حسن فحص
كان من الممكن أن يكون اللواء قاسم سليماني قائداً كغيره من القادة الذين تولوا مسؤوليَّة قيادة فيلق أو قوة القدس، فرع العمليات الخارجيَّة لحرس الثورة الإسلاميَّة، إلا أن تكليفه بهذه المهمة خلفاً للجنرال أحمد وحيدي عام 1998 جاء بعد تصاعد الأزمة الإيرانيَّة مع أفغانستان وسيطرة حركة طالبان على هذا البلد وقتلها 11 دبلوماسياً إيرانياً في مدينة مزار شريف والاختلاف الداخلي بين مراكز القرار في النظام بين معارض أي عمليَّة عسكريَّة انتقاميَّة ضد طالبان مثّله حينها الرئيس الأسبق محمد خاتمي ومؤيد لعمليَّة عسكريَّة كان من المفترض أن توظّف في الصراع الداخلي بين التيار المحافظ والمؤسسة العسكريَّة من جهة والتيار الإصلاحي من جهة أخرى، حسب ما عبّر حينها مساعد وزير الخارجيَّة محسن أمين زاده.
وعندما تولّى سليماني مسؤوليَّة “قوة القدس” أو العمليات الخارجيَّة، لم يكن النفوذ الإيراني قد تحوّل بعدُ إلى مشروع محدد المعالم والعناصر على كامل الساحة الإقليميَّة بما يخدم الهدف الاستراتيجي الذي كان يطمح إليه النظام الإيراني دائماً، فالعمليات الخارجيَّة للحرس كانت تقوم على دعم الفصائل الأفغانيَّة في تحالف الشمال التي قاتلت الوجود السوفييتي وبعدها حركة طالبان، في حين كان التعامل مع الساحة العراقيَّة يتم عبر الجناح العسكري التابع إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلاميَّة بالعراق المعروف باسم “فيلق بدر” قبل أن يتحوّل إلى كيان سياسي مستقل عن المجلس الأعلى يملك ذراعا عسكريَّة.
في حين كان الاستثمار الأكبر والأبرز على الساحة اللبنانيَّة عبر تعزيز وجود حزب الله الذي انتقل من كونه حزباً “متفرغاً” لمواجهة إسرائيل إلى العمل السياسي مع الاحتفاظ على كيانه العسكري بعد توافق إيراني سوري على رعايته وتعزيز مواقعه ودوره في المشروع الإقليمي الإيراني السوري في مواجهة إسرائيل.
وهي المرحلة التي بدأت تشهد استقلاليَّة الحزب التنظيميَّة والسياسيَّة عن الإشراف الإيراني المباشر، وبالتالي الانتقال من حالة الحزب المستلحق إلى حزب أكثر تحرراً فيما يتعلق بآليات اتخاذ القرارات الداخليَّة مع الحفاظ على التنسيق والتنفيذ للرؤيَّة الاستراتيجيَّة التي تضعها طهران ودمشق سوياً.
في حين لم تكن مساحات العمل على الساحة الفلسطينيَّة واضحة، وكانت تتم عبر التنسيق الثلاثي بين طهران ودمشق وحزب الله مع احتفاظ طهران بعلاقات مميزة، خصوصاً مع بعض هذه الفصائل، لكن تحت سقف هذا التنسيق.
الألفيَّة الثانيَّة والتحوّل
يمكن القول إن عام 2000 كان عام التحوّل في مهمات قوة القدس وقائدها سليماني على صعيد المهمات والدور الذي سيقوم به هذا الرجل على الصعيد الإقليمي وتعزيز موقع إيران في المنطقة وترسيخ نفوذها في غرب آسيا.
فقد شكَّلت وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد بدايّة التأسيس لدور فاعل واستراتيجي بين دمشق وطهران، لعب فيه سليماني دوراً محورياً، خصوصاً أنه تولّى مع قوة عسكريَّة تحت قيادته تأمين انتقال سلس لمقاليد الحكم إلى الابن الرئيس بشار الأسد، وهي المرحلة التي شكّلت تغيراً في استراتيجيَّة العلاقة بين طهران ودمشق، فبعد أن كانت دمشق تشكّل حاجة لإيران ونظامها تساعدها على كسر العزلة العربيَّة والدوليَّة حولها، إلا أن مرحلة ما بعد وفاة الأسد الأب تحوّلت حاجة طهران لدمشق التي باتت بحاجة إلى من يساعد على تدعيم النظام الذي بات يواجه تحديات كثيرة داخليَّة وإقليميَّة.
وقد أسست هذه العلاقة الجديدة بين الطرفين، إلى استعادة طهران الاستثمار في الإنجاز الذي تحقق في لبنان بانسحاب القوات الإسرائيليَّة من جميع المناطق المحتلة في لبنان باستثناء مزارع شبعا وكفرشوبا، بعد أن شكّل الأسد الأب حائلاً أمام هذا الأمر، ووضع الإنجاز في خانة انتصاراته في معاركه مع إسرائيل.
واستطاعت طهران عبر سليماني والقوة التي يترأسها إطلاق عمليَّة بناء منظومة عسكريَّة متقدمة على الحدود الجنوبيَّة للبنان في مواجهة الجيش الإسرائيلي، من خلال الاستثمار في تعزيز قدرات حزب الله الصاروخيَّة والقتاليَّة ورفع حجم ترسانته العسكريَّة إلى مستويات عاليَّة استعداداً لتوظيفها في مشروع الصراع بينها وإسرائيل، وهو ما برز لاحقاً في حرب تموز 2006 التي لعب فيها سليماني دوراً محورياً إلى جانب قيادة حزب الله وأمينه العام ومسؤوله العسكري الذي اغتالته إسرائيل لاحقاً عماد مغنية.
لم تتأخر الولايات المتحدة برئاسة جورج دبليو بوش في تحريك جيوشها لاحتلال أفغانستان بهدف القضاء على تنظيم القاعدة وإخراج حركة طالبان من السلطة تحت شعار الإرهاب الذي قام بتفجير برجي التجارة العالميَّة في نيويورك ومبنى البنتاغون.
واستطاعت إيران استغلال هذه الفرصة التي بدأتها واشنطن أواخر عام 2001 التي سمحت لها بالتخلص من تهديد دائم على خاصرتها الشرقيَّة غير قادرة على التعامل معه والحد من تهديداته، فكان أن تولت “قوة القدس” بقيادة سليماني عمليَّة الدفع بحلفائها الأفغان في تحالف الشمال بقيادة برهان الدين رباني لتكون القوة الميدانيَّة التي تحركت باتجاه العمق الأفغاني والعاصمة كابول بغطاء جوي أميركي للقضاء على طالبان ما مكّنها عبر هؤلاء الحلفاء أن تكون شريكاً أساسياً في التركيبة الجديدة الأفغانيَّة بالتفاهم مع واشنطن.
الخدمات الأميركيَّة المجانيَّة استمرت عندما قرر الرئيس بوش عام 2003 احتلال العراق والقضاء على نظام صدام حسين، إذ شكّل هذا القرار فرصة لإيران للتخلص من النظام العراقي الذي خاضت معه حرباً ضروساً استمرت ثمانيَّة أعوام من دون أن تكون قادرة على تحقيق انتصار، وانتهت بإعلان الزعيم الإيراني آية الله الخميني بأنه “سيتجرع كأس السم” عند إعلان بلاده الموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 القاضي بوقف إطلاق النار بين إيران والعراق وإنهاء حالة الحرب بينهما.
وهنا أعاد سليماني وحرس الثورة تفعيل العلاقة مع الفصائل والأحزاب العراقيَّة الإسلاميَّة التي كانت موجودة في إيران، خصوصاً “فيلق بدر” الذي يعتبر الذراع العسكريَّة لهذه المعارضة بإشراف قوة القدس الذي تولى قيادته بداية أبو مهدي المهندس (جمال جعفر)، ولاحقاً هادي العامري الذي شكّل القوة الإيرانيَّة التي دخلت إلى الأراضي العراقيَّة من الجهة الإيرانيَّة في منطقة عمليات القوات البريطانيَّة في جنوب العراق والبصرة، ليؤسس بالتالي بداية الدور والنفوذ الإيراني بالعراق الجديد في ظل الاحتلال الأميركي.
واستطاع سليماني تحويل الساحة العراقيَّة خلال الفترة الممتدة من عام 2003 إلى عام 2011 إلى ساحة استنزاف للقوات الأميركيَّة وعرقلة أي مشروع لدى واشنطن قد يستهدف توجيه ضربة للنظام الإيراني وحتى تهديد النظام السوري الحليف، واستطاع سليماني خلال هذه المدة بناء وإنشاء جماعات عراقيَّة مسلحة تدين بالولاء لإيران أو رعايَّة أخرى لا تتعارض في أهدافها مع الأهداف الإيرانيَّة.
ولم يقتصر نفوذه على الساحة الشيعيَّة، بل استطاع تحقيق اختراقات واضحة على الساحتين السُّنيَّة والكرديَّة وبناء شبكة مصالح متبادلة مع هذه الجماعات في إطار المصالح الاستراتيجيَّة للنظام الإيراني، ما ساعد طهران على اعتماد سياسة ملء الفراغ بالتقدم في الوقت الذي كانت الإدارة الأميركيَّة تعمل على خطة الانسحاب من المستنقع العراقي. ليتحول بعدها سليماني إلى صاحب القرار الأول في تحديد مسارات السلطة في العراق وتعيين الرئاسات والسياسات في هذا البلد.
سليماني والانتفاضات العربيَّة
لعل التحدي الأكبر الذي واجهه النظام الإيراني مع بداية العقد الثاني من الألفيَّة الثانيَّة ما شهده كثير من الدول العربيَّة من انتفاضات شعبيَّة أدت إلى إحداث تغييرات في أنظمة الحكم فيها، خصوصاً أن الاتجاهات التي ذهبت إليها هذه الانتفاضات أربكت الحسابات الإيرانيَّة بين أن تتعامل معها كحركات وطنيَّة اعتراضيَّة أو حركات إسلاميَّة تصب في إطار المشروع الإيراني في تعميم النموذج الإيراني، وبالتالي استئناف شعار تصدير الثورة.
وأمام دعمها هذه الانتفاضات والوقوف إلى جانبها على الأقل إعلامياً، كانت المفاجأة انفجار الساحة السوريَّة ضد النظام الذي يقوده حليفها بشار الأسد، إذ اعتبرت ما تشهده الساحة السوريَّة يستهدف الوجود والدور الإيراني بالمنطقة العربيَّة، وأن مواجهة تحرك الشعب السوري ودعم النظام يصب في إطار الدفاع عن الذات، كما عبّر حينها المرشد الأعلى عندما اعتبر الدفاع عن دمشق بمثابة الدفاع عن طهران.
وهنا برز دور سليماني في ترجمة الجهود التي بذلها ووظّفها على مساحة عمل القوة التي يقودها تحشيدها من أجل الدفاع عن النظام السوري، فكان أن استقدم فصائل مقاتلة من باكستان وأفغانستان والعراق، إضافة إلى مشاركة حزب الله اللبناني، انطلاقاً من رؤيَّة استراتيجيَّة تعتقد بأهميَّة موقع سوريا في المحور الذي تقوده إيران.
وتزامنت الأحداث السوريَّة وارتفاع دور سليماني وقدرته عبر الفصائل التي حشدها للقتال إلى جانب النظام على تغيير المعادلة الأمنيَّة والعسكريَّة لصالح النظام، تزامن هذا الأمر مع ظهور تنظيم (داعش) في العراق وسيطرته على المحافظات الغربيَّة وتمدده في سوريا، ما ساعده على الربط بين الساحتين من خلال الدخول المباشر على خط المواجهة مع هذا التنظيم، والزج بضباط وعناصر من قوة القدس وحرس الثورة تحت عنوان مستشارين عسكريين.
في الوقت نفسه عمل سليماني على تعزيز دور ونفوذ الفصائل العراقيَّة المواليَّة لإيران من بوابة إدخالها في منظومة الحشد الشعبي الذي تشكّل بناء على فتوى المرجعيَّة للجهاد الكفائي ضد داعش. ومن هذا الباب تحوّل سليماني إلى الشخصيَّة التي تملك مفاتيح الحل والعقد في العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.
سليماني والمشروع الإيراني
يبدو غريباً على الحياة السياسيَّة في النظام الإيراني أن يحتل مسؤول عسكري هذا الموقع المؤثر، وأن يكون له دور أساسي ومفصلي في العمليَّة السياسيَّة كما هو الحال مع سليماني، فطالما عرف النظام أنه لا يخرج عن المحددات التي تمنع من تنامي شعبيَّة ونفوذ وتأثير أي شخصيَّة مدنيَّة أو عسكريَّة قطعاً للطريق على احتمالات تستبطن خطر مواجهة انقلاب سياسي أو عسكري بناءً على تجارب سابقة كان يتم فيها تضخيم دور مثل هذه الشخصيات التي أسست للانقلاب على النظام القائم أو التحكم بمساراته مع الإبقاء عليه.
أهميَّة سليماني لدى قيادة النظام الإيراني وتحديداً لدى المرشد الأعلى تكمن في الإنجازات التي حققها في إطار الاستراتيجيَّة الإيرانيَّة الإقليميَّة، خصوصاً في قيادته وإدارته الملفات الأساسيَّة من فلسطين ولبنان وسوريا مروراً بالعراق وصولاً إلى اليمن والبحرين وتالياً أفغانستان، ما جعله رأس المشروع الإيراني في المنطقة.
ووضع سليماني في موقع “الشخصيَّة الثانيَّة” في هرميَّة التأثير والقرار في النظام الإيراني بعد المرشد متقدماً على رؤساء السلطات الثلاث (التنفيذيَّة والتشريعيَّة والقضائيَّة)، ما سمح له بلعب دور في ترتيب البيت الداخلي السياسي للنظام، وحل بعض الأزمات التي نتجت عن بعض التباينات بين السلطة التنفيذيَّة بقيادة الرئيس حسن روحاني وقيادة المؤسسة العسكريَّة لحرس الثورة، فضلاً عن دوره في التخفيف من حدة الأزمة التي تسببت بها استقالة وزير الخارجيَّة محمد جواد ظريف اعتراضاً على استبعاد وزارته من الزيارة التي رتّبها ونظمها سليماني للرئيس السوري إلى طهران من خارج الأطر الرسميَّة المُفترض أن تكون متبعة في أي دولة تلتزم العمل المؤسساتي. ثم التدخل دعماً لظريف في مواجهة حملة التخوين التي تعرّض لها بعد قرار الرئيس الأميركي الانسحاب من الاتفاق النووي والعودة إلى فرض العقوبات الاقتصاديَّة واتهامه بالعمالة للأعداء.
الضربة التي تلقاها النظام الإيراني خصوصاً المرشد الأعلى باستهداف سليماني وقتله على يد القوات الأميركيَّة في العراق، يمكن القول إنها ضربة أصابت المشروع الإيراني الإقليمي في الصميم، خصوصاً أن إدارة هذا المشروع والتحكم به كانت محصورة في قناة ثنائيَّة بينه والمرشد الأعلى فيما المؤسسات الأخرى حتى العسكريَّة تقوم على تنفيذ ما يتفق عليه هذان الشخصان، من هنا يمكن فهم الموقف المتشدد الذي اتخذه المرشد في الاجتماع الطارئ الذي عقده المجلس الأعلى للأمن القومي بكامل أعضائه الذي شارك فيه خامنئي في سابقة لم تحدث من قبل، والطلب الواضح والمختصر والحازم الذي توجّه به إلى المجتمعين بضرورة البحث عن آليَّة للرد الإيراني على مقتل سليماني يكون قاسياً ومؤلماً، ما يعني أن هذه العمليَّة أصابت المرشد والنظام في الصميم، وهزت بشدة القوة الإيرانيَّة وما تملكها من قدرة على التلاعب في ملفات الإقليم.
المصدر: إندبندنت عربية