محمد خليفة
بفيض من مشاعر المحبة والوئام والوحدة التي تجمعنا أحييكم باسمي وباسم زملائي وأخواني في (ملتقى العروبيين السوريين). اسمحوا لي بداية إزجاء الشكر والعرفان لهذه المدينة، باريس التي ثابرت منذ قرن ونيف على منحنا فرص اللقاء في ظلال حريتها الوارفة، كلما احتجنا للاجتماع والبحث في شؤوننا العامة ومستقبل بلادنا.
وأثنّي بالشكر والعرفان للرواد الذين أطلقوا فكرة هذا المؤتمر المهم، وبذلوا جهودهم لتنظيمه وإنجاحه. راجين منهم السعي لترسيخه وترقيته، لأنه يسد حاجة ماسة لنا جميعا كعرب بكل مكوناتهم، في مرحلة تتكثف فيها جهود أعدائنا لدق الأسافين فيما بيننا، لا انتصارا لفريق على فريق، ولكن تدميرا للجميع، وتمزيقا للأمة.
والحقيقة إن كان ثمة ملاحظة ينبغي تسجيلها على هذا المؤتمر فهي أنه تأخر، إذ كان يجب أن يبدأ منذ أن بدأت مخططات التمزيق والتدمير بمعاول الطائفية، التي بدأت باقتلاع اليهود العرب والحاقهم بالمشروع الصهيوني، ثم انتقلت الى اقتلاع مسيحيي فلسطين خدمة لمصالح اسرائيل، ثم اقتلاع مسيحيي العراق وسورية وبقية بلاد الشام. بل شمل المخطط مسيحيي بقية بلدان المنطقة، كتركيا وإيران، وكانت وجهة التهجير غالبا نحو الغرب، كأن المخطط يستهدف تكريس فكرة أن الاسلام دين الشرق، والمسيحية دين الغرب في إطار تقسيم العالم الى ثقافات وحضارات شرقية، وحضارات وثقافات غربية، بينهما صراع أزلي، مع أن الاسلام والمسيحية ديانتان عالميتان انسانيتان بطبيعتهما. والمسيحية كما الإسلام شرقية الأصول، بل وعربية خالصة.
إن المستهدف هنا هو المسيحية والمسيحيون، وكذلك الإسلام والمسلمون. لأنه لا مصلحة للمسلمين في تهجير شركائهم المسيحيين. ولا مصلحة للمسيحيين في مغادرة وطنهم الى الأميركتين وأوروبا. بل هي كارثة انسانية وقومية وحضارية لكليهما، بل أزعم إنها خسارة للعالم أجمع.
واسمحوا لي أن ألفت نظركم الى أن مخطط “التهجير الديني” وتدمير الفسيفساء البشرية لم يتوقف ولم يقتصر على اليهود والمسيحيين، فتطورات المحنة السورية بعد ثورة شعبها المشروعة في سبيل الحرية والتقدم والاصلاح، تخللها تهجير ستة ملايين من الأكثرية السنية العربية، وتوطين غرباء محلهم، مما يثبت أن أعداءنا يستهدفون المسلمين بالتهجير الجماعي كالمسيحيين، لأن غايتهم البعيدة تدمير (الأمة العربية بكل مكوناتها).
أيها الأصدقاء:
إن استهداف أي مكون قومي أو ديني استهداف للجميع، لأن الشرق أصلا ذو كينونة تعددية متنوعة، وكان وما زال – وينبغي أن يبقى- مثالا راقيا ومتحضرا للتعايش والتآخي، والتسامح، والتفاعل الحي. وعلينا اجتثاث (مفهوم الأقلية والأكثرية) في شراكتنا المصيرية، واستبداله بمفهوم دولة المواطنة العصرية الديمقراطية التي تساوى بين مواطنيها في الحقوق والواجبات، كما يجب أن نرفض أنظمة التمييز الطائفي والمحاصصات. وها هي شعوبنا تثور وتضحي بأرواح ودماء شبابها للتحرر من هذه الأنظمة القرو – سطية في لبنان والعراق وسورية.
لقد كان المسيحيون العرب أكثرية في عصر من العصور، وكان المسلمون أقلية، ثم تغيرت المعادلة، ولكن الحقيقة غير القابلة للتغيير أن الفريقين شريكان دائما في الأرض والهواء والماء، وورثة للرسالات الابراهيمية الحنيفية، وكنا معا شركاء في صنع الحضارة، وتعليم العالم دروس التسامح الديني (كما يقول بول كولز) وقاومنا معا الغزو الافرنجي وكل غزو أجنبي، وتعاونا في بناء نماذج قرطبة ومدريد وطليطلة ودمشق وبغداد والقاهرة.
أيها الأخوة:
لا قيمة للمعيار العددي في حساب الأقلية والأكثرية، فالمسيحيون منذ بداية النهضة العربية الحديثة قبل قرنين لعبوا دورا تاريخيا رائدا يفوق وزنهم وحجمهم العددي , فكانوا رواد تيار الإحياء والحداثة , وطلائع التحرر من الاستعمار ومن العصبيات الرجعية الدينية والإثنية والقبلية , وكانوا طلائع العروبة وطلائع تحديثها لغة وأدبا وفكرا , وما زالوا رواد الحداثة والتحرر الفكري والاجتماعي , وفي مقدمة حملة لواء الديمقراطية والدولة المدنية .
وإننا جميعا اليوم مدعوون لمقاومة أخطبوط الأثافي الأربعة: الغزو الأجنبي، الارهاب الديني، أنظمة الاستبداد والفساد، التمثيل الطائفي والمحاصصات. ومدعوون لدعم الثورات الشعبية المدنية في كل بلدان المنطقة، ونشر وتعميم الديمقراطية. ومدعوون معا لتحديث العروبة ودمقرطتها، والعودة لمشروع التقدم العربي المعاصر بمواجهة المشاريع الخارجية والإقليمية الرامية للسيطرة على المنطقة: الاسرائيلية، والصفوية، والعثمانية الجديدة، والروسية، وغيرها، وعلى رأسها مشروع تحالف الأقليات بمواجهة الأكثرية العربية السنية الذي يقوده نظام ايران الثيوقراطي.
اقول هذا أيها الأخوة والأصدقاء وكلي اعتزاز بعملي ضمن ملتقى العروبيين السوريين الذي أخذ على عاتقه منذ ثلاثة أعوام العمل على مراجعة فكرية نقدية جادة لموروثنا القومي والعروبي، والعمل على تجديد العروبة وتحديثها ودمقرطتها، وأرى ذلك سببا وجيها لنتعاون على هذا الصعيد.
أيها السادة والسيدات:
لكل ذلك، ما قلته أنا وما قلتموه أنتم يجب أن لا يكون هذا المؤتمر حدثا عارضا، أو عابرا، بل قاعدة نبني عليها، ومسارا فاعلا، يحمل روح ورياح الثورات الشعبية التي تهب على عالمنا العربي من محيطه الى خليجه.
وفقنا الله وإياكم.. والسلام عليكم.
الكلمة التي أقيت في (المؤتمر المسيحي العربي الأول)
باريس 23 ت2 / نوفمبر 2019
محمد خليفة