياسة، في مسعاها إلى تغيير النظام السياسي برمته، خصوصاً أن هذا النظام سعى على الدوام إلى القبض على مفاصل الحكم والدولة في إيران بمختلف الوسائل القمعية والترهيبية. واستند في ذلك إلى العصبية المذهبية، وبراثن لوثة من الشوفينية القومية المنقرضة، بعد أن استبدّت بملاليه نزعتا القوة والغطرسة، من أجل بسط مشروعهم في الهيمنة على المشرق العربي والخليج، وإعادة بناء مجد إمبراطورية فارسية غابرة.
ولم يعِ النظام الإيراني أن الفئات المسحوقة من الشعب الإيراني التي تقود الاحتجاجات في مختلف المدن والمناطق الإيرانية، غير مكترثةٍ بمشاريعه التوسعية وبأذرعه المليشياوية في المنطقة، ولا ببرنامجه النووي وصواريخه والباليستية. ولذلك توجهت شعارات المحتجين بشكل مباشر نحو إسقاط الديكتاتور، ونحو دعمه المليشيات الطائفية في المنطقة، حيث رفعوا شعار “لا غزة ولا لبنان.. روحي فداء إيران”.
الرهان معقود على أن الاحتجاجات ستمضي بعيداً، حيث لن يجدي القمع والترهيب في كبت حراكها، وبالتالي يبرز السؤال عن المدى الذي ستؤول إليه الأوضاع في إيران في المدى المنظور، وعن المآلات التي ستأخذها الاحتجاجات التي ستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، خاصة أن تاريخ نظام الملالي، المستمر أربعة عقود من القمع الوحشي، يفيد بأن التغيير السياسي لن يكون سهلاً.
المصدر: العربي الجديد