غازي دحمان
لن يعني تسليم إدلب لروسيا وإيران هزيمة الثورة السورية، بقدر ما هو اعترافٌ بأمر واقع، أن السوريين غير مجهّزين لمواجهة ثاني قوّة جوية على مستوى العالم تعمل بكامل طاقتها التشغيلية، في بيئةٍ تضاريسيةٍ غير مساعدة للمقاومة، والأهم في بيئة دولية، أغمضت عينيها عن المقتلة السورية، حتى إن بيانات الشجب والاستنكار صارت عزيزة عليها، فيما تفتك أحدث نسخ المقاتلات الروسية بلحم السوريين.
لم يعد ثمّة مبرّر للاستمرار في هذا الجحيم، ولم يعد ثمّة مبرّر أصلاً للقتال. حتى مقولة “استنزاف نظام الأسد” لم تعد منطقية، ما دام يجنّد أبناء مناطق المصالحات، عنوة، ويضعهم في مقدمة صفوفه ليموتوا في مواجهة قوى المعارضة، فالقاتل والقتيل هم أنفسهم الذين يرغب الأسد، ومن خلفه إيران وروسيا، في التخلص منهم.
ولم يعد ثمّة مبرّر للقتال، طالما أن جبهة النصرة وأضرابها هم بدائل نظام الأسد في المناطق المحرّرة من سلطة الأخير، فهؤلاء لا يستحقّون الدفاع عن وجودهم، ولا عن مشاريعهم الظلامية، والدفاع عنهم لا يختلف عن الدفاع عن مشروع الأسد نفسه.
ولم يعد القتال ممكناً في ظل اختلال ميزان القوى بشكل كبير لصالح الطرف الآخر، الذي يملك حلفاء لديهم مشاريع جيوسياسية، ويرصدون موارد هائلة وإمكانات معتبرة لتحقيقها، فيما الطرف الآخر لا سند ولا ظهير له. أما تركيا فهي، في نهاية الأمر، ستفاضل بين مصالحها التي ليست في إدلب، بل مع روسيا التي يتجاوز حجم تجارتها معها ثلاثين مليار دولار، وتزوّد تركيا بالغاز، وتبني أربع محطات نووية، وترسل أكثر من خمسة ملايين سائح سنوي إليها.
أين المعارضة السورية، أين أصحاب التقدير والمسؤولية؟ ألم يدرك هؤلاء أن المعركة خاسرة لا محالة، وأن إطالتها لن تغيّر الوقائع، ومن المستحيل قلب المعادلة لصالح المعارضة. لماذا لا يطالب ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، أو الهيئة العليا للتفاوض، بوقف هذه المقتلة؟ إذا كان هؤلاء يشتغلون سياسةً، فقد آن الأوان أن يفهموا أنها فنّ الممكن، وعليهم المفاضلة بين خياراتٍ كلها سيئة، وأن الفرصة الممكنة هي تقليل الخسائر قدر الإمكان، هل يعتقدون أن إغراق نظام الأسد وروسيا إدلب بالدم والدمار سيغيّر من الواقع؟ ثم إن الناس الموجودين في مناطق المعارضة هم مسؤولية المعارضة بالدرجة الأولى، لأنهم بيئتها وناسها.
لماذا لا يذهب وفد من المعارضة إلى روسيا، ويتفاوض بشكل مباشر معها، ولا يضع سقوفاً عالية لطلباته، بل يجعلها في حدود الممكن، بحيث تؤمّن أكبر قدر ممكن من الأمان لمن تبقّوا في إدلب، وتؤمّن عودة مئات آلافٍ يقطنون في العراء إلى بيوتهم، وحسناً إذا قبلت روسيا بصيغةٍ مشابهةٍ لما حصلت في بعض مناطق درعا. صحيحٌ أنها صيغة هشّة، وأنها مكّنت نظام الأسد من التحكّم في المجتمعات المحلية في درعا، ولكن يمكن تحسينها في إدلب، من خلال إعطاء المجتمع المحلي دوراً أكبر، وروسيا ستوافق على هذه الصيغة، لأن ذلك سيؤكد على مقولتها، الزائفة، أنها في سورية من أجل إحلال السلام.
مؤكدٌ أنه سيكون صعباً تقبّل مثل هذه الحلول التي هي بمثابة تجرّع كأسٍ من السم بالفعل، لكن ما هي البدائل؟ يقول المنطق إنه في ظل هذه المتغيرات الجارفة، من الخطأ على المعارضة حصر خياراتها في الانتصار على الأسد عسكرياً، أو انتظار أن يضغط العالم على روسيا لإجبارها على القبول بعملية سلام عادلة، فقد ثبت بالملموس أن هذين الخيارين غير واقعيين، ويقتضي التفكير السليم البحث عن خيارات وبدائل أخرى أكثر واقعية.
كما أن خيار إطالة الحرب ليس في مصلحة السوريين، بل يخدم الأسد، ومن خلفه روسيا وإيران، إذ يتيح لهما تفريغ سورية من أكثريتها العربية السنية، الأكثرية التي دفعت أثمانا فظيعة، والتي باتت الحرب تشكّل ذريعة لتلك الأطراف، لاستمرار الهجوم عليها وتمرير مشاريعها في سورية، كما أن تدمير مدن الأكثرية وتحويلها إلى أماكن غير قابلة للحياة عامل مساعد لبقاء السوريين في مناطق اللجوء، داخلياً وخارجياً، وربما على شريط الحدود.
يستفيد نظام الأسد من استمرار الحرب، إذ يستطيع قمع كل صوتٍ معارضٍ في المناطق التي يحكمها؛ فإذا طالب أحد بتوفير الوقود للتدفئة، ينبري شبّيحة النظام بتذكيره بأن “الجنود” الذين “يدافعون” عنه يقيمون في البرد والعراء، وإذا طالب أحد بتوفير الخبز، يزاودون عليه بأن أولئك “الجنود” لا يأكلون خبزاً ساخناً مثلهم، فالحرب ورقة قوية بيد الأسد، وليست ورقة ضده.
الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع أن هذا النظام بات أضعف بكثير من أن يحكم سورية، أو بلغة أدق يديرها، وعندما تسكت مدافع الحرب، سيصعب عليه مغادرة العقلية العسكرية والتحوّل إلى عقلية التطوير والتعمير، وهي الاستحقاقات التي تنتظرها سورية، وهي الاستحقاقات ذاتها التي ستطيحه.
وعندما تسكت المدافع، فإن معسكر الأسد مرشّح للتفكّك، سيتقاتل حلفاؤه ومؤيدوه على الحصص، وهم بدأوا. صحيحٌ أن أصواتهم خافتة، لكن ذلك بسبب ضجيج المدافع، سيطالبون بما يعتبرونه حقوقهم، وليس لديه ما يقدّمه لهم، وسيدركون، من روسيا إلى إيران إلى شبيحته وأنصاره، أنهم مع بقاء الأسد لن يحصلوا على ما يعوّض خسائرهم القاسية.. تسليم إدلب لروسيا قد يكون تحريرًا للمعارضة من وضع قاسٍ للانطلاق إلى أوضاع أكثر جدوى وقابلية للتطبيق.
المصدر: العربي الجديد