د – زكريا ملاحفجي
نعيش اليوم في عالم متطور سريع التقدم والتقلب، يُحترم فيه الأقوياء ولا يُرحم الضعفاء، وإنّ أبرز ما يميّز القوة في عصرنا الحالي، الإدارة وحسن التخطيط والتنظيم، والقدرة على توظيف الإمكانات المتوفرة، واستثمارها الاستثمار الأمثل عبر “مؤسسات” تُحسن العمل، وتملك رصيد تراكمي من الخبرات، قادرة على التعامل مع كل المواقف والحالات.
إن الحالة التي وصلت إليها الساحة العربية عموماً، والثورة السورية بخاصة، لا تخفى على أحد حجم نكبتها، وربطها بمرابط ومصالح دولية فاقت المطالب السورية في الحرية والديموقراطية، وبات الصراع الدولي على الجغرافيا السورية، وضعفت الأطراف السورية بشكل كبير جداً لأسباب كثيرة، ساهمت في ذلك عوامل كثيرة، منها ما هو معلوم، من فتح النظام كل الأبواب لحالة الدولة واللا دولة (المليشيات)، تتمركز في الانتشار العسكري لتساعده في قمع شعبه والقضاء على الاحتجاج، ومنها ما هو متعلق بغياب المؤسسات القوية، سواء كانت سياسية، كالأحزاب، أو اقتصادية أو اجتماعية، أو حتى دينية، وهذا جعل مصير الحالة مرهون في يد فرد، عمل على تغوّل السلطة على مؤسسات الدولة، فما عادت مؤسسات بالمعنى الإداري، بل شبه مؤسسات بشكل صوري فقط.
والأمر الآخر، بقي الشعب المحتج والصامت بلا قوى جمعية تنظمه وتوجهه وتدافع عن حالته، وتسعى الى مصلحته، عبر تجمع وتراكم خبرات وطاقات، بل بقيت الحالة مشتتة بلا مؤسسات قوية وفاعلة، لذلك التفّت حول أي قوى غير محلية من التي تتوسّم فيها العون، وهذا أضعف السوريين كثيراً.
وربما نتعجب إلى اليوم، أنه ليس هناك أي حزب يمكن أن يتجاوز عدد أعضاؤه عشرة آلاف عضو! ولا حتى مؤسسة عسكرية وطنية مقاومة بشكل منظم، إذ في أحسن الأحوال هي حالة تجمع قوى عسكرية. لا تتجاوز الكتلة الواحدة أو الفصيل العسكري، عملياً عشرة آلاف، وكذلك، ليس هناك مؤسسات اقتصادية قوية، فقد عمل النظام على سلبها وتحطيمها منذ التأميم بغير وجه حق، وهذا التشويه الاقتصادي الكبير، قضى على المؤسسات الكبيرة الصاعدة، وكذلك لم تنشأ أو تنتقل المؤسسات إلى مناطق خارج سيطرة النظام، لتكون قادرة على توظيف آلاف العمال، وتشكل من العمال وأسرهم حواضن اجتماعية قادرة على التأثير.
وبقي الاقتصاد اقتصاد الحرب، تتجمع السيولة النقدية حول الحالة العسكرية، وبعض الأعمال البسيطة والمتوسطة. وهذا مؤشر خطير للغاية، فلا توجد دول أو شعوب، لا سيما بحالة صراع، يمكن أن تواجه وتحقق مكاسب نجاح، بلا قوى جمعية ومؤسسات حقيقة فاعلة، وليست صورية، وهذا الوهن سمح لأن تكون سوريا ساحة مفتوحة لأي كان.
إن الدول الصديقة والشقيقة، دعمت الحالة الموجودة المبعثرة بلا اصلاح لها، ولا ساندتها بالشكل الصحيح، بذريعة أنه لا رغبة دولية لوجود حكومة مقابل حكومة رسمية، وإنما انتقال سياسي وإصلاح الموجود.
وعلى الرغم من الافرازات الكارثية الإنسانية والأمنية التي حلت بالمنطقة والعالم، عبر أمواج من اللاجئين، وتغلغل بعض القوى المتطرفة، واستشرى القتل والانتهاكات، كان لزاماً أن تتخلص القوى الثورية والمعارضة من التشرذم والتفرق، وتواجه هذا الصراع العنيف والمتوحش بحالة منظمة، وعبر مؤسسات قوية، تجمع الخبرات والكفاءات، وتنسج بينهم لإنتاج أفضل منتج، قادر على لعب دور وطني في هذا الصراع العنيف المتلاطم الأمواج، ونتائجه القتل والتدمير.
لا نتائج جيدة بلا تخطيط جيد وعمل جيد، فالبؤس والفقر والهزيمة هي سلوك، والنهوض والنصر هو قرار يسلك فيه الإنسان الطريق الصحيح والمناسب، ليحقق النتائج المرجوة، والفوضى الغاضبة قد تهدم ترسانة الاستبداد الجاثمة فوق الشعوب، لكنها أبداً، لا تبني صرحاً وطنياً حضارياً.
وقد يقول أحدهم: هذا مرتهن بشعوب من دون أخرى، وثقافة من دون أخرى، فأقول: عندما ننظر لمجتمعات تسكن جغرافية واحدة، وتحمل ثقافة واحدة، نلاحظ الفرق، فالكوريّتين مثلاً، والألمانيتين سابقاً، والشعوب الاستوائية، وماليزيا مثلاً، نجد الفروق شاسعة، على الرغم من الجغرافيا الواحدة، والقومية الواحدة، والثقافة الواحدة، لكنها المؤسسات القوية في الفضاء الحر ديموقراطياً، والإدارة الجيدة الناجحة لهذه المؤسسات.
رحم الله القائل: ..ولم أرَ في عيوب الناس عيب كنقص القادرين على التمام.
المصدر: المدار نت