منير الربيع
لا تزال القوى السياسية تنتظر، وهماً أو تخيلاً، نافذة الفرج أن تنبثق من الخارج. مرحلة تمرير الوقت والاستثمار فيه ليست إلا بهدف الرهان على دور غربي، ينتج تسوية تنهي الاحتجاجات وتلجم الانهيار الاقتصادي.
لكن النظرة الدولية تجاه لبنان كبلد تختلف عن نظرتها تجاه القوى السياسية الحاكمة. فمكان لبنان محفوظة بالنسبة إلى بعض الدول، وخصوصاً الأوروبية التي لا تزال مهتمة بعدم وقوعه، بسبب التأثيرات المباشرة لأي انهيار محتمل أو أي فوضى تصيبه. لذلك، تحرّك الفرنسيون سريعاً، وبعدهم البريطانيون، تحت شعار الحفاظ على الاستقرار، وإعادة انتاج حكومة تحاكي تطلعات الناس وتمنع الانهيار.
الشعور بالقرف
ما اكتشفه الديبلوماسيون الغربيون، هو حجم الاهتراء الذي يصيب الطبقة السياسية، التي جعلتهم يشعرون بالاستياء الى حدّ “القرف”، وفق تعبير مصادر ديبلوماسية غربية، إزاء استغراق هذه الطبقة بالحسابات الضيقة والشخصية، التي ينطلق أصحابها منها في حزازاتهم ومناكفاتهم.
لقد ذُهلت هذ المصادر الديبلوماسية من ضحالة هذه “الحسابات”، وكيف أن كل طرف يبحث فقط في تعزيز شروطه وتحسين موقعه إزاء الآخر، والتفكير وحسب في كيفية توفير عودة الحريري وباسيل إلى الحكومة، بينما اللبنانيون في مكان آخر تماماً، والبلد على شفير الانهيار. فكان الدبلوماسيون الغربيون يتحدثون في واد، والمسؤولون في واد آخر.. يبحثون عن عودتهم وكأن شيئاً لم يحدث. وهذا ما أوصل المبادرات حتى الآن إلى طريق مسدود.
لقد حددت الدول المعنية مطالبها بنقطة أساسية، تشكيل حكومة سريعة تلبي طموحات اللبنانيين وتحظى بثقتهم وثقة المجتمع الدولي.
تباين الشروط بين أوروبا وأميركا
ما يريده الديبلوماسيون الغربيون، حسب المصادر، هو تشكيل حكومة اختصاصيين، من دون التورط بأي تفصيل سياسي. ولكن المطلوب حكومة قادرة على معالجة الوضع المالي والاقتصادي. لا يهمّهم من يكون رئيساً لهذه الحكومة، إنما المهم أن ترضي اللبنانيين والمجتمع الدولي. ولا يخفي الديبلوماسيون الأوربيون وجود خلاف في وجهات النظر بينهم وبين الأميركيين. إذ أن الموقف الأوروبي لا يتوقف عند تمثيل حزب الله في الحكومة، وعند مشاريعه وتوجهاته السياسية. بينما الأميركيون يريدون إبعاد الحزب من الحكومة، أو بالحد الأدنى الوصول إلى تفاهم على عدم تدخله بشؤون دول المنطقة ومعاركها، وإرساء حدّ أدنى من التفاهم حول القرار 1701 والصواريخ الدقيقة وترسيم الحدود.
ما ليس واضح دولياً، هو حقيقة الموقف من الوضع الاقتصادي. الدول الأوروبية تود أن تتحاشى مواجهة أي انهيار. لكن الأميركيين لم يعلنوا أي موقف واضح حول ما إذا ما كانوا سيمنعون لبنان من الانهيار أم أنهم لن يكترثوا.. ولو وصل الأمر إلى ما يشبه المجاعة. رغم وجود موقف أميركي آخر، مبدئي ومعروف، يشير إلى حرص شديد على القطاع المصرفي وعلى المؤسسة العسكرية، وعلى منع الانهيار الكامل. وهنا تتحدث المصادر عن وجود اختلاف بوجهات النظر داخل الإدارة الأميركية.. فيعودون إلى قاعدة أن واشنطن لا تجد نفسها معنية بالتفاصيل اللبنانية ولا تريد أن تتدخل.
السخط على باسيل
يعتبر الديبلوماسيون أن الطبقة السياسية مهترئة إلى حدّ عدم اهتمامها بمطالب الناس وصرخاتهم، بل هي تبحث فقط في كيفية استغلال كل ما يجري لتعزيز ظروفها بوجه شركائها. الأمر الذي يجعل الدول غير راغبة بالتدخل أكثر.
أما السخط الأكبر فيظهر على الوزير جبران باسيل، الذي ينال النصيب الأكبر من الانتقاد الدولي، من ديبلوماسيين أميركيين وأوروبيين. وهذا ينعكس على طريقة تعاطي الأميركيين مع السفير اللبناني في واشنطن، الذي يبدو الآن في عزلة. إذ أن رسالة أعضاء الكونغرس للأمين العام للامم المتحدة حول الوضع في جنوب لبنان والقرار 1701، كان يجب أن يطّلع عليها السفير، وهذا لم يحصل. ما يوضح حجم السخط والنبذ. ولا يتوانى بعض الديبلوماسيين عن إنتقاد باسيل بشدّة، بوصفه “المتعجرف والفوقي”، الذي لا يرى أحداً غيره، ويهزؤون من موقف اطلقه سابقاً وكأنه يريد تعليم الأميركيين كيفية إدارة شؤونهم المالية من دون موازنة. معتبرين أن هذا النموذج من التفكير والعمل السياسي لا يؤدي إلا إلى الاصطدام بالجدار. كما حصل في لبنان منذ 17 تشرين، وسط حالة نكران مستمرة يعيشها هو والمسؤولون اللبنانيون.
مؤتمر بودابست
لا يتوقف انتقاد باسيل عند هذا الحدّ، بل هناك من يعرّج على موقفه المعلن في مؤتمر ضد الاضطهاد الديني في هنغاريا (التي تحكمها حكومة من اليمين العنصري المتطرف)، حين اعتبر هؤلاء أن باسيل شارك في “مؤتمر مسيحي” واستغلّه لمهاجمة ثورة شعبية لبنانية تخطت كل الطوائف والحواجز، والمسيحيون فيها أكثر من المسلمين.. فوصل رياؤه إلى حدّ الهجوم على شعبه وعلى المنتفضين عليه. في هذا المشهد، ظهر مدى ضعفه وانفصاله عن الواقع لا سيما عندما قدّم نفسه مخلّصاً للبنان، معلناً أنه يدفع ثمن دفاعه عن اضطهاد المسيحيين سياسياً!!
واعتبر باسيل أن الربيع العربي هو شتاء، أدى إلى تهجير أهالي المنطقة وبخاصة المسيحيين، واستبدالهم بأفواج من اللاجئين. فأوقع نفسه بتناقض وبحال الإنكار المشينة لتهجير ملايين السوريين من غير المسيحيين. بل واعتبر أن الانتفاضة اللبنانية ستتحول إلى شتاء، وتنتهي إلى سواد.
في ختام باسيل لكلمته في هذا المؤتمر قال: “أترككم وأعود إلى وطني لأتابع كفاحي”. ما استوقف بعض المشاركين الذين علّقوا على نرجسية الرجل، بوصف نفسه المخلّص والفادي، والذي أراد إقحام حساباته ومشاكله الداخلية بالمؤتمرات الدولية. وكأنه لا يرى إلا ما يتعلّق به ويدور حوله. معتبرين أنه عندما يشارك مسؤول رفيع في مؤتمر دولي، تقتضي الأعراف الديبلوماسية عدم الإتيان على ذكر الأوضاع والتفاصيل الداخلية في بلده. لكن ما قام به باسيل أثار حفيظة الديبلوماسيين والوزراء المشاركين الذين اعتبروا أن باسيل مهجوس بحساباته الخاصة. وكل ما يريده وما يهتم به يتعلّق فقط بطموحاته. لذلك يستغّل منصة مؤتمر دولي لتلميع صورته، والدفاع عن خياراته السياسية، بذرائع عديدة، دينية وطائفية، لإيهام الناس أنه قائد حرب الوجود والبقاء.
المصدر: المدن