علي العبد الله
لم يكن الحراك الشعبي اللبناني الشامل متوقعا، في ضوء الصورة الذهنية الراسخة عن المجتمع اللبناني، ورزحه تحت هيمنة عائلات سياسية تسوس طوائفها على قاعدة الولاء المطلق، والتوظيف السياسي في المساومات السلطوية، للحصول على حصة في المناصب الحكومية والمال العام في نظامٍ أسس عام 1920 على قاعدة المحاصصة الطائفية بين المسيحيين/ الموارنة والمسلمين/ السُنّة، قبل توسّع قاعدته الطائفية بالاعتراف بثماني عشرة طائفة في الميثاق الوطني اللبناني عام 1943، وتثبيت أركانه، بعد اهتزازها في الحرب الأهلية من 1975 – 1990، في اتفاقية الطائف عام 1989، وبقوانين انتخاباتٍ رئاسيةٍ وبرلمانيةٍ وتعييناتٍ إداريةٍ طائفية، ما حوّل لبنان إلى مزرعةٍ لحفنةٍ من العائلات، وكرّسه بلدا منقسما طائفيا تقوده نخبة سياسية حريصة على تعزيز هذا الانقسام، وتعميق التباعد بين المواطنين، بحيث تبقى الهوة بينهم واسعة وغير قابلة للجسر، كي يبقوا رهائن علاقات الولاء والتبعية لهذه العائلات.
لا تكمن مشكلة النظام اللبناني في الاتفاق التأسيسي الذي أنتج النظام اللبناني لما عُرف بدولة لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي، فقط؛ بل وفي التحولات التي طرأت عليه خلال العقود التالية بعد الاستقلال وقيام الدولة اللبنانية؛ والمزاوجة بين المحاصصة الطائفية، واحتكار عائلاتٍ بعينها التحدّث باسم هذه الطوائف وتمثيلها في مؤسسات الدولة وتثبيت هيمنتها وسيطرتها عبر تأطير أبناء طوائفها في أحزابٍ سياسية، يمينية ويسارية، ومؤسسات اجتماعية طائفية. وهذا أنتج نظاما هجينا يقوم على نمطين متناقضين من العلاقات، علاقات طائفية على مستوى المجتمع، يديرها قادة الطوائف وأحزابهم ومؤسساتهم الاجتماعية، وأخرى سياسية على مستوى الدولة، يديرها رؤساء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والإدارات العامة. علاقات داخل الطوائف تلعب أحزاب الطوائف فيها دور التأطير والضبط والربط والتوجيه والتحكّم بخيارات أبناء الطائفة، وردود أفعالهم وقمع التوجهات الحرة والاستقلالية بينهم عبر العزل الطائفي والمحاصرة السياسية، أو عبر القمع المباشر، وتوظيف ذلك في ضمان استمرار هيمنة هذه العائلات وسيطرتها على طوائفها ونفوذها داخل مؤسسات الدولة. وهذا استدعى استمرار الشحن الطائفي، وشد عصبه من فترةٍ إلى أخرى، وتكريس ظاهرة الاستزلام والارتزاق داخل كل طائفة، والتمييز في معاملة المواطنين في دوائر الدولة ودورتها الاقتصادية، بحسب انتماءاتهم الدينية والمذهبية؛ وانتشار الوساطة وتفشّي المحسوبية والفساد، والبحث عن ظهيرٍ خارجيِّ لتدعيم موقف هذه العائلات سياسيا وماليا؛ والاستقواء به في الصراعات الداخلية؛ تكثفت هذه الممارسة خلال ما عرفت بفترة الوصاية السورية، حيث حرصت النخبة السياسية على التقرب من النظام السوري، والحصول على دعمه وتأييده في تثبيت دورها وتعزيزه، فغدا الاجتماع اللبناني أسير حالة تمايزٍ وتحاجزٍ طائفيين، أدت إلى تكرار الاستعصاءات السياسية والاقتتال الداخلي، ناهيك عن تحول النظام اللبناني إلى ساحةٍ للصراعات الإقليمية والدولية عبر قوى محلية، حروب بالوكالة، وإلى صندوق بريدٍ لتوجيه الرسائل السياسية إلى دول المنطقة والعالم. كانت الحاجة إلى تثبيت الحصص قد لعبت دورا في تفجير الحرب الأهلية الأخيرة، حيث شكل خوف الموارنة من ارتفاع نسبة السُنّة من خلال تجنيس الفلسطينيين/ السُنّة دور الصاعق الذي فجر الحرب، وهي الأطول بين حروبٍ أهلية عرفها لبنان، دمرت البلد واستنزفت طاقاته البشرية والاقتصادية والمالية (تعميد الطائفية بالدم، ضحايا ومعوقون بمئات الآلاف، دمار، تمزق اجتماعي، انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية، الدولار من 3.3 ليرة إلى 1507 ليرات) وعمّقت الانقسام الطائفي، وحفّزت المراقبة والتدقيق والبحث عن ثغرة في التوازنات الطائفية التي تحدّدها النسب السكانية للطوائف، للمطالبة بتعديل الحصص، لدى العائلات والزعامات التي تقود هذه الطوائف، فالنسب السكانية جوهرية في نظام المحاصصة.
نذكّر هنا بما جرى خلال التفاوض على حدود دولة لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي، بين المفوض السامي الجنرال هنري غورو والبطريرك الماروني إلياس الحويك؛ فقد أراد الجنرال، المتعاطف مع الموارنة الكاثوليك، توسيع حدود الدولة الوليدة بحيث تصل إلى تخوم دمشق، لكن البطريرك اعترض على هذا “الكرم” لأنه يتناقض مع تصوره عن لبنان تحت قيادة الموارنة، وأوضح للجنرال أن “كرمه” هذا سيزيد نسبة المسلمين، وهذا سيحد من حصة المسيحيين ودورهم في نظام المحاصصة؛ فاكتفى الجنرال بإضافة البقاع بأقضيته الأربعة: بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا، التي كانت تتبع ولاية دمشق، إلى ولاية بيروت بأقضيتها الخمسة: صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار. وكانت مجلة إيكونوميست البريطانية قد نقلت عن وليد جنبلاط يوم 22/11/2016 قوله: “إن إحصاء جديداً قد يخلّ بترتيب الأمور.. إنها مسألة حساسة جداً. نتيجة إحصاء جديد قد تسبب مشكلات عدة وتغضب بعض شرائح المجتمع. التوترات كثيرة أصلاً بين الشيعة والسُنّة والمسيحيين. التعداد ليس ما نحتاج إليه في هذا الوقت”. ويسعى حزب الله، منذ بعض الوقت، إلى إعادة النظر في الحصص الراهنة، ويعمل على فرض صيغة جديدة تعتمد قاعدة المثالثة: ثلث للمسيحيين وثلث للسُنّة وثلث للشيعة على خلفية ارتفاع نسبة الشيعة بين السكان.
أما العلاقات السياسية التي تديرها السلطات، بمستوياتها العليا والوسطى، في نظام جمهوري شبه رئاسي، كما قضت اتفاقية الطائف، فكانت صورية ومجوّفة بفعل نظام المحاصصة الذي يخترقها، والمجسّد بما تسمى “الديمقراطية التوافقية”، فالرئاسات الثلاث، الجمهورية والبرلمان والحكومة، والنواب والوزراء أسرى انتماءاتهم الطائفية التي كانت وراء وصولهم إلى هذه المناصب، من جهة، ولحاجتهم الماسّة لاستمرار التناغم مع طوائفهم، لضمان بقاء الدعم للاحتفاظ بالمنصب والمكانة السياسية، من جهة ثانية. لقد أستدعى هذا الترابط بين العائلات النافذة وأحزابها الطائفية والمناصب والفوائد المادية تعزيز الطائفية وتماسكها وتكريس التباعد والتنافر بين أبناء الطوائف، ما جعل الاندماج الوطني هشا وشكليا إلى حد كبير، فنظام المحاصصة يتناقض تناقضا حادا مع الجمهورية ونمط اشتغالها، ومع القوانين والبيروقراطية الإدارية؛ ما يؤسس لانهيار الدولة ويحوّلها إلى دولة فاشلة.
أفرزت هذه البنية، والإضافات التي تمت عليها على مر السنين، حالة تصلّب شرايين تحت رعاية وحماية أحزاب سياسية مركبة على الطوائف، تقودها عائلات تتوارث قيادة هذه الطوائف وأحزابها، والتمسّك بالمبررات التي أعطتها حق حيازة الامتيازات والاستئثار بالخيرات. وزاد الطين بلةً أن اتفاقية الطائف التي جاءت بعد حرب أهلية دامية استمرت حوالى العقد ونصف العقد؛ والتي اتفق عليها يوم 30 سبتمبر/ أيلول 1989، بعد مفاوضاتٍ شاقّة شارك فيها 63 نائبا لبنانيا، لم تمس، والكارثة ماثلة، جوهر المحاصصة الطائفية، بل اكتفت بتعديل الحصص في البرلمان: 50% للمسيحيين و50% للمسلمين؛ وتوزيع الصلاحيات بين رئيس الجمهورية المسيحي ورئيس الحكومة السُنّي؛ فتعزّزت المواقع القيادية للزعامات الطائفية؛ وأتاحت للرئاسات الثلاث فرص تعطيل عمل الحكومة؛ وجدوا أن ضعف الحكومة يخدم مصالحهم، فاستثمروا فيه عبر تعقيد تشكيل الحكومة بالتفاوض باستماتة على الوزارات ذات العوائد المادية والخدمية المباشرة، وعلى عقود الإنشاءات والاستثمارات، كي تكون أداتهم في زيادة ثرواتهم، وفي معركتهم للحفاظ على مكانتهم ومواقعهم داخل طوائفهم، عبر استخدام هذه المناصب في تيسير مصالح أبناء الطائفة بالتوظيف أو العلاج وأقساط المدارس والخدمات الأخرى، ما أشاع ظاهرة الشلل السياسي في الحياة الوطنية الذي كشفت عنه مشكلة النفايات. تجدّد الموقف مع حرائق الغابات التي اندلعت أخيرا، وجعل الحكومة غير قادرة على توفير الخدمات الأساسية (الماء والكهرباء طوال الثلاثين سنة الأخيرة)، والاتفاق على الموازنة العامة وموازنة كل وزارة على حدة (في العام 2019، عقد مجلس الوزراء عشرين اجتماعاً قبل أن يتوصّل إلى اتفاق بشأن الموازنة الصيف الفائت)، وإقرار برامج تنمية واستثمارات، ما دفع الشباب اللبناني إلى ترك بلده، والبحث عن بلد يجد فيه فرص عمل وحياة كريمة.
لقد أفرزت المعادلة السياسية القائمة حلقة مفرغة: اقتصاد شبه ريعي وغياب شبه تام للدولة، قاد إلى زيادة اعتماد المواطنين على الخدمات التي يؤمّنها لهم زعماء الطوائف. وهذا أتاح لهؤلاء الزعماء أن يواصلوا الحصول على الدعم من أبناء طوائفهم، كما سمح لهم بالبقاء في السلطة وزيادة ثرواتهم. وهذا أدّى إلى ارتفاع حدّة الفوارق الطبقية. “بيّن توزيع الدخل القومي اللبناني بين عامَي 2005 و2014 أن نسبة 1% الثرية بين اللبنانيين تستحوذ على 25% من الدخل القومي؛ ونسبة الـ 0.1% الأكثر ثراء، وهم النخبة السياسية، وعددهم نحو 3.700 شخص، دخلها يوازي دخل نسبة 50% في أسفل الهرم الاجتماعي، أي نحو مليونَي شخص”. (بتصرف من ويلات اللامساواة، ليديا أسود، مركز كارنيغي للشرق الأوسط:21 /11/2019).
ازدادت حدّة الشرخ بين النخبة السياسية الموسرة والمواطنين الفقراء، خصوصا بعد تعامل النخبة السلبي مع التظاهرات المطلبية التي خرجت في العامين الأخيرين، فاتحد أبناء بيروت والجبل من المسيحيين والسُنّة والدروز مع أبناء صور وبعلبك والهرمل الشيعة وأبناء طرابلس السُنّة وعلويي جبل محسن، وخرجوا يطالبون باستعادة حقوقهم في وطنهم، عبر المطالبة بإسقاط النخبة السياسية، كل النخبة السياسية، “كلّن يعني كلّن”، فالنخبة السياسية تحصل على ثروات طائلة على حسابهم باستثمار تفرقهم وانقسامهم الطائفي الذي حرصت على رعايته وتكريسه وتثبيت أركانه، ما جعل الرد جذريا بالدعوة إلى تغيير شامل، وإسقاط نخبة توزيع المغانم بالدعوة إلى تشكيل دولة مواطنة ومساواة والعيش بكرامة، بعيدا عن المحاصصة الطائفية وكوارثها.
المصدر: العربي الجديد