د- طلال مصطفى
اتخذ النظام الإيراني، منذ استيلاء الخميني على الحكم عام 1979، استراتيجية تصدير العقيدة الشيعية “الاثني عشرية” إلى المحيط العربي والإسلامي، مستخدمًا الوسائل الناعمة، مثل الدبلوماسية السياسية، الثقافية التعليمية، المشاريع الاقتصادية والخيرية، إضافة إلى الوسائل الخشنة العسكرية، من خلال تأسيس الميليشيات الإرهابية الطائفية لتمارس أدوارًا خارجيّة ذات أبعاد صراعيّة، توسعيّة، داعمة للإرهاب والتطرّف الديني، وبخاصة تطرف العقيدة الشيعية الاثني عشرية، بهدف اكتساب مزيد من فرص التدخل والهيمنة على دول المنطقة.
بداية، كانت الحرب على العراق (1980 – 1988) التي راح ضحيتها أكثر من مليون ونصف المليون إنسان، حيث تبيّن أن أحد أسبابها الرئيسة هي مسألة تصدير العقيدة الشيعية الإيرانية. ومن بعد سقوط نظام صدام حسين على يد الولايات المتحدة الأميركية، أوصل النظام الإيراني القوى العراقية الشيعية الموالية له إلى سدة الحكم، وأسست الميليشيات الشيعية (عصائب أهل الحق، الجيش المهدي، فيلق بدر، الحشد الشعبي) وأكثر من أربعة عشر فصيلًا مسلحًا، حيث انتشرت الأعمال الإرهابية على الهوية المذهبية والطائفية، بهدف تهجير السنّة العرب.
كذلك الأمر في اليمن، حيث أسس النظام الإيراني ميليشيات الحوثي ودعمها بالمال والسلاح، واستضاف عناصرها، الذين دربهم الحرس الثوري الإيراني، ليعودوا فيما بعد قوة مسلحة تثير القلق لليمنين ولدول الجوار. إضافة إلى إثارة الفتنة في جنوب السعودية، حيث الوجود الشيعي العربي. والاستمرار في احتلال الجزر الإماراتية الثلاث: (طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى) بالقوة، ورفضها إجراء مفاوضات حولها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى البحرين، فقد عدّها النظام الإيراني دائمًا من ممتلكاته، حيث أنشأ العديد من المنظمات المستقلة والتابعة له مباشرة، ذات الطابع الأمني والاستخباراتي، وهكذا عملت إيران على إحداث انشقاقات واضطرابات داخل المجتمعات العربية، استنادًا إلى استراتيجية تصدير العقيدة الشيعية الإيرانية إلى الدول العربية، وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الشيعة العرب تاريخيًا في معظم الدول العربية مندمجون مع بقية المذاهب الدينية، وبخاصة المذهب السنّي، حيث لا يعتقدون بما يسمى “ولاية الفقيه”، كما في إيران.
في لبنان، تأسست ميليشيا “حزب الله” عام 1982، على يد الحرس الثوري الإيراني، تحت راية المقاومة إعلاميًا، وفي الواقع مارست أدوارًا عسكرية مذهبية تبعًا للمصالح السياسية الإيرانية، من اغتيالها للشخصيات الفكرية التنويرية في لبنان، إلى قيامها بقتل السوريين على الخلفية المذهبية، في حربها إلى جانب النظام السوري الاستبدادي أثناء ثورة 2011 حتى الآن، حيث ارتكبت العديد من المجازر في سورية، كذلك الأمر أنفق النظام الإيراني في سورية عشرات مليارات الدولارات لإنقاذ النظام السوري من الانهيار، فضلًا عن الخسائر البشرية بآلاف الجنود والضباط، بل أصبح لديه جيش من الميليشيات العسكرية الشيعية في المدن السورية كافة، وصولًا إلى تمثيل النظام السوري في المؤتمرات الإقليمية والدولية سياسيًا، وما مشاركة النظام الإيراني في مؤتمرات أستانا إلا دليل على هذا التمثيل. حيث أعلن أكثر من مسؤول أن إيران لا تهتم بموضوع استمرارية أو عدم استمرارية نظام الأسد في حد ذاته، بل تنظر إلى سورية كـ “هـــدف استراتيـــجي”، لوقوعها في عمق ما يسمى “الهلال الشيعي”، وهو مشروع استعماري توسعي يمتد من العراق (التي يحكمها نظام شيعي موال لإيران)، مرورًا بسورية التي يحكمها نظام استبدادي طائفي يتعامل مع النظام الإيراني كوكيل له في سورية، وصولًا إلى لبنان الذي يتحكم فيه “حزب الله” الشيعي المؤتمر بأمر ولاية الفقيه في إيران، كما صرّح قادته عشرات المرات بذلك.
الانتصار الأهم -بالنسبة إلى النظام الإيراني- في كل من العراق، سورية، لبنان، اليمن، يتمثل في الاختراق الكامل لهذه الأنظمة السياسية، وتحويلها إلى مجرد كيانات سياسية إيرانية داخلها، مثلها مثل أي كيان إداري داخل إيران، حيث تفيد المعلومات (التي لم تعد سريّة) بتخصيص حكومة النظام الإيراني ميزانية ثابتة، يجري صرفها باسم النظام العراقي والسوري و”حزب الله”، في لبنان وميليشيات الحوثيين في اليمن، تشمل كل مصروفات تشغيل هذه الكيانات، حتى تصريف الشؤون العادية، ناهيك عن الموازنات الكبيرة للميليشيات المقاتلة، وكميات الأسلحة والذخائر التي توردها إيران، إضافة إلى استجلاب الميليشيات الشيعية من العديد من البلدان إليها.
سياسة النظام الإيراني في المنطقة العربية جعلت شعوب المنطقة تعدّها الحامي والداعم الرئيس للأنظمة الاستبدادية، وبالتالي كان من الطبيعي أن ينمو الشعور المعادي للنظام الإيراني، إلى جانب معاداة الشعوب أنظمتها الاستبدادية، كجانب من جوانب الرفض الشعبي لهذا التدخل الخارجي، أيًا كان نوعه. فعلى سبيل المثال، العديد من القوى السياسية العراقية التي استجلبها النظام الإيراني إلى العراق، ولا سيّما ذات الطابع الطائفي الشيعي، أبدت استعدادها لتنفيذ رغبات النظام الإيراني، وإن كان على حساب المصالح العراقية، في تغيير الحياة الثقافية والتعليمية والسياسية والأمنية، باطراد دائم. وهذا ما دعا المتظاهرين العراقيين إلى اقتحام مقرّ القنصلية الإيرانية في كربلاء، وإحراقهم صور المرشد الخامنئي، إضافة إلى إحراق مقارّ التنظيمات العسكرية المدعومة من النظام الإيراني داخل قوات الحشد الشعبي، مثل عصائب أهل الحق، ومنظمة بدر، وحركة الأبدال، وغيرها، التي مارست القمع ضد المتظاهرين العراقيين، نيابة عن أجهزة النظام العراقي.
كذلك الأمر في لبنان، حيث يمارس “حزب الله” الموالي للنظام الإيراني سلطته كأداة قمع لمواجهة المتظاهرين اللبنانيين ضد الفساد والنظام الطائفي التحاصصي، وسبق أن ارتكب المجازر بحق السوريين المطالبين بالحرية والكرامة أثناء ثورة 2011. هذا إضافة إلى تجلي النفوذ الديني والثقافي التعليمي، من خلال مشاهدة صور الشخصيات الدينية والسياسية الإيرانية على نطاق واسع في العراق، سورية، لبنان، اليمن، وتأسيس المدارس والجامعات الإيرانية، إضافة إلى الجمعيات الخيرية التي تقدّم المساعدات المالية والغذائية العينية إلى آلاف الأسر، مقابل الانتماء إلى المذهب الاثني عشري الإيراني.
هكذا يمارس النظام الإيراني وميليشياته العسكرية سطوته السياسية والثقافية التعليمية، كأدوات لممارسة القمع والهيمنة في المنطقة العربية، للحيلولة دون سقوط الأنظمة الاستبدادية في (سورية، العراق، لبنان، اليمن) لاعتقاده -وهو محق- بأن سقوط تلك الأنظمة الفاسدة وقيام أنظمة ديمقراطية بدلًا منها، يُعد سقوطًا لمشروعه السياسي العقائدي الديني في المنطقة العربية، لذلك قدّم، وما زال يقدم، كل ما يستطيع تقديمه لبقائها في السلطة.
أيضًا، لا بد من التنبيه إلى أن هذه السياسة الصراعية العدوانية للنظام الإيراني، منذ وصوله إلى الحكم في المنطقة، أدت وستؤدي إلى مزيد من استنزاف الموارد المالية الإيرانية، في دعمها للأنظمة الاستبدادية والميليشيات الطائفية، التي أدت إلى تصاعد حدة الاستياء من قبل الشعوب الإيرانية على المستوى الداخلي، الذي انعكس في تجدد الاحتجاجات الحالية، التي اندلعت بعد قرار الحكومة الإيرانية في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، رفع أسعار البنزين، حيث كان لافتًا أن المتظاهرين حرصوا على الربط بين ما آلت إليه الأزمة الاقتصادية الداخلية، وبين استمرار الدعم المالي لهذه الميليشيات العسكرية والأنظمة الاستبدادية في كل من سورية، العراق، لبنان واليمن، وهذا ما لوحظ في شعارات المتظاهرين الإيرانيين التي تدعو إلى وقف دعمها المالي والعسكري لها.
أخيرًا، طالما أن النظام الإيراني مستمرّ في سياسته العدوانية في المنطقة العربية، بهدف تصدير عقيدته الشيعية، ومساندة الأنظمة الاستبدادية والتنظيمات الطائفية في المنطقة العربية المقاومة لقوى الحرية والتغيير الحقيقي، فإن الشعور الوطني المناهض والمعادي للنظام الإيراني سيتصاعد أكثر فأكثر، في خطاب وشعارات المتظاهرين، في كل من العراق، سورية، لبنان، واليمن.
المصدر: جيرون