عماد كركص
ينعكس التباين في المواقف بين روسيا وتركيا ضمن ملفات عدة داخل سورية وخارجها، على المشهد الميداني في محافظة إدلب شمالي غرب سورية، مع اقتراب النظام من مدينة إدلب مركز المحافظة، إذ باتت قواته ومليشيات تساندها على مسافة أقل من 8 كيلومترات عنها، بعد السيطرة على قرية النيرب شرق المدينة، والتمهيد الناري جواً وبراً على مدينة سرمين الواقعة على الطريق الواصل إلى المدينة من جهة الشرق. بيد أن السيطرة على بلدة النيرب، وإن كانت تندرج ضمن استراتيجية النظام المتبعة بتطويق المدن التي ينوي السيطرة عليها في طريق تقدمه، خصوصاً مدينة سراقب، التي تكمن أهميتها في موقعها على تقاطع الطريقين الدوليين حلب ــ اللاذقية “أم 4” وحلب ــ دمشق “أم 5″، إلا أنه يعني وضع قوات النظام قدمها على طريق حلب ــ اللاذقية والسيطرة على معسكر “الشبيبة” قربها. وهو ما يجعل الطريق أمام قوات النظام ممهداً للوصول إلى معسكر “معمل القرميد”، ومن ثم التمدد أكثر باتجاه الغرب للسيطرة على معسكر “المسطومة”. وتلك معسكرات كانت المعارضة قد دحرت قوات النظام منها على فترات متقطعة في معارك 2015، حين كانت قوات النظام تتحصن فيها، وتتخذها منطلقاً للأرتال وقوات الهجوم إلى كافة أرجاء المحافظة، لا سيما معسكر “المسطومة” الذي كان مركز إدارة العمليات. وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن قوات النظام سيطرت، خلال الساعات الـ24 الماضية، على أكثر من 20 قرية وبلدة.
لا شك أن الأخطر خلال المعارك الدائرة في إدلب وجنوبي حلب وغربها، أو ما يُعرف في المجمل بـ”منطقة خفض التصعيد”، هو التوجس الشعبي من امتداد النظام نحو مركز المدينة، الذي بات يغص بالآلاف من سكانه ومعهم الآلاف من النازحين، الذين قصدوا مدينة إدلب بعد اجتياح قوات النظام لريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي الشرقي، وقبلهما ريف دمشق ودرعا وحمص وحلب. وتقدّر الأمم المتحدة أعداد النازحين والسكان في مدينة إدلب بحوالي نصف مليون مدني، إلا أن منظمات فاعلة في إدلب تقول إن الرقم الحقيقي يصل إلى الضعف، ويشكّل نزوحهم كارثة إنسانية هي الأكبر في تاريخ الصراع في سورية.
وجاءت التصريحات النارية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، صباح أمس الأربعاء، لتفتح الباب أمام احتمال حدوث تغيير كبير في مجريات الواقع الميداني وخرائط السيطرة، في حال نفّذت أنقرة تهديداتها بكبح تقدم قوات النظام. فقد أعلن أردوغان أنه سيتم نصب منظومة صواريخ “حصار إيه” (نظام دفاع جوي بصواريخ أرض ـ جو قصيرة المدى تركي الصنع) على الحدود السورية. وشدّد على إمهاله قوات النظام حتى يوم غد الجمعة، للانسحاب من كل المناطق المحيطة بنقاط المراقبة التركية، حسبما جاء في كلمته أمام الكتلة البرلمانية لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم، بعد يومين من تبادل القصف بين القوات التركية وقوات النظام في محيط سراقب، ما أدى إلى مقتل 7 جنود أتراك، و76 من جنود النظام، بحسب الإحصائيات التركية.
وحدّد الرئيس التركي مهلةً حتى نهاية شهر فبراير/شباط الحالي لانسحاب قوات النظام إلى خلف نقاط المراقبة التركية، وإلا فإن تركيا ستضطر إلى إجبارها على ذلك. وقال أردوغان أيضاً: “إن كان من غير الممكن ضمان أمن جنودنا في إدلب، فإنه لا يمكن لأحد الاعتراض على استخدام حقنا في القيام بذلك بأنفسنا، وعندما سيتعرض جنودنا أو حلفاؤنا لأي هجوم، فإننا سنرد بشكل مباشر ومن دون سابق إنذار، وبغض النظر عن الطرف المنفذ للهجوم”. وأضاف: “قواتنا الجوية والبرية ستتحرك عند الحاجة بحريّة في كل مناطق عملياتنا وفي إدلب، وستقوم بعمليات عسكرية إذا ما اقتضت الضرورة. وكما يقوم النظام السوري باستهداف المدنيين عند أبسط انتهاك لقوات المعارضة، فإن الرد على انتهاكات النظام السوري بعد الآن سيكون بالرد المباشر على جنوده”.
واعتبر أردوغان في معرض كلمته أنه “من يسأل عن سبب تواجد الجيش التركي في سورية، إما جاهل، أو يكنّ عداءً متعمداً للشعب والجمهورية التركية”، وأن “الهجوم على جنودنا في إدلب بداية لمرحلة جديدة بالنسبة لتركيا في سورية”. وأوضح: “أخبرت (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين، بأنه يتوجب على النظام السوري الانسحاب من حدود اتفاق سوتشي، وإن لم ينسحب النظام فإن تركيا سوف تتكفل بذلك”.
غير أن وزارة خارجية النظام ردّت على أردوغان بالإشارة إلى أن “سورية تؤكد أن اتفاق أضنة يفرض التنسيق مع الحكومة السورية باعتباره اتفاقاً بين دولتين، وبالتالي لا يستطيع أردوغان وفق موجبات الاتفاق التصرف بشكل منفرد”. ونقلت وكالة “سانا” التابعة للنظام، عن مصدر في الخارجية قوله: “إن اتفاق أضنة هو لضمان أمن الحدود بين البلدين، ويهدف بالفعل إلى مكافحة الإرهاب، إلا أن ما يقوم به أردوغان هو حماية أدواته من المجموعات الإرهابية التي قدم لها ولا يزال مختلف أشكال الدعم”.
وتعني تهديدات أردوغان، أن تركيا باتت على استعداد لتطبيق اتفاق سوتشي (الموقّع في سبتمبر/أيلول 2018) بالقوة، في حال لم ينصع النظام السوري إلى ذلك بالانسحاب، وهذا يعني انسحاب النظام من كافة المناطق التي دخلها خلال المعارك التي بدأت في إبريل/نيسان الماضي وامتدت حتى أغسطس/آب الماضي، عندما قضمت قوات النظام ومليشيات إيرانية تساندها بدعم جوي روسي، أجزاء كبيرة من أرياف حماة وجنوب إدلب. وأهمها مدن قلعة المضيق وكفرنبودة ومحيطهما بريف حماة، ومدينة خان شيخون ومحيطها بريف إدلب الجنوبي، قبل توقف المعارك في أغسطس، إلا أن قوات النظام استأنفتها في جنوب إدلب وشرقها، وجنوب حلب وغربها، في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتقدمت جنوب إدلب وشرقها وسيطرت على مناطق واسعة، أهمها مدينة معرة النعمان، كبرى مدن الجنوب. ثم واصلت قوات النظام تقدمها شمالاً حتى وصولها إلى مشارف سراقب، التي تدور المعارك حالياً في محيطها بغية السيطرة عليها، وكذلك فعلت في الريف الجنوبي من حلب، عندما سيطرت على بلدة خان طومان والخالدية ونقاط عدة حولها، بالإضافة إلى نقاط في الريف الغربي من حلب، وكلها تتبع لـ”منطقة خفض التصعيد”، المقرة في مباحثات أستانة من مايو/أيار 2017، وثبّتها اتفاق سوتشي.
ويعني ذلك أيضاً، أن على النظام الانسحاب جنوب “منطقة خفض التصعيد”، إلى ما وراء نقطة المراقبة التركية في بلدة مورك بالريف الشمالي من حماة، التي حوصرت في معارك الصيف الماضي. أما شرق المنطقة، فعلى النظام الانسحاب إلى ما وراء نقطة الصرمان في ريف معرة النعمان الشرقي، التي تعرضت هي الأخرى للحصار خلال المعارك الأخيرة. أما من جهة الشمال الشرقي أو الجزء التابع لحلب من تلك المنطقة، فإن على النظام الانسحاب من بلدة خان طومان والخالدية ومستودعات خان طومان والحميرة الواقعة جنوبي حلب، ونقطة “الراشدين الخامسة” غربي حلب، التي تقع قرب نقطة مراقبة تركية بمسافة كيلومتر واحد.
وتتسارع التطورات بالتزامن مع إرسال الجيش التركي، مزيداً من التعزيزات إلى الحدود التركية – السورية، وتحديداً إلى ولاية هاتاي الحدودية مع إدلب، حيث وصلت إلى الحدود تعزيزات ضخمة في اليومين الماضيين لتدعم القوات التركية المنتشرة هناك، قوامها ناقلات جند مدرعة، ودبابات، ومدافع، وعربات عسكرية مختلفة، بالإضافة إلى إرسال تعزيزات ضخمة يوم الاثنين الماضي إلى النقاط التركية المنتشرة في ريفي إدلب وحلب. وتزامن ذلك يومها مع توجه وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، برفقة رئيس الأركان يشار غوبر، وقادة من الجيش التركي نحو الحدود السورية التركية، للاطلاع على آخر المجريات هناك. وتُعدّ جولتهم التي تمت يوم الاثنين الماضي مؤشراً على جدية تركيا لتغيير سياستها المبنية على الصبر والتوافق مع روسيا فيما يخص ملف إدلب، واتباع سياسة مختلفة في مقدمتها الخيار العسكري القائم على القوة والردع.
في غضون ذلك، يبدو أن التصعيد التركي يحظى بدعم من قبل الولايات المتحدة، مع إعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، إدانة بلاده، مساء الثلاثاء، للاعتداءات المستمرة وغير المبررة والقاسية على المدنيين في إدلب من قبل نظام الأسد وروسيا وإيران وحزب الله. وعدّ بومبيو “الهجوم على نقاط المراقبة التركية من قبل قوات نظام الأسد تصعيداً خطيراً”، معبّراً عن “وقوف الولايات المتحدة إلى جانب حليفتها في حلف شمال الأطلسي (تركيا) في أعقاب الهجوم الذي أدى إلى مقتل العديد من الجنود الأتراك الذين يعملون في نقطة مراقبة التي تستخدم للتنسيق وتخفيف التصعيد”. وشدّد على دعم بلاده لتركيا في إجراءات الدفاع عن النفس المبررة، وكبح جماح النظام وحلفائه لإيقاف الهجمات البربرية، بحسب بومبيو. مع ذلك، فقد كشف أربعة مسؤولين أميركيين لوكالة “رويترز”، أن الولايات المتحدة أوقفت برنامجاً سرياً للتعاون في مجال المخابرات العسكرية مع تركيا، بعد أن ساعد أنقرة لسنوات في استهداف مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وقال المسؤولون إن القرار الأميركي بتعليق البرنامج إلى أجل غير مسمّى، اتُخذ رداً على توغّل تركيا العسكري عبر الحدود في سورية في أكتوبر الماضي.
المصدر: العربي الجديد