جمال الشوفي
لم يتوقف الجدل يوما بين السوريين في كل منعطفات ومسارات السنوات التسع الماضية! فإن كان الجدل والحوار مؤشرا إيجابيا على تنامي موضوعتي الحرية والمواطنة من حيث الاعتراف بحق الرأي من دون خوف أو مواربة، ودليلا على تنامي فضاءات الحرية واتساع مجال الكلمة وأثرها في مسارات الشعوب، إلا أن السلبي الواضح والمفجع إلى اليوم هو أن الجدل ذاته لم يرتق بعد لثالثه المرفوع، بل يرتكس بشكل مطرد انحدارياً لمزيد من محطات العتمة الفكرية كما السياسية، تلك التي تقوم على نزعتي التخوين والرفض الكلي للطرف للآخر، كما عدم التوقف عند نقاط نقدية تشكل مساحة أوسع للحوار واستخلاص النتائج وبالضرورة الممكنات الواقعية حين تتجادل الرؤى وتختلف في ما بينها، مستبدلة مبدأ النفي الكلي المبني على الرأي والرأي الوحيد وفقط وخلافه شر مطلق بضرورة العقل الجمعي والتشاوري المستند إلى الدراسات المدققة والموضوعية.
وتبدو مناسبة الحدث اليوم شائكة جدا، فموضوعة اللجنة الدستورية وآلية العمل الأممية عليها تصب في الموضع ذاته الذي نحاول الوقوف عليه في منهجية الرؤية وآلية عملها أعلاه. اليوم تجد التكرار ذاته في صيغ القبول الكلي باللجنة والتعويل عليها إطلاقياً في الحل السوري الكلي، وفي الطرف الآخر تخوينها وتخوين كل المشاركين بها! فإن كانت هاتان الرؤيتان حدين متطرفين في الحكم، فما بينهما يكاد ينوس ناحية إحداهما من دون الأخرى، سوى بعض الرؤية التي تضيع في زحمة التطرف الفكري هذا، التي تحاول أن ترى ممكنات الواقع اليوم بعد الحالة الكارثية التي آلت إليها الثورة السورية والمسألة السورية بعامها، وهنا السؤال المفصلي وضرورة الجدل المنهجي فيه قبل الوصول للحكم ممر إجباري من ممرات الثورة التاريخية، والتي باتت أقل ما توصف به بالكارثة العالمية الكبرى منذ الحرب العالمية الثانية، والسؤال حق مشروع كما تعدد الإجابات أيضاً.
في سؤال الثورة ومسارتها ونتيجتها اليوم، ثورة الكل المجتمعي، ثورة الشباب التواق للحرية، للإنصاف، للعصرية والحداثة، يحدوه الأمل والحلم بأن يصبح ودولته، دولته ووطنه المستباح عسكرة وأمناً لعقود، وتكفيرا وقيودا دينية ومرجعيات مذهبية متعددة لقرون، أن يصبح دولة المواطنة والدستورية، دولة بمصاف الأمم الحديثة ذات سيادة، والسيادة سيادة الشعب حين يقرر عقده الاجتماعي وهويته الوطنية وشخصيته العمومية (بحسب تعبير روسو) الذي تعبر عنه ولا تستنفده أو تستعبده أو تنفيه. من ثورة “الشعب السوري واحد” ودولة الحق والقانون التي دفعت لأجل تحققها دفعات متتالية من جيل الشباب السوري، حتى باتت مكاتب الأمم المتحدة ومنظماتها تُحجز لها مكاتب وطوابق توثق جرائمها بين ملفات معتقلين ومغيبين قسرياً ومهجرين وأطفال يتامى وبلا تعليم وأعداد متزايدة من القتلى تجاوزت المليون، إلى صراع على السلطة، وليس فقط، بل تنازع إقليمي ومن خلفه دولي على مواقع متقدمة في خريطة العالم الجيوسياسية.
من الثورة للصراع على السلطة مسار متعرج يجب نقده وتفنيده، فتلك الوصفات لم تف بغرض التحليل وبالنتيجة المآل والحال والراهن، والحال الراهن اليوم واضح كلية في تقارير الأمم المتحدة وخلاصة عملها في لجنة دستورية يحاول كل طرف من أطراف المعادلة العالمية فرض سطوته فيها على حساب الآخر ليحرز مكسبه المراد من الكعكة السورية، وبالضرورة من الموقع العالمي الجديد الذي دشنه مؤتمر هيلسنكي العام الماضي حين اعترف ترامب لبوتين وقتها أن روسيا اليوم ندٌ عالمي لكنها ضمنياً ليست قطبا متفردا بذاته كما الاتحاد السوفياتي قبل عام 1989.
الصراع على السلطة لم يأخذ مساره في ما يسمى “أسلمة” وفقط، بل بدا واضحاً في صنوف المعارضة السورية السياسية “الديمقراطية” و”العلمانية” أولاً، حيث تنازع شرعيات التمثيل في محطات الثورة كان الأوضح في مساراتها جميعا لليوم، ولا أحد ينسى صيغتي هيئة التنسيق الوطنية كممثل ل”معارضة الداخل” والمجلس ومن بعده الائتلاف كممثل ل”معارضة الخارج”، تمثيلاً عبثياً، واللتين بقيتا على حدي نقيض، وذلك بغض النظر عن أحقية إحدى الرؤى من غيرها فالحق مسألة نسبية بالمبدأ، حتى أُجبرا على الشراكة في الهيئة العليا للمفاوضات بضغط إقليمي ودولي. “الأسلمة” المتنامية مع نزعة العسكرة والعنف والعنف المضاد لا شك كانت وجهاً من أوجه النزاع على تركة السلطة الموجودة لكنها لم تكن الوجه الوحيد لذلك، بل تعدتها المسألة لنزاع “العلمنة” و”الأقلمة” والتدويل، وبينهما مزيد من التطرف بالعنف الفعلي على أرض واقع لدرجة الحرب والقتل كفيلقي الرحمن وجيش الإسلام بالغوطة، ومزيداً من درجات التخوين اللفظي كل طرف للآخر، وبين هذا وذاك كانت تتنامى نزعتا المنفعية المفرطة في التفريط في الحقوق والسعي خلف مكاسب سياسية وشخصية بين قيادات معظم التيارات السياسية والعسكرية والمدنية وجماع المنصات المتشكلة، وشبهة القول في هذا أن الكل يدعي الأحقية منفرداً حتى يصل لتمثيل ما في موقع متقدم في مسارات الملف السوري وادعائه الحل المنفرد، وليس فقط بل كان الشعب وعامة الشعب في كارثة أخرى ودوامات لا تنتهي بين مطارق السلطة وعنفها ورفضها القبول بأي قرائن على أحقية مظالم البشر وثورتهم واستمرارها الخلط الممنهج بينها وبين نزعات التنامي في هذا النزاع العنيف على السلطة، وبين مطارق المشاريع الفصائلية والإقليمية وضعف التمثيل السياسي والثوري لحقوق الشعب أولاً في المحافل الدولية مقابل البحث عن التمثيل الشكلي في مؤسسات وفصائل تنامت على حساب كل شيء، فبات الكل في كارثة كبرى.
ما يفوت التحليل والنتيجة لليوم هو هذا الاستفراد في ادعاء الحل منفرداً، من دون الوصول لحالة من العقل الجمعي تتدارس الواقع بموضوعية، تستخلص إمكانياته واحتمالاته لا قطعية مساراته المستقبلة والجزم المطلق بنتيجته، والذي جلب الكوارث المتتالية مذ تصور البعض أن التدخل الغربي العسكري، قادم وأن مجلس الأمن سيلجأ لفصله السابع في المسألة السورية فصلا في مسارها، ومذ تصور البعض أن الجهاد والإسلام حل أوحد فالدم مقابل الدم، كما لم يخل البعض من تصور أن الحل قد يأتي على كتفي روسيا أيضاً. وهنا إن كان ثمة أحقية قابلة للتبرير في رؤية خلاف غيرها وقتها وحينها، إلا أنه وبعد مسار عنيف وكارثي ألم نصل لمرحلة نقول فيها إن وقت المراجعة والتوقف على العثرات والأخطاء ومحاولة العودة لنقطة مضيئة نستدل خلفها سبل الحل؟
التخوين فعل قيمي يمارسه العقل الشمولي ذاته الذي حكم سوريا ودول المنطقة عسكرياً وأمنياًـ فعل حاذف ونافٍ للآخر، ونفيه هذا يصل لدرجة القتل والدفن والاستبعاد، بينما الخلاف في الرأي يعد موضوعيا يأخذ الأخر في حقه بالرأي والقول، وما جدل المتخالفات إلا لاستجلاء صورة الواقع من كل زواياه، واستكمال صورته كاملة بلا أوهام أو أحلام أو شبهة ممنهجة في التوجيه لناحية من دون غيرها، واليوم إن كانت اللجنة الدستورية لا يعول العقل الموضوعي علي مخرجاتها كلية بحكم اصطدامها بالواقع المحلي لأجهزة النظام والسلطة التي استفادت من كل هذه التناقضات المحلية أولاً والإقليمية والدولية ثانياً، فهذا حق مشروع بالسؤال، لكنه ليس محط تخوين أو تكفير مرة أخرى. بل الأدعى للقول مرة أخرى لا عودة للخلف والتاريخ لن يعيد تكرار نفسه، والنظام الحاكم ذاته يحاول التملص من استحقاقات اللجنة الدستورية ذاتها بغية إرجاع نصره العسكري لنصر سياسيي يبثه من دمشق، وهذا ما عاد بغير الممكن بظل الموازين الدولية القائمة وتباينها خلف المسألة السورية وطرق حلها، فحتى وإن استطاع إعادة اللجنة لدمشق لن يستطيع حل مشاكل إعادة الأعمار واللاجئين لموقعها لارتباطها عضويا بالملفات الدولية، والأهم من هذا وذاك أن اللجنة الدستورية بحد ذاتها تمثل شكل الصراع الدولي على مواقع النفوذ العالمي بطريقة ناعمة لا صدامية كبرى على أساس سلطة محلية في سوريا ومنها.
الأمان والاستقرار والعيش الكريم خلاصة أي دستور يمكن صياغته في دقائق، لكن عقداً اجتماعياً على هذه الثلاث يتطلب المزيد من الممارسة السياسية والصبر النفسي وترويض الفكر والعقل السياسي على الموضوعية من جهة والتمسك بالثوابت من جهة أخرى أياً كانت النتائج، والثوابت اليوم كما كانت قبل تسع سنوات هي تلك الثلاث مرفوعة على أس الحرية والثورة بالمبدأ، مستبعدة نفي السلطة الأمنية والعسكرية المتغولة وشبهة النفي السياسي المحمول على أداليج النفي الجاهزة المسبقة سلفاً، ولنقل هي الثورة ذاتها على المنظومتين وما تشكلانه من وجهين لعملة واحدة، فالثورة مستمرة وما تأخر نتائجها لليوم إلا للأسباب ذاتها التي واجهتها أصلا وهي محط النقد اللازم والضروري اليوم وكل يوم، ولتكن من بعد هذا اللجنة الدستورية ليست سوى محطة من محطاتها نجحت أو فشلت.
المصدر: بروكار برس