مناف قومان
لا عجب أن يخرج مواطنون في محافظة السويداء السورية هاتفين “بدنا نعيش”، ويرفعوا لافتات في محافظة درعا كتب عليها “ما بدنا ليرة ولا دولار بدنا تنزل الأسعار”، ومستنكرين في مناطق أخرى من سورية انهيار الليرة، ومطالبين بتحسين ظروف المعيشة التي ضاقت حتى وصلت إلى تبخر قيمة الليرة أمام ارتفاع الأسعار بمعدل 1000% لبعض السلع، وانتشار مخاوف من حصول مجاعة.
والواقع أن الحالة المزرية والمخاوف من مجاعة في سورية لها مثيل في التاريخ، فهناك 8 دول في أفريقيا عانت من المجاعة كنتيجة للصراع المسلح والحرب، و3 دول أخرى في نفس القارة ضربتها المجاعة في نهاية حرب طويلة دمرت أجزاء من زراعتها، ودولتان كانتا ضحية للقرارات السيئة المتخذة من حكومتي البلدين.
الأمر ليس مقتصراً على أفريقيا، فدول كبرى مثل الهند والصين في آسيا ودول أوروبية مثل إيطاليا وإنكلترا وأيرلندا وفنلندا وروسيا عانت من المجاعة في أوقات مختلفة ولأسباب متباينة.
علماً أن المجاعة تُعرف بأنها ندرة في الغذاء على نطاق واسع تسببها عدة عوامل، بما في ذلك الحرب والتضخم وفشل المواسم الزراعية وعدم التوازن السكاني أو السياسات الحكومية بسبب التخطيط الزراعي السيئ والزراعة القسرية، والقمع السياسي في الريف والذي يؤدي إلى هجرة الفلاحين لأراضيهم، وهناك أسباب متعلقة بأمراض النبات والآفات وموجات الجفاف بسبب انخفاض الهطولات المطرية وارتفاع درجات الحرارة، وزيادة الطلب على الغذاء.
بحسب المعلومات المتوفرة عن المجاعات التي حصلت في سورية، فقد ضربت المجاعة مناطق واسعة من سورية أثناء الحرب العالمية الأولى في فترة الحكم العثماني، نتيجة مصادرة المحاصيل والأملاك لخدمة الحرب وهروب الشباب من الأراضي الزراعية للاغتراب هرباً من التجنيد الإجباري.
فيما لم تعرف سورية مجاعة في تاريخها الحديث منذ الاستقلال 1946 حتى 2011 العام الذي اندلعت فيه الثورة، إذ حدثت مجاعات في مناطق متفرقة من البلد، فبحسب منظمة العفو الدولية في يناير/ كانون الثاني 2018 هناك 15 منطقة بسورية تعرضت للحصار ومنع وصول الغذاء والماء والدواء ودخول المساعدات الإنسانية للمحاصرين، لشهور أو سنوات، وتسببت المجاعة بوفاة العديد من الأشخاص جراء الجوع والمرض والبرد، إذ توفي 950 سورياً معظمهم أطفال بسبب الجوع وسوء التغذية.
وفي حصار الغوطة الشرقية توفي نحو 400 مدني أكثر من نصفهم أطفال بسبب الجوع خلال الحصار، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، و180 فلسطينياً في مخيم اليرموك وسط دمشق توفوا جوعاً بسبب حصار النظام للمخيم، و43 مدنيا في مدينة مضايا بريف دمشق ومناطق أخرى غيرها.
حدوث المجاعات في تلك المناطق يعود إلى استخدام نظام الأسد سياسة التجويع والحصار كسلاح حرب لدفعهم إلى الاستسلام وإخضاع المعارضة لإعادتها إلى بيت الطاعة وعدم التهاون مع أي بلدة ومدينة تخرج لمعارضة السلطة. فيما لم تحصل مجاعة على مستوى مكان غير مُحاصر يسيطر عليه النظام أو المعارضة أو “الإدارة الذاتية”، وهو ما يثبت أن النظام وممارساته العسكرية والحرب، وليس الجفاف أو انخفاض الهطولات المطرية وآفات وأمراض نباتية، هي التي مهدت لمخاوف وقوع مجاعة في البلاد.
كل الأسباب التي يمكن ذكرها في إطار تفسير حدوث مجاعة في سورية، أو حصول انعدام في الأمن الغذائي لدى نسبة كبيرة من السكان تدور حول ممارسات النظام التعسفية والحرب التي شنها للقضاء على الثورة، كقصف وإحراق وتخريب الأراضي الزراعية؛ وتشظي البلد بين مختلف الفاعلين الدوليين والإقليميين؛ وانحسار موارد الموازنة وفقدان العملة الصعبة من البنك المركزي؛ والتضخم في أسعار السلع الخدمات والذي بلغ 1000% في بعض السلع، وانخفاض القوة الشرائية لليرة إلى مستويات غير مسبوقة؛ وتشكل شبكات تجار غير رسمية وسوق سوداء تحكمت بالأسعار وسط غياب الدور الفاعل للحكومة؛ وتهجير 5.6 ملايين شخص خارج سورية وتشريد 6.1 ملايين داخل سورية من مناطقهم والنزوح الذي أخل بالتوازن السكاني وهجّر الفلاحين من أراضيهم الزراعية؛ وقتل نصف مليون شخص بالإضافة إلى جرح واعتقال مئات الآلاف؛ والعقوبات الصارمة على سورية.
كل تلك المعطيات والتي أوصلت سورية إلى ما هي عليه اليوم سببها الرئيسي نظام لم يأبه باستنزاف موارد البلاد الطبيعية والمادية والبشرية، وجعل 31% من سكان سورية يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و45.6% معرضين لانعدام الأمن الغذائي بحسب مسح للمكتب الإحصاء السوري في 2017، ولم يأبه لـ11.7 مليون شخص بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية المختلفة كالغذاء والمياه والمأوى والصحة والتعليم، و83% من السكان تحت خط الفقر.
وعلى الرغم من الانتصارات الناجزة التي حققها على مناطق عدة في سورية والوعود التي أطلقها في إعادة الإعمار واستقرار الأوضاع زاد سوء الأوضاع المعيشية وزادت العقوبات الدولية وعزلة النظام وحدِّة الأزمة الاقتصادية، حتى بات راتب الموظف بعد الزيادة بالكاد يكفي تغطية مصاريف الغذاء، إذ بلغت حصة الغذاء والشرب بين تكاليف المعيشة 147 ألف ليرة، فيما يبلغ متوسط الأجر نحو 55 ألف ليرة، وقد تجذرت المشكلة أكثر مع تبخر قيمة الليرة، فخمسة آلاف ليرة التي تكفي لشراء 10 كيلوغرامات من الخضار والفواكه قد لا تكفي غداً لشراء هذه السلع بسبب ارتفاع أسعاره السلع، وهو ما دق ناقوس الخطر لدى الكثير من المواطنين مع كفاية الراتب والأجر لتغطية تكاليف الغذاء على مدار الشهر وتغير الأسعار في السوق باستمرار.
إلا أن النظام وضمن مساعيه لتحسين الأوضاع المعيشية تمكن في نهاية عام 2019 من جذب مطعم “أم شريف” ليفتح في فندق “فور سيزون” وسط دمشق، حيث التكلفة للشخص الواحد تقدر بحوالي 100 ألف ليرة (الدولار ألف ليرة) أي ضعفي راتب الموظف تقريباً، إنجازٌ قابله عجز كبير عن الوفاء بأبسط الاستحقاقات المعيشية للمواطنين.
ويفسر عجز النظام عن مواجهة أزمة الغذاء وتدهور قطاع الزراعة وعدم قدرته على تأمين السلع الأساسية ومحاربة السوق السوداء بسبب تشظي البلاد بين منطقة “الإدارة الذاتية” في منطقة شمال شرق الفرات بدعم أميركي، وهذا حرم الحكومة من إمدادات النفط والغاز والمحاصيل الزراعية الاستراتيجية، وعلى رأسها القمح، وغرب الفرات الواقعة تحت سيطرة قوات المعارضة بدعم تركي، ومرة أخرى حرم الحكومة من إمدادات محاصيل زراعية مثل القطن والزيتون ومنتجات أخرى، وسبّب تهجير السكان قسرياً من مناطق ريف دمشق وحماة وحمص ودرعا والقنيطرة خروج أراضٍ زراعية عن الإنتاج ومغادرة الفلاحين لها.
ساهم هذا التشظي في خسارة حكومة الأسد مناطق استراتيجية كانت تمدها بالمواد الهيدروكربونية كالبنزين والمازوت والغاز، وبالتالي الكهرباء، فتعطّل استخراج المياه الجوفية، وهو ما عرض المزروعات للعطش والجفاف، وخسرت أيضاً إمداد ميزانيتها بالعملة الصعبة من إيرادات الموارد التي فقدت السيطرة عليها، والكفيلة بشراء احتياجات البلاد المختلفة وحماية الليرة السورية من الهبوط.
وأدى انخفاض سعر صرف الليرة إلى ارتفاع تكلفة صيانة الآلات الزراعية وارتفاع أسعار المبيدات الحشرية والأسمدة، ما حمل الفلاحين تكاليف زائدة فارتفعت تكاليف إنتاج العديد من المحاصيل الزراعية وهو ما أدى إلى توقف كثير من الفلاحين عن الزراعة.
أخيراً، إيقاف الحرب وبدء عملية انتقال سياسي للسلطة تضمن للبلاد استقرار سياسياً، هو ما سيعيد النازحين واللاجئين من بلدان الجوار إلى سورية، واستقرار سعر الصرف والتكاليف وبداية رفع العقوبات وتحريك العملية الإنتاجية برمتها، والأهم عودة الفلاحين لأراضيهم وتنشيط الزراعة بما يضمن الأمن الغذائي في البلاد.
المصدر: العربي الجديد