ديميتار بيشيف
تركيا وروسيا.. إنها علاقة معقدة. كان هذا هو وضع العلاقة بين البلدين منذ العديد من السنوات. وكان لنا في الأسبوع الماضي مثال حي على الخلافات المستمرة التي تُحدث شقاقاً بين موسكو وأنقرة، على الرغم من أن الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيّب أردوغان يُظهران حالة ودّ بينهما منذ أكثر من ثلاث سنوات.
اشتكى وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أمام لجنة برلمانية من أن كلاً من روسيا والولايات المتحدة لا تلتزمان باتفاقاتهما مع تركيا بشأن شمالي سورية.
وكان بوتين وأردوغان قد اعتزما في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إبعاد المقاتلين الأكراد السوريين عن المناطق الواقعة إلى شرق وغرب ما تسمى بالمنطقة الآمنة، التي اقتطعها الجيش التركي ووكلائه السوريين. وفي أوائل شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، بدأ الجيشان التركي والروسي تسيير دوريات مشتركة على طول الحدود التركية-السورية. لكن المفاجأة هي أن تركيا تتهم شريكتها الآن بعدم الوفاء بالتزاماتها. وقد هدّد جاويش أوغلو أيضاً بإمكانية تنشيط الهجوم التركي العابر للحدود في شمال سورية من جديد.
وقال أوغلو “إذا لم نحقق أي نتيجة… فإننا سنفعل كل ما يلزم في شمالي سورية”، وتعهد “بالقضاء على خطر الإرهاب في الجوار”.
لسنا في حاجة إلى قول إن كلماته لم تلقَ قبولاً في موسكو. فقد ردّت وزارة الدفاع الروسية بقولها إن التصريحات التركية أثارت دهشتها. وقال المتحدث باسم الوزارة إن “دعوة وزير الخارجية التركي إلى تحرك عسكري من شأنها فقط أن تُصعّد الموقف في شمالي سورية، بدلاً من أن تضع الأمور على المسار الذي حددناه في مذكرة مشتركة وقعها رئيسا كل من روسيا وتركيا”.
وفي اليوم التالي، قال وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، إن السلطات التركية أكدت للسفير الروسي في أنقرة أنها ليست هناك أي عملية عسكرية وشيكة في سورية. فهل كان كل هذا مجرد لغط حول لا شيء؟ الأمر ليس واضحاً.
لكن لدى تركيا سبب يجعلها قلقة بشأن المكاسب التي حققها الروس والحكومة السورية في شمال شرقي سورية. وكانت سياسة حافة الهاوية التي اتبعها أردوغان، ودبلوماسيته في التعامل مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هي التي أخرجت الولايات المتحدة من شمال شرقي سورية. لكن روسيا هي التي جنت الثمار. فقد أُعيدت مساحات كبيرة من الأراضي إلى الحكومة السورية من دون إطلاق رصاصة واحدة. وحصلت تركيا على شريط من الأرض إلى الجنوب من الحدود بطول 120 كيلومتراً وعمق 32 كيلومتراً فقط. وهذه المنطقة تساوي ربع طول مساحة الأرض التي كانت تريدها، من نهر الفرات إلى الحدود مع العراق. وما تزال نقاط استراتيجية، مثل منبج والقامشلي، بعيدة عن مرمى تركيا.
الأمر الثاني، هو أن هناك مناطق رمادية بين المناطق الواقعة تحت السيطرة التركية وسيطرة روسيا/الأسد. ويقترب “الجيش الوطني السوري”، المدعوم من تركيا، وقوات الأسد أيضاً من تل تمر. ولهذه البلدة أهمية استراتيجية، حيث أنها تقع على الطريق السريع “M4” الموازي للحدود السورية التركية. وترغب تركيا في الاستيلاء على هذه البلدة لكي تقطع الطرق التي تربط بين المناطق المختلفة التي ما تزال القوات الكردية السورية تسيطر عليها. ولدى تركيا سبب يجعلها قلقة من المسلحين الأكراد؛ فقد حمّلتهم مسؤولية هجوم بسيارة مفخخة وقع في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) وأودى بحياة ما لا يقل عن 18 شخصاً في محطة الحافلات الموجودة في بلدة الباب الخاضعة للسيطرة التركية في حلب. وهناك احتمال لأن تكون القوات الكردية تحركت، جنباً إلى جنب مع الحكومة السورية، أو على الأقل بعد الحصول على موافقة ضمنية منها.
إذا كان هذا هو واقع الحال، فإن مثل تلك الهجمات في المناطق الثلاث الخاضعة للسيطرة التركية في سورية من الممكن أن تتكرر بوتيرة أكبر. وقد يستغل الأسد الأكرادَ كعصا يقنع بها تركيا بضرورة استعادة العلاقات الرسمية مع حكومته. وتميل روسيا كثيراً إلى تحقيق هذا السيناريو المتمثل في عودة العلاقات الرسمية بين سورية وتركيا.
ثالثاً، ربما يكون صنّاع السياسات الأتراك يشعرون بعدم الراحة بشأن اتساع النفوذ العسكري الروسي على طول حدودهم الجنوبية. وفي الأسبوع قبل الماضي، انتشرت أنباء عن أن الجيش الروسي يقوم بإنشاء قاعدة جديدة في القامشلي، وهي القاعدة الثالثة له بعد حميميم بالقرب من اللاذقية غربي سورية، والقاعدة البحرية في طرطوس.
وقد نفت روسيا هذه الرواية، ووصفتها بأنها نظرية مؤامرة غربية؛ لكن القناة التلفزيونية التابعة لوزارة الدفاع الروسية ذكرت أن عدداً من طائرات الهليكوبتر (بما في ذلك طائرات نقل وأخرى مقاتلة من طراز إم.آي-35) انطلقت من حميميم إلى قاعدة القامشلي الجوية. وما من شك في أن المخابرات العسكرية التركية تراقب هذه التطورات عن كثب. ومن شأن وجود قاعدة جوية روسية ثالثة أن يُميل كفة ميزان القوة العسكرية في سورية لصالح موسكو. وهذا الأمر -بالإضافة إلى زيادة النفوذ العسكري الروسي في القرم، والقاعدة الروسية بالقرب من الحدود التركية في أرمينيا، والانتشار الروسي في سورية- كلها أمور تُثير قلق تركيا.
ولا يعني هذا أن تركيا لا تملك أوراقاً لتلعبها. ويقول المتشككون في نوايا موسكو إن التحركات الروسية في شمال شرقي سورية قد تعزز نفوذ روسيا وتُطيل ذراعها.
منذ أيلول (سبتمبر) 2015، تُحقق روسيا المكاسب مسبقاً، لكن الطاولة قد تنقلب في يوم من الأيام ويتراكم الحساب. وبكون تركيا لاعباً إقليمياً، فإنها تتمتع بالقوة والقدرة على البقاء، ومصلحتها الاستراتيجية في شمالي سورية أكبر وأعمق من مصلحة روسيا. واليوم، يبدو أن الروس هم الذين يفرضون الأمر الواقع على تركيا؛ لكن هذه كله قد يتغير في الغد.
المصدر: (أحوال تركية) الغد الأردنية