حسن بزي
وأنت تستعد للذهاب إلى صور يسارع مارك في هواك بنص من ذاكرة الأيام … عن الصبي الذي لوّن زجاج غرفته بالأزرق كي لا تراه الطائرات “… نفتح شباكنا الغربي فنرى المدينة تغفو على سرير الموج … وتغتسل عند الصباح بماء الفضة … هي على مرمى العين …لكن الدرب بعيد… نشاهد تحولاتها في الفصول …نرقب دخول السفن الكبيرة الى مينائها في النهار … وليلا تضيء قناديل مراكب الصيادين عرض البحر هبطنا اليها بذاكرتنا الزراعية وعيوننا المفتوحة على الدهشة … مزودين بما تهجيناه من كتب القراءة على يد الاستاذ ابراهيم النمر … الناصري الهوى… والفلسطيني الهوية … حيث تكدسنا لضيق الحال من جميع الصفوف في غرفة واحدة في مدرسة المقاصد الخيرية لتعليم ابناء القرى. كانت صور … فاتحة عصر المنافي لصبيّ … بالكاد … تخطى العاشرة … ولم تكن خطواته قد ابتعدت عن فضاء البابونج المنتشر فوق سطوح بيوت الطين افسحت لنا المدينة العيش في غرف السطوح وملحقات الابنية وفتحت لنا الجعفرية ابوابها وكانت آخر عهدها بالأساتذة المصريين … الذين غادروا احتجاجا على خطاب طالب بعثي يتهكم فيه على عبد الناصر الذي يكرر دائما حنحارب …. لأ ابدا حنحارب والجعفرية في ذلك الحين صرح يفيض اناقة وسعة وخليط من الاساتذة والطلاب من مختلف المناطق … والطوائف التي نادرا ما اعرناها اهتمام بعد الانتهاء من الدوام المدرسي يسارع الصبي الى “البوابة الفوقا” ويخفق قلبه عندما تلوح له من بعيد “السلة” التي تصله مع سائق القرية الوحيد الذي يودعها كارج ابو عفريتي … ويستدل عليها من رائحة خبز امه واللبنة البلدية وما تيسر من حواضر البيت ..! . وعندما يستبد به الحنين … يقف على شاطئ البحر فيرى قريته مثل برق على الروح … يتتيع الطريق اليها صعودا من السهل مرورا ب”منازل العرب” على كتف وادي العزية …وقليلا قليلا يصعد على دروب السنديان …الى ان تلوح له شجرة البطم العالية التي تظلل البيوت فتمتلئ روحه بشجن حداءات امه ويبدو له ظل ابيه اعلى من شجرة البطم. اتاحت المدينة للصبية الوافدين من القرى… حرية التجوال في آثارها واسواقها … واقبلوا على قراءة الجرائد في الاندية …ارتادوا دور السينما…. واستسلموا لنعاس اجسادهم في ملوحة البحر وزرقته اللامتناهية … واختلاس النظر الى ما تلألأ من سحر الانوثة فوق الرمال كانت المدينة اكبر من قدرة صبي على استيعاب الاصوات التي اشتبكت على مداخل روحه لتشكل فيما بعد خارطة طريق حياته القلقة في ليالي رمضان يذهب الى نادي الامام الصادق …حيث يقيم الامام الصدر مجالسه … التي تدخل القلب ولا تثقل عليه … يُسرٌ في الدين.. وتباسط في احوال الدنيا … وحضورُ على مثال المدينة في تنوعها … وتبايناتها في النهار يذرع الشوارع الملتهبة بالهتافات الموزعة بين البعث وعبد الناصر … مال قلبه لعبد الناصر رغم حبه ل “أبي تيسير” الذي سبقه على دروب الحرية والذي كان يتأبط دائما جريدة الى الامام … وينشط في صفوف البعث وأذهله في اول عهده بالمظاهرات … أن يسقط ادوار غنيمة شهيدا … وأن تزمجر المجنزرات وتخترق الصفوف لتبعثرها على جوانب الطرقات …. فصار لا يحب العسكر …!! في الخامس من حزيران …. لوّن زجاج غرفته بالأزرق كي لا تراه الطائرات … صدّق صوت العرب … ولم يأبه “لأكاذيب” !!! هنا لندن … لكن ذلك لم يمنع ليل الهزيمة … ولا ” المارد العربي” … من السقوط. فصار لا يحب الحُكّام …!! “