مضر رياض الدبس
كلُّ الذي يحصل في سورية، و”صفقة القرن” بكل ما فيها من استفزاز، وأغلب انفعالات السلطة الفلسطينية والمعارضة السورية وسلوكياتهما وخطاباتهما، يدفعنا إلى محاولة مقاربة القضيتين، الفلسطينية والسورية، من منظورٍ مُقارن، فنضع السلوك السياسي للقوى السياسية الفلسطينية، موضع مُقارَنة مع السلوك السياسي للقوى السياسية الوطنية السورية، حيث يشترك الطرفان في إدارة الإخفاق السياسي الذي ما زال يتراكم، كما يشتركان في أنهما مأزومان (إن لم نقل مهزومين) على الصعيد السياسي بمُجمله. ونقول ذلك فقط بعد إنجاز عملية تجريد ذهنية، تشكل المستوى المنهجي لمسارات هذه المقارنة وعناوينها. أي أننا نستخدم التجريد بوصفه أداةً للفهم، نبدأ بإنجازه انطلاقًا من المستوى الذهني الناظم لتفكيرنا في هذه المُقارنة، فنقوم بعزلٍ مُمنهج ومقصود بواسطة الفكر، لكل ما هو ليس معزولًا في موضوع الفكر. ويمكن، عند هذا المستوى من التجريد، أن نقول إن عدويهما (النظام السوري وإسرائيل) يشتركان، بل يتطابقان، بدورهما، على مستوى الجذر المنهجي الناظم لتفكيريهما، وإن بدت الأمور غير ذلك على السطح.
قبل الخوض في هذه التفاصيل جميعها، نضع المحدّدات الأساسية الآتية لنوع كهذا من التفكير: المُحدد الأول، افتراض وجود تيارين وطنيين ناجزين في فلسطين وسورية، وهذا افتراضٌ غير دقيق من منظور الحقيقة التي تنتمي إلى مجال المُتعينات. ولكن يسمح وجود الفكرة الوطنية، نظريًا، بافتراض صحتها في مجال الحقائق المُجرّدة، وفي عالم المُجردات. ويصبح لهذه الطريقة في الاستنتاج أهمية خاصة عند العودة بنتائج المقاربات التجريدية إلى التعيين مرة أخرى، حيث تساهم هذه النتائج في مساعدة هذه القوى (أو هذه المجتمعات) على ابتكارٍ جديد لمشروعها الوطني. المحدد الثاني أن المُقاربة تقوم على إهمال منهجي لكل العوامل الخارجية المؤثرة في القضيَّتين، على الرغم من أنها عوامل مهمة وحاسمة في أغلب الأحيان، وهذا إهمالٌ مقصودٌ ومُمنهج، يهدف إلى عزل العوامل الذاتية الداخلية، لتضخيمها بهدف رؤيتها بوضوح أكثر. ولهذا الإهمال أيضًا سببٌ يبرّره، هو أن العامل الذاتي أساسي في استمرار سلبية العوامل الخارجية بمجملها، وأن حل عقده واكتشاف مشكلاته العميقة، من شأنه أن يؤدّي إلى تغيير إيجابي في المواقف الخارجية جميعها. وهكذا تعمل السياسة نظريًا. والمحدد الثالث هو افتراض حسن النيات الأخلاقية لدى العناصر السياسية التي تشكل موضوعي المقارنة.
يمكن الآن طرح المقارنة تحت عنوانين تجريديين، يشكلان منطقتي تقاطع واضحتين. الأول على مستوى العَدُويّن، والثاني على مستوى السلوك السياسي للقوى الوطنية في مواجهة هذين العَدُوّين.
أولًا: على مستوى العَدُوّين: تنتمي إسرائيل، في العمق، إلى مجموعة العصبيات الأيديولوجية التي أخذت شكل النظام السياسي، وينتمي إلى هذه المجموعة نفسها نظام الطغمة الحاكمة في سورية، ونظام الولي الفقيه الإيراني. وتستند هذه العصبيات جميعها إلى قاعدة أيديولوجية واسعة، قوامها أحكامٌ إيمانية، دينية أو دنيوية، مُقدّسة أو تمّ تقديسها. وتَمدُّها هذه القاعدة بالمواد اللازمة لخلق العنف الضروري لخدمة غاياتها السياسية الهمجية التي أدّت إلى ارتكاب مجازر، مثل دير ياسين وكفر قاسم، وكالمجازر التي ارتكبها النظام السوري بحق السوريين منذ بداية الثورة، والمستمرة.
وتنتج الآلة الإيمانية التي طوَّرها كلٌ من العَدُوّين جَهلًا مُقدسًا لدى شريحة من الجمهور المُستهدف. هو الجهل الضروري لتشكيل المساحة المطلوبة سياسيًا لتوجيه السلوك الإنساني نحو صناعة العنف، أي إنتاجه، وإعادة إنتاجه، ووضع قواعد مُمنهجة له. هكذا تتم شرعنة الهمجية بالاستناد إلى دلالاتٍ وهميةٍ قادرةٍ على منافسة الأخلاق في مستقبلاتها البشرية الفطرية، فتعتل آلية الشعور، ويتعطّل الحب الفطري للحياة. هي دلالاتٌ فوق إنسانية، متعالية على كل الحقوق الدنيوية، بما فيها حق الحياة، بل كارهة للحياة، ولمقوماتها الجميلة. مثل هذه الدلالات نجدها مثلًا في أدلوجة القائد الخالد، وأدلوجة المجتمع العربي الاشتراكي الموحد، وأدلوجة يهودية إسرائيل، وأدلوجة يهودا والسامرة.. إلخ. يتقاطع النظام السوري (وداعموه العضويون) مع إسرائيل في منهجية إنتاج الفكر العنيف المُقدس الذي لا يجذب المقاتلين ويزيد عددهم فحسب، بل يجعل موتَهم في ساحاتِ القتال فكرةً مستساغةً لديهم، ولدى ذويهم من بعدهم. وللمفارقة، تتقاطع معهم في ذلك كل التنظيمات التكفيرية. ويتطابق الطرفان على مستوى الآلية التنفيذية أيضًا، فيعمل كلاهما على الاستحضار الدائم لأحداثٍ تاريخية دينية بعد تحميلها بشحناتٍ ذات طابع أسطوري تراكمي، كخراب هيكل سليمان والتباكي عليه، وكالمحرقة اليهودية (الهولوكوست)، .. إلخ، ثم يتم العمل على تضخيم هذه المظلوميات بما يكفي لتصبح مادةً قادرةً على تزويد النزعة الإجرامية/ “الانتقامية” بمسبّبات البقاء والتمدّد.
تعمل إسرائيل، بوصفها دولة، على تحديد الآخر، وتعمل بوصفها منظومةً أيديولوجية على استخدام المُقدّس لتبرير العنف ضد شريحة متغيرة تختارها من هذا الآخر. وبالطريقة نفسها يعمل كلٌ من النظام السوري، ونظام الولي الفقيه، ونظام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإخوانه. حيث يحدّد كلٌ منهم “أعداءَ الأمة”، ثم تعمل المنظومة الإيمانية الأيديولوجية لديهم، الدينية منها والدنيوية، على تقديس قتل هؤلاء “الأعداء”. هكذا يصبح قتل الأبرياء “واجبا جهاديا مقدّسا” عابرا للحدود، إلا حدود “إسرائيل”. ويمكن توصيف العلاقة بين إسرائيل ومحور المُمَانعة بعلاقة التنافر بسبب تطابق شحنتيهما، فلا يصطدمان ولا يلتقيان.
ثانيًا: على مستوى السلوك السياسي للقوى الوطنية.. يأخذ التواصل السياسي بين الفلسطيني والإسرائيلي، وبين النظام في سورية والمعارضة، شكلًا سيميائيًا. ذلك لأنه لا يتم باللغة، بقدر ما يتم بإشاراتٍ وعلاماتٍ لا تسعى إلى التواصل السياسي في أساس بنيتها وتكوينها: مثل بناء مستوطنات، اعتقالات، قتل تحت التعذيب، غارات جوية، حصار، تجويع، إلى ما هنالك من هذه الإشارات. وفي هذا الوضع، يؤدي الاستدلال داخل وعي الفلسطيني والسوري إلى تكوين جزءٍ مما يدور في رأس الإسرائيلي عند الأول، وفي رأس النظام عند الثاني. ولكنه فهمٌ لا يتعلق بالمَفهوم، بقدر ما يعكس ذهنية الفَاهِم، وهذا يُفسّر مظاهر الثقة التي يبديها بعضهم في نيَّة الاسرائيليين للسلام، والتي يرقى بعضها إلى درجة السذاجة المشابهة لدعوة معارض سوري إلى إطلاق حوار هادئ مع رأس النظام. وهذا طبيعي، فلا أحد يستطيع الجمع بين التموضع أخلاقيًا في صفٍ مُعارض لوجود الكيان الإسرائيلي، أو لوجود النظام السوري، ويستطيع، في الوقت نفسه، أن يتخيل قاع السفالة الأخلاقية لأيٍ منهما، لأن هذا القاع سافلٌ إلى درجة أنه لا يكون مُدركًا أو مفهومًا، إلا ممَّن هم من دون أخلاق. ويمكن تحديد تقاطعات في السلوك السياسي الفلسطيني والسوري، بالنقاط الآتية التي يراها الكاتب أكثر أهمية من غيرها:
أولا، تصلب السياسة الناتج عن استبعاد الشباب، والجهل بآليات العصر، والإصرار على الوجوه نفسها، التي لا تطوِّر نفسها، وتتوقع أنها ستطوِّر في قضيتها، فلا تتقدم إلا في السن.
ثانيا، غلبة الانتفاضة على السياسة، الأمر الذي يظهر على شكل ميلٍ إلى الانفعال السريع، وكثرة الدفق العاطفي في توجيه السلوك السياسي، على حساب التحليل الرصين والقرارات المدروسة.
ثالثا، ضعف القدرة على تحديد العلاقة بين الرهان والمجازفة، وغياب الحقل النظري الذي يختصّ في المعارك المُمكنة، والتمييز بين الهجوم والدفاع. وهذا ينطبق على القرارين، العسكري والسياسي، على حدٍ سواء.
رابعا، الدوغما، والتفكير الأيديولوجي، يؤديان إلى ضعف الإمكانات العقلانية السياسية القادرة على الاستشراف والتخطيط وسبر الواقع وفهمه، من ثم تحديد الخيارات والكيفيات المُتاحة، والكيفيات التي يجب خلقها، الأمر الذي يؤدّي إلى تبنّي التجريبية في السياسة. وتدفع الشعوب الثمن من دماء أبنائها، مع كل تجربةٍ فاشلة، وما أكثرها.
خامسا، إغراء “السلطة”، أو وهم السلطة الذي يؤدّي إلى التمسك بها، مثلما يفعل أغلب السياسيين في السلطة الفلسطينية، أو الذي يؤدّي إلى تداولها خلال فترات قصيرة جدًا، وبشكلٍ مبتذل ومُستهجن، مثلما تم تداول رئاسة المجلس الوطني السوري كلّ ثلاثة أشهر.
هذه أبرز التقاطعات التي أمكن تقديمها في عجالة، والتي تقودنا إلى التفكير في ضرورة بناء فضاء عمومي وطني حقيقي، قادر على إفراز تمثيل سياسي مختلف وحديث، يتوافق مع عموميته، ويتجاوز حالة الشلل التي نراها، والتي لا تنتج إلا الهزيمة، و”صفقة القرن”، ومن ثم أيديولوجيا تبرير الهزيمة، أو أدب الهزيمة، أو أحيانًا تسويق الهزيمة انتصارا ساحقا، مثل انتصار حزب الله في حرب تموز في العام 2006، والانتصار في حرب تشرين 1973، حيث “تم دحض أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر”، بحسب تعبيرات دورات الإعداد العقائدي التي تقوم بها آلة النظام السوري الإيمانية الأمنية.
المصدر: العربي الجديد