علي العبد الله
كشفت التطورات التي شهدها الصراع السياسي والعسكري الليبي، أخيرا، انخراط مزيد من الدول في هذا الصراع، وتحوّله إلى صراع على ليبيا، في تكرارٍ نمطيٍّ لما حصل في معظم ثورات الربيع العربي، مصر، سورية، اليمن، البحرين، السودان … إلخ، عبر ركوب الموجة لمد النفوذ الخاص، وعرقلة نفوذ منافس أو خصم في حروب إقليمية ودولية بالوكالة، من دون اعتداد بالتكلفة البشرية والمادية الثقيلة التي دفعتها شعوب هذه الثورات.
اعتبرت دول إقليمية ودولية ثورات الربيع العربي فرصةً سياسيةً، فانخرطت فيها لاعتبارات خاصة، ليس من بينها تحقيق تطلعات شعوب هذه الثورات في الحرية والكرامة، حيث وضعت إمكاناتها المالية والعسكرية والاستخبارية وثقلها السياسي، وجهودها الدبلوماسية لضبط التطورات السياسية والميدانية لهذه الثورات، ودفعها في مسارات محدّدة، لتصبّ في طاحونتها، عبر دعم قوى محلية فاعلة فيها؛ والتنسيق مع دول أخرى منخرطة في هذه الصراعات؛ على خلفية تقاطع المصالح معها، لتحقيق أهدافها هي، ومصالحها هي، حتى لو قاد ذلك إلى التضحية بهذه الشعوب، وتدمير بلادها ومقدراتها. لقد نظرت، هذه الدول، إلى هذه الثورات، بدلالة مصالحها وصراعاتها هي مع منافسيها وخصومها، لا بدلالة تطلعات هذه الشعوب ومصالحها، فحوّلتها إلى وقود في حروبها، مجرّد وقود، لخدمة خططها وتحقيق مصالحها وتطلعاتها الجيوسياسية.
تعدّدت الخلفيات التي حكمت انخراط هذه الدول في الصراع، وتنوعت دوافعها وغاياتها بين التحفظ على التوجه الديمقراطي الذي برز هدفا رئيسا لهذه الثورات، على خلفية الدفاع عن نموذج الحكم القائم فيها، كما حال الأنظمة السلطوية في روسيا والصين. روسيا اعتبرت ثورات الربيع العربي امتدادا لما سمّتها الثورات الملونة التي حصلت في دول أوروبا الشرقية في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، وانعكست سلبا على نفوذها الجيوسياسي، بدخول هذه الدول في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتخوفها من الآثار المحتملة لثورات الربيع العربي على دول وسط آسيا، حديقتها الخلفية ومجالها الحيوي التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي، في ضوء عاملي التاريخ والدين المشتركين بين المنطقتين، في حين اعتبرتها الصين مقدمةً لنفوذ غربي إضافي، يعزّز قدرات الغرب في مواجهة تمدّدها ونفوذها المتنامي. وكما هو حال السعودية والإمارات، المتمسّكة بنمط حكمها الأسري والقبلي وقاعدته الشرعية: خضوع الرعية لولي الأمر. الأولى، روسيا والصين، عملت على إجهاض الثورات، والإبقاء على الأنظمة التسلطية الحاكمة. والثانية، السعودية والإمارات، عملت على توجيه الثورات نحو أنظمةٍ شبيهةٍ بأنظمتها عبر دعم تيارات سياسية وعسكرية تتبنّى التوجه السياسي نفسه: حكم سلطوي؛ خليفة أو أمير ورعية تابعة، أو أي بديل سلطوي. المهم أن لا تشهد أي من الدول العربية التي انفجرت فيها هذه الثورات قيام حكم ديمقراطي قائم على ولاية الأمة على ذاتها، وهذا ما حققته في مصر، عبر المساهمة في قيام حكم عسكري تسلطي. وبين تدخلٍ لنصرة تيار سياسي وعقائدي محدّد، وتمكينه من تسلّم السلطة أو الاشتراك فيها بدور وازن، كما هو حال تركيا، على خلفية السعي إلى تعميم نموذجها في الحكم، عبر دعمها جماعات الإخوان المسلمين في دول الربيع العربي، علما أن نموذجها فقد بريقه، بعد بروز النزوع التسلطي على الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وتبنّيه مواقف وخيارات قمعية وتمييزية ضد بعض مكونات الشعب التركي، الكرد بشكل خاص. وبين تدخل لحماية نفوذ سابق وتعزيزه وتحقيق مكاسب في ساحاتٍ جديدة، كما هو حال إيران، على خلفية تحصين أمنها الوطني، باختراق دول وأنظمة مجاورة، وتحويلها إلى أسوار حماية أو ساحات مواجهة ومقايضة مع الخصوم والمنافسين، عملا بتكتيك إدارة المواجهات بأدواتٍ وساحاتٍ غير إيرانية، والدفع من حساب الغير. وبين تدخل لكسب نفوذ إقليمي، كما هو حال قطر، لتعزيز المكانة والوزن وتوظيفهما في موازنة دول منافسة في الجوار القريب، وحماية الأمن الوطني عبر كسب حلفاء وأنصار في دول الربيع العربي، في حال انتصار هذه الثورات. وبين تدخل لحماية توازن قوى قائم، كما هو حال إسرائيل، بالإبقاء على الأنظمة القائمة، أو الدفع نحو أنظمةٍ ضعيفةٍ واستقرار هش، نتيجة انعدام الشرعية الشعبية، والفشل في تحقيق تطلعات الشعوب بالعدالة والمساواة والازدهار. وبين تدخل لحماية مصالح في المستعمرات السابقة، كما هو حال فرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا، على خلفية الإبقاء على الحبل السرّي مع هذه المستعمرات وما تدرّه من مكاسب مادية وحضور سياسي وثقافي ودور دولي. وبين تدخل لحماية توازنات جيواستراتيجية ومصالح راسخة، كما هو حال الولايات المتحدة، على خلفية الإبقاء على توازن قوى لا يسمح بهيمنة دولة واحدة في الإقليم، وتعزيز أمن طفلتها المدللة: إسرائيل.
لعب تدخل هذه الدول في ثورات الربيع العربي دورا سلبيا مدمرا، قاد إلى تحول الصراعات بين الشعوب والأنظمة الحاكمة المستبدّة والفاسدة إلى حروبٍ بالوكالة، حروب مديدة ومكلفة بشريا وماديا، فأجهضتها بإخراجها عن سياقها بوصفها ثورات تحرّر سياسي، واستنزاف قدراتها ومنعها من تحقيق مطالبها المشروعة والعادلة، ومن القدرة على تعديل اتجاه الأحداث وتحقيق بعض مطالبها.
لم يُنه إجهاض الثورات وهزيمتها الصراع والتنافس بين هذه الدول، بل تحوّل إلى مرحلة جديدة، مرحلة صراع على المكاسب الجيوسياسية التي تحقّقت خلال المرحلة الماضية، جسّدتها مواقف وإجراءات ميدانية، قرار الرباعي، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، ضد قطر بإعلان مقاطعتها سياسيا واقتصاديا وفرض حصار برّي وبحري وجوي عليها على طريق دفعها إلى التخلي عن تحرّكاتها المستقلة وتحالفاتها الخارجية والانضباط بتوجهات ومعايير حدّدتها هذه الدول. وقد قاد الحصار وتداعياته والحرب الإعلامية التي انفجرت بين الطرفين إلى تشتيت الرأي العام العربي، وتمزيقه بإغراقه في متابعة ملفات التآمر والفساد والتشهير بالعلاقات المشبوهة مع دول وقوى معادية للعرب؛ إسرائيل بشكل خاص، الضربات الجوية التي نفذتها إسرائيل ضد الوجود الإيراني على الأرض السورية، ضرباتٍ طاولت قواتٍ لإيران ومليشيات تابعة لها، بما في ذلك قوات الحشد الشعبي في العراق. تحرّكات سياسية وعسكرية واقتصادية سعودية وإماراتية ومصرية، لتطويق الدور التركي وإخراجه من سورية وليبيا (لعب النظام المصري دورا بارزا في محاصرة تركيا في مياهها الإقليمية وحرمانها من حقوق في مياه اقتصادية عبر عقد اتفاقات تخطيط الحدود المائية الاقتصادية مع إسرائيل واليونان وقبرص اليونانية وتشكيل تحالف لاستخراج الغاز من هذه المياه وتصديره إلى السوق الأوروبية). تحرّكات روسية إيرانية لمضايقة الوجود التركي على الأرض السورية، تمهيدا لإخراجه منها. تحرّكات أميركية إسرائيلية لمحاصرة الوجود الإيراني في سورية، والعمل على إضعافه، تمهيدا لإخراجه منها، جاء قتل الجنرال قاسم سليماني في هذا السياق. تحرّكات روسية إيرانية تركية لمحاصرة الوجود الأميركي، ومضايقته لاحتواء مترتباته ودفعه للخروج إن أمكن. تحرّكات أميركية أوروبية للضغط على روسيا والنظام السوري للقبول بإجراء تغيير سياسي، يلبي بعض تطلعات المعارضة. تحرّك أميركي تركي لاحتواء التمدّد الروسي، وعرقلة توجهه إلى الحسم العسكري في سورية. تحرّك أميركي أوروبي ضد التمدّد الروسي نحو ليبيا. تحرّك تركي ردّا على تحرّك السعودية والإمارات ومصر ضدها، وضد حليفتها الخليجية قطر، بإرسال قواتٍ إلى الأخيرة؛ والعمل على حماية نفوذها في ليبيا عبر عقد مذكرتي تفاهم مع الحكومة الليبية المعترف بها دوليا، واحدة لتخطيط الحدود البحرية والمياه الاقتصادية، وأخرى لتقديم الدعم العسكري لهذه الحكومة، وإرسالها أسلحة وخبراء ومستشارين عسكريين ومليشيات تابعة للقتال إلى جانب هذه الحكومة، ورد هجوم قوات حفتر على العاصمة طرابلس. خريطة متشابكة ومعقدة من الضغوط المباشرة وغير المباشرة، والمواجهات السياسية والميدانية.
قادت الحروب بالوكالة التي أشعلتها هذه الدول، وغذّتها بالتنسيق مع أنظمة وقوى محلية مستتبعة خدمة لمصالحها وأغراضها، إلى تدمير دول وتمزيق شعوبها وإغراقها بالدماء والدمار وتركها في حالة فوضى وضياع، من دون أن يرفّ لها جفن أو تشعر بذنب وتبكيت ضمير، فالمصالح تفرض الانخراط في الصراعات، والاستثمار فيها والتأثير على نتائجها، بغض النظر عن تبعاتها على الشعوب الضعيفة، سلوك برّره وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة، مادلين أولبرايت، حين سئلت في برنامج تلفزيوني، عن قتل خمسمائة ألف طفل عراقي، فأجابت: كان أمرا يستحقّ ذلك… ولا عزاء للشعوب.
المصدر: العربي الجديد