حسان الأسود
ظهر، أخيرا، في مشهد استعراضي غير نادر الانتشار، تسجيل مصوّر لجنود سوريين، بزيّهم العسكري الرسمي، يحطّمون شاهدة ضريح أحد الموتى في إحدى قرى إدلب بعد استعادة قوات النظام السوري السيطرة عليها. وبغضّ النظر عن توصيفنا للمتوفّى، شهيدا أم غير شهيد، وهو أمرٌ غير قابل للقياس ولا للتحقق، وبغضّ النظر عن دين الفاعلين أو جنسيتهم أو طائفتهم، وهو أمرٌ غير مهم في هذا المقام حصراً، فنحن بكلّ بساطة أمام فعل تحكمه قواعد قانونية وأخلاقية، إضافة إلى أنه يستدعي بعض المقارنات من التاريخ.
تنصّ المادّة 467 من قانون العقوبات السوري على: “يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنتين: من هتك أو دنّس حرمة القبور أو أنصاب الموتى أو أقدم قصداً على هدمها أو تحطيمها أو تشويهها. من دنّس أو هدم أو حطّم أو شوّه أي شيء آخر خصّ بشعائر الموتى أو بصيانة المقابر أو تزيينها”. ونصّت المادة 16 من الملحق الإضافي الثاني الموقع عام 1977، والخاص باتفاقية جنيف لعام 1949 على: “المادة 16: حماية الأعيان الثقافية وأماكن العبادة: يحظر ارتكاب أعمال عدائية موجهة ضد الآثار التاريخية أو الأعمال الفنية وأماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب، واستخدامها في دعم المجهود الحربي، وذلك من دون الإخلال بأحكام اتفاقية لاهاي بحماية الأعيان الثقافية في حالة النزاع المسلّح والمعقودة في 14 أيار 1954”. وتنص المادة 48 من الملحق الإضافي الأول لعام 1977 على: “تعمل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ومن ثمّ توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها، وذلك من أجل تأمين احترام وحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية”.
ولا مندوحة من الإشارة إلى أنّ شروط حماية الأعيان المدنية متوفرة في الحالة المحدّدة أعلاه، باعتبارها منطقة مدنية ذات طبيعة خاصة، وخالية من القواعد العسكرية. وهذا نزرٌ يسيرٌ من النصوص القانونية المتعدّدة التي يمكن إيرادها للإضاءة على موضوع حرمة الموتى والمقابر في الثقافة الإنسانية. وعلى الرغم من أنّه ليس كافيا بحد ذاته للإحاطة بالموضوع، لكنه لازم على كل حال.
على الصعيدين، الأخلاقي والديني، سُنّت عبر التاريخ الإنساني دوماً قواعد تُلزم البشر باحترام الموتى والجثامين. ولولا ذلك لما وجدت هذه القواعد طريقها لتصبح نصوصاً قانونية ملزمة في جميع قوانين العالم بلا استثناء تقريباً، فالإنسان ينظر إلى من سبقه، ثم يقيس على نفسه عموماً، ولا أحد يحبّ أن تُساء معاملته لا حياً ولا ميّتاً. لذلك رأينا حالات كثيرة لمطالبات برفات الجنود أو الأسرى أو حتى الجواسيس بين الدول والحكومات، ولعلّ تاريخنا المعاصر مليءٌ بأمثلة على مبادلاتٍ جرت بين حكومات وتنظيمات مسلّحة عربية وبين حكومات الكيان الإسرائيلي المختلفة.
وعلى الرغم من أنه لم تخلُ حقبة تاريخية ولا حضارة بشرية ولا عرق أو مجموعة سكانية من حالات تمّ فيها الاعتداء على حرمة الموتى، وعلى الرغم من أنه غالباً ما يكون هذا الأمرُ ملازماً للحروب والصراعات وحالات الفلتان الأمني والكوارث التي يسببها البشر بأفعالهم الخرقاء، فأن يتمّ تصوير هذا الأمر والتباهي به ونشر صور الرفات المستخرج من القبر ورفع إشارات النصر بمواجهته، هو بلا أدنى شكّ فعل مقززٌ، ومثير للتساؤل عن أهدافه وخلفياته.
يشكل الأمر مثالاً صارخاً عن سورية الأسد، فالنظام الذي لم يحترم يوماً الإنسان الحي ما كان له أن يقيم أي وزن أو اعتبار لجثامين الأموات. إنها رسائل متعمّدة يطلقها قادة هذه العصابة، عبر أزلامهم من الجهلة والأغبياء، رسالة المستقبل القاتم الذي يرومونه لنا ولكّل من تجرّأ على قول لا للطاغية. هي إذن أداة من بين مروحة واسعة استعملتها الأنظمة الديكتاتورية عبر عشرات السنين لقمع الشعوب، وكان النظام السوري أكثرها وقاحة في ذلك. وكما فعل بداية الثورة يفعل الآن، يصوّر الجنود والمرتزقة أنفسهم ويبثّون المقاطع للتدليل على هويّة المستقبل الواضحة، الأسد وقد حرقنا البلد.
لكن كما قالت المخرجة وعد الخطيب، قبل أيامٍ أيضاً: “لقد تجرّأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة”، ومن تحمّل البراميل والصواريخ البالستية والقنابل الفراغية والكيميائي، قادر على استيعاب صدمة نبش القبور وإعدام رفات الموتى مجدّداً. سيكون على الأسد وأمثاله أن يقلقوا من قادم الأيام، فمن استطاع أن يوصل صوته عبر السينما إلى أعلى المراتب العالمية سيكون قادراً على صناعة سورية جديدة خالية من الأسد.
المصدر: العربي الجديد