عبد الباسط سيدا
ما يستشف من قتل قاسم سليماني هو أن المايسترو الأمريكي هو الذي يحدد الأدوار، ويرسم الخطوط، ويلونها بمختلف الألوان في منطقتنا.
سياسة وإجراءات الحد من النفوذ الإيراني كانت قد بدأت منذ إلغاء الرئيس الأمريكي ترامب الاتفاق النووي مع الجانب الإيراني من طرف واحد في أيار/مايو 2018. تلك الاتفاقية التي اعتبرها أوباما ذروة انجازاته؛ وأشاد من أجل بلوغها بالإرهاب “الشيعي المنضبط”، مقابل رفضه للإرهاب “السني المنفلت”. كما أسهم الأوروبيون بكل دبلوماسيتهم من أجل توفير أجواء الدلال والرخاء لوزير خارجية إيران جواد ظريف، حتى يقنع نظام ولي الفقيه بأهمية الموافقة على الاتفاقية المشار إليها. ولا نعلم ما هو شعور الأوروبيين اليوم بعد أن شاهدوا بعيونهم المجردة عملية إسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية، وقتل جميع ركابها وأفراد طاقمها الـ 176 بالصواريخ الإيرانية، وتنصل الوزير الظريف من مسؤولية تحمل نتائج الحادثة، وكأنه يعمل وزيراً لخارجية جناح معين من النظام الإيراني، وذلك في لعبة تبادل الأدوار بين “الإصلاحيين” والمتشددين. ولكن عند المنعطفات المصيرية يتبين باستمرار أن أكذوبة وجود تيار إصلاحي ضمن النظام الإيراني إنما هو للتضليل ليس إلا، وأن الحديث عن هذا التيار إنما هو مجرد أداة من أدوات استمرارية النظام.
كما أننا لا نعلم ما إذا كان الأوروبيون في موقع القادر راهناً على تخيّل ما كان النظام الإيراني سيقوم به لو امتلك السلاح النووي، الذي كان وما زال هدف النظام المعني، وهذا ما أكده روحاني بنفسه، وهو الذي من المفروض أن يكون من الإصلاحيين المزعومين، وذلك حينما بيّن انتفاء أية قيود من شأنها الحد من نشاطات إيران النووية. هذا في حين أن ظريف يتحدث عن المبادئ الأخلاقية والقانونية، وهو الذي تسببت بلاده تخطيطاً وتنفيذاً، ودعماً وتوجيهاً في تخريب دول المنطقة وقتل مئات الآلاف، وتشريد الملايين، وتدمير الحاضرات التاريخية. وهو الذي أعلن بنفسه كيف أن نظامه كذب على الإيرانيين وعلى العالم في موضوع إسقاط الطائرة الأوكرانية. ودائماً سوريا هي المثال الأكثر إدانة لنظام ولي الفقيه الذي يخدمه ظريف.
الدور الإيراني، ودور قاسم سليماني تحديداً، في المنطقة، خاصة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، لم يكن بعيداً في أي يوم من الأيام عن سياسة الاحتواء التي اعتمدتها الولايات المتحدة في تعاملها مع دول المنطقة بتبايناتها وتناقضاتها. وقد أدى هذا الدور إلى تدمير دول المنطقة ومجتمعاتها، ودفع بها قروناً نحو الوراء، سواء على المستوى الفكري والأيديولوجي، أم على المستوى المادي المتمثل في البنية المجتمعية والجانب العمراني.
فالولايات المتحدة الأمريكية كانت تستخدم النظام الإيراني ضمن سياق حفاظها على معادلاتها التوازنية الخاصة بها في المنطقة. وكان النظام الإيراني يدرك من جهته ماهية دوره، ويعرف حدود مساحة حرية الحركة المتاحة له. ولكنه كان يعمل بمختلف الأساليب من أجل التغلغل إلى مفاصل الدول والمجتمعات التي هيمن عليها، وتبجح عبر مسؤوليه في أكثر من مناسبة بسيطرته على أربع عواصم عربية، وتحكّمه بكل الأمور فيها، سواء الكبيرة أم الصغيرة منها.
لقد اعتمد النظام الإيراني استراتيجية استغلال المظلومية الشيعية، (لأسباب لسنا بصدد تناولها هنا) في المنطقة لتأمين وسيلة التغلغل ضمن مجتمعاتها، لتكون مستقبلاً ساحة المواجهة وتصفية الحسابات بينه وبين الجانب الأمريكي، وذلك لتيقّنه من قدوم ساعة التصادم. كما أنه استخدم “نجاحاته” الخارجية لتكون وسيلة لإسكات الداخل الإيراني وترويعه، وتخديره بسياسة ضرورة ترتيب الأولويات، وإعطاء الأهمية للقضايا “الكبرى المصيرية” مقابل القضايا الحياتية التي ينبغي تأجيل البت فيها، طالما أن هناك “صراعا وجوديا” مع “الشيطان الأكبر”.
لقد بدا النظام الإيراني يوسع من دائرة انتشاره في المنطقة عبر الجهود الدعوية التبشيرية من خلال المراكز الثقافية والإرساليات والتفاهم مع نظام حافظ الأسد، وذلك في كل من سوريا ولبنان. كما استفاد النظام المعني من واقع الفراغ الذي كان في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين هناك. كما أنه استغل ظروف لبنان، واختلاف الفرقاء فيه، ونسق مع نظام حافظ الأسد، وشكل حزب الله هناك الذي سُلِّم ملف المقاومة المزعومة، وسط صمت، بل ومباركة، العديد من الفصائل والقوى التي كانت وما زالت تدعي التقدمية واليسارية، والعلمانية وكانت، وما زالت، تعتبر نفسها المرجعية في الميدان الوطني.
ولم يكتف النظام الإيراني بتشكيل الميليشيات التي غدت نتيجة الدعم اللامحدود أقوى من جيوش الأنظمة التابعة لنظام ولي الفقيه؛ بل اعتمد استراتيجية السيطرة على المؤسسات المدنية للدولة، رغم شكليتها، وذلك بهدف شرعنة ميليشياته، وتحويلها إلى جزء من المنظومة العسكرية الدفاعية التابعة للدولة الخاضعة أصلاً، لتحصل على التمويل والسلاح والتغطية القانونية، وتبقى الأوامر والتعليمات والقرارات بيد نظام ولي الفقيه.
وهكذا، وبقدرة قادر، تحولت الميليشيات إلى أحزاب سياسية، ودخلت البرلمان في كل من لبنان والعراق، وغدت قوى أساسية مؤثرة، ترسم السياسات، وتعين الرؤساء، وتمارس التهديد العلني المكشوف وسيلة لإرغام الخصوم والمخالفين.
وكان المهندس لكل ذلك هو قاسم سليماني، وبصلاحيات شبه مطلقة من جانب “ولي الفقيه” نفسه. لقد كان سليماني حاضراً في مختلف المناسبات، يحرص على إظهار صوره، وتثبيت حضوره في الميادين. يلتقي مع زعماء وقيادات مختلف القوى السياسية. ينسق بصورة مباشرة مع الروس، وبطرق غير مباشرة مع الأمريكيين وحتى مع الإسرائيليين. ويعتقد جازماً بأن الأوراق التي حصّلها على مدى عقود تمنحه امكانية خرق، أو تجاوز الخطوط الحمراء، ولو نسبياً.
إلا أن اندلاع الاحتجاجات الشعبية في العراق ولبنان وإيران نفسها، وتحرك القوى الشعبية في الوسط الشيعي الوطني العراقي، ومطالبتها بضرورة وضع حد للتدخل الإيراني الشمولي في العراق، قد دفع بالنظام الإيراني نحو التصعيد، وتجاوز حدود المسوح به ضمن إطار سياسة التنسيق الاضطراري مع الولايات المتحدة التي بدأت في العراق منذ عام 2003. فكان الهجوم الإيراني عبر ميليشيات الحشد الشعبي على السفارة الأمريكية في بغداد. وكان لافتاً تصدّر قيادات الحشد من الصف الأول، ومن جميع الفصائل، التابعة مباشرة للنظام الإيراني في عملية الهجوم على السفارة المعنية التي تعتبرها الولايات المتحدة رمزاً من رموز نفوذها وهيبتها في المنطقة؛ لذلك كان لا بد من الرد، وذلك بعد سلسلة من الردود الخجولة على الاعتداءات الإيرانية السابقة سواء على الأمريكيين أم على حلفائهم.
وجاء الرد الأمريكي صاعقا هذه المرة، وتمثل في قتل رمز الهيبة الإيرانية قاسم سليماني وعدد من المقربين منه في الحرس الثورة الإيراني وميليشيا الحشد الشعبي العراقي.
وكعادته، هدّد النظام الإيراني، وتوعد وعلى أعلى المستويات برد مزلزل. ولكن الذي حصل هو أن الرد لم يتجاوز حدود التفاهمات التي يبدو أنها ما زالت قائمة بهذه الصورة أو تلك.
وما يستنتج من القرائن والمعطيات الراهنة هو أن الحرب الأمريكية – الإيرانية المفتوحة لن تكون في المدى المنظور. فالولايات المتحدة من جهتها لا تريد الدخول في حرب كلاسيكية، طالما أنها تمتلك وسائل أخرى مؤثرة لإرغام النظام الإيراني على التزام المسارات المحددة له. خاصة الوسائل الاقتصادية، والعمليات العسكرية الخاصة المحدودة والرادعة في الوقت ذاته.
وهذه الاستراتيجية تنسجم مع توجهات الإدارة الأمريكية الحالية التي تسعى بشتى الطرق من أجل الاستمرار في مهامها لأربع سنوات مقبلة، وهي تعاني من ضغوط داخلية هائلة تتعرض لها من جانب الخصوم الديمقراطيين، لا سيما ما يتصل منها بالتحقيق في تجاوزات الرئيس ترامب، والمطالبة بعزله.
كما أن النظام الإيراني من ناحيته، يدرك أن حرباً مفتوحة مع الولايات المتحدة ستكون عاقبتها وخيمة عليه، بل ستكون على الأغلب مدخلاً لاقتلاعه، كما حدث مع نظام صدام حسين. لذلك فإنه يحاول من جهة إيهام الداخل الإيراني، والقوى التابعة له في دول الإقليم، بأنه ما زال يمتلك زمام المبادرة، والقدرة على المواجهة، وقد تجلى ذلك في سلسلة من الهجمات الصاروخية العديمة الأثر، الأمر الذي يرجح فرضية التوافق غير المباشر مع الجانب الأمريكي، والرغبة في التهدئة معه.
ولكن هذه السياسة باتت مكشوفة، خاصة في مرحلة تنامي الوعي الوطني الإيراني الذي بات على قناعة تامة أكثر من أي يوم مضى بأن شعارات النظام الخاصة بالمقاومة والممانعة هي مجرد أكاذيب، اختلقها النظام من أجل شرعنة كل الإجراءات والممارسات التقليدية التي اعتمدت حتى الآن لقمع الإيرانيين، وإرغامهم على القبول بحكم نظام ولي الفقيه الاستبدادي الفاسد المفسد.
كما أن الانتفاضة الوطنية العراقية، خاصة في الوسط الشيعي، قد وضعت كل استثمارات وجهود النظام الإيراني التي كانت في الميليشيات العراقية منذ عقود في مهب الريح. والأمر نفسه في لبنان.
النظام الإيراني اليوم هو في أضعف حالاته، وعملية تغييره لم تعد من العمليات الصعبة. ولكن السؤال هنا هو: هل وضعت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في حسابها تغييراً كهذا؟ أم أن الاستراتيجية المعنية ما زالت متمحورة حول فكرة ضرورة تغيير سلوكية النظام الإيراني، وذلك في سياق عملية الحفاظ على التوازنات التي تراعي المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. وهي سياسة تظل خاضعة للاعتبارات الإقليمية والدولية، وواقع ومستقبل العلاقة مع المنافسين؟
المصدر: القدس العربي