عمار ديوب
يُعدّ عبد الحليم خدّام، الذي توفي قبل أيام في باريس، جزءاً عضوياً من نظام البعث في سورية، وليس في نظام الأسد، كما أصبح بعد السبعينيات، حيث انخرط في هذا الحزب منذ فتوته، وأصبح في العام 1964 محافظاً على حماة، وساهم بقمع انتفاضتها حينها. ولاحقاً، تدرّج في النظام، حتى أصبح نائباً للرئيس حافظ الأسد عام 1984، ولبشار الأسد عام 2000. ظل دوره في الجانبين، السياسي والدبلوماسي، للنظام، ولا دور عسكريّاً أو أمنيّاً له. ولم يكن هذا الدور المحدّد هامشيّاً، فقد ساهم خدّام في تشييد النظام، ومُمَكِناً إياه في اللحظات المفصليّة، 1964، 1970، 1984، 2000. في هذه التواريخ، كان لخدّام دورٌ كبير؛ ولو تجاوزناها، فقد كان لاعباً أساسيّاً في السياسة الخارجية للنظام، وليس فقط في لبنان، حيث سُمّي المندوب السامي هناك، ولعب دوراً مركزياً حتى 1998. ولا يُحسب خدّام واجهة سنيّة فيما قام به، وكذلك مصطفى طلاس ووليد المعلم وسواهما.
نظام الأسد فرديٌّ. وضمن هذا المنظور، كان تكليف الأفراد، ومهما كانت طوائفهم. القضية تكمن في الثقة، وفي رؤيته إلى الأفراد وتقييمه لهم؛ وإنْ كانت أغلبية قادة الأجهزة الأمنيّة من العلويين، فيما الحكومة وحزب البعث ومختلف مؤسسات الدولة، بما فيه الجيش (!) من السنة، والعلويين بالتأكيد، ولا يعني هذا أن النظام كان طائفيّاً، بل هو شموليّ، وقد حَكمَ الأسدان سورية عبر الأجهزة الأمنيّة أولاً، وعبر مختلف المؤسسات السياسية والاقتصادية ثانياً، وضمن آلياتٍ غير شفافة، وفيها فسادٌ ونهب كبيران، ونشأت طبقات اجتماعية بسبب ذلك. المقصد أن أسوأ ما يشوب التحليل السياسي السوري هو الركون إلى بساطة التحليل الطائفي، فهو يريح العقل والتفكير من عقلنة وقوننة الحوادث والتاريخ والسياسة، إلى تفسيرٍ هوياتيٍّ بسيط. السؤال هنا: لماذا نجد هذا التفسير لدى كثيرين، بهذه الدرجة أو تلك؟ هذا سؤالٌ محوريٌّ عمّا يدور في الوعي السوري، ويجدر تحليله بعمقٍ.
عودةً إلى خدّام، والواجهة السنيّة المتوهمة، وأن النظام “العلوي” يتستر خلفها! خدّام وطلاس وآخرون ممثلون أصيلون في النظام “من الدرجة الثانية” قبل الحركة التصحيحية، وساهموا بإنجاح هذه الحركة، وبالضد من النظام السابق. ولو تأملنا ذلك، نجد أن رأس حربة النظام السابق كان “علوياً”، أي صلاح جديد، وحافظ الأسد كذلك، وفي النظامين سنجد تنوّعاً دينيّاً. الحسبة البسيطة هنا تقول إن علينا تفكيك النظام السوري بمرحلتيه، وحتى ما بعد عام 2000، حيث نجد في النظام خليطاً مجتمعيّاً ومن كل الطوائف. دراسة هذا النظام من الزاوية الطائفية مضيعة للوقت وللجهد وتشويه للتاريخ، ولكن ألم تكن الطائفية موجودة فيه بهذه الدرجة أو تلك؟
النظام شموليٌّ، ووريث تجربةٍ اشتراكيّة سابقة، ومنفتحٌ على الاتحاد السوفييتي ومؤسساته، وأقلّه بين 1970 و1980، وقبل ذلك بالتأكيد. تستند شمولية النظام إلى مركزية حافظ الأسد فيه، وإلى حزب البعث والأجهزة الأمنية، وما عدا ذلك هناك توظيف للبنى الأهلية القديمة، والاعتماد عليها بأشكالٍ مختلفة، من أجل تدعيم السلطة وديمومتها، وهناك حرب الثمانينيات، والتي فرضت تسيّساً أكبر للمسألة الطائفيّة على النظام والمجتمع؛ أقول، ومع ذلك، ومع نهايتها، وجدنا رأس النظام يطرد رفعت الأسد، أي أهم شخصيةٍ ساعدت في حرب الثمانينيات، وربما في تدعيم سلطته منذ السبعينيات. هنا يجب الخروج من لوثة الطائفيّة لنتمكّن من الرؤية وتفسير الوضع؛ فالرئيس عسكريّ، ويريد أفراداً مقرّبين منه، وموثوقين بشدٍة، وفي ذلك لن يغامر، حيث هناك مشكلات سابقة قبل التصحيح، وكانت لبعضها ملامح طائفيّة، والمسألة قابلة للتكرار! وبالتالي، عمِلَ على ضبط مؤسّسات الدولة، عبر إشرافه الشخصي المباشر، واستخدام البنى المجتمعية/ الأهلية، وراح يمنحها المناصب، وإغماض العين عن فسادها وإفسادها، وفي ذلك شاركت العشائر والطوائف والمذاهب، أقصد شخصيات منها، ومستعدّة للفساد والخضوع المطلق. لا يشذُّ العلويون عن ذلك، ولا سواهم، ومن حاول المعارضة قُمِعَ بشدّةٍ؛ فلنلاحظ مصير آلاف المعتقلين السياسيين من الطائفة العلوية، وكذلك كل من خرج عن عبودية الولاء.
ما جرى في سورية هو كأيّ نظامٍ فرديٍّ، وشموليٍّ، يتم تجهيز الأولاد للحكم، وليس بالضرورة أن يحدث الأمر ذاته في كل التجارب الشموليّة. خدّام، الذي كان لديه حضور فاعل في النظام، وصداقة متينة مع حافظ الأسد منذ خمسينيات القرن الفائت، ولعب دوراً مركزيّاً في أثناء مرض الأخير في 1983، وعُيّنَ بعدها نائباً للرئيس، أخذته الأوهام عام 2000، وربما منذ 1984، واعتقد أن أركان النظام السوري سينقلون الرئاسة إليه؛ فهو البعثي القديم، والموثوق به، والصامت والمشارك في كل أوجه الفساد والنهب في الدولة، ولديه العلاقات السياسيّة القويّة في كل دول الجوار!
كان ذلك وهما كبيرا أمكن لمسه لمس اليد، ولكن ماذا نفعل مع أحلام الرئاسة؛ فقد أُبعِد عن ملف لبنان 1998، وحُجِم من دوره نائبا للرئيس، حيث هناك نواب آخرون، وحينما جاءت لحظة انتقال الحكم، فُرِضَ عليه استلام الرئاسة أقل من شهرين، وفيها تمَّ تغيير الدستور، وسواه كثير، وأعطي فقط نيابة الرئيس، كما شأنه من قبل، ومتابعة الدفاع عن النظام، ولا سيما في أثناء ربيع دمشق، وقام بدوره بأفضل مما يفعله سياسيّ مخلص لنظامه. هنا، وبعد عام 2000، ومع إجراء تغييراتٍ في الشخصيات الرئيسيّة في النظام، شعر الرجل أن أجله قد حان؛ فلم تُقبل استقالته من مناصبه، ولكن تسوية ما تمّت حينها، وخرج من البلاد، كما مصطفى طلاس، ولكن شريطة ألا يفشي أسرار النظام بكل بساطة.
أيضاً صمت خدّام، ولم يقرأ أحد مذكراته التي ادّعى أنّ ذهابه إلى فرنسا إنما كان من أجل كتابتها، وحتى حينما اتهم بشار الأسد بقتل رفيق الحريري لم يكن معارضاً حقيقياًّ له، وكذلك حينما شكل جبهة الخلاص مع الإخوان المسلمين وآخرين. عبد الحليم خدّام هو كالنظام فاسد، وهذا طبيعيّ حينما يتدرج في المناصب الحكومية، ويصل إلى منصب نائب الرئيس مرتين. بعيداً عن ذلك، إن اعتباره إحدى الواجهات السنيّة للنظام كلامٌ طائفيٌّ بدرجةٍ ما، ولنقل إنه مشوّش. كان النظام السوري تعدّدياً في رجالات حكمه، وفرديّاً في رئاسته، وشموليّاً مع الجميع، وتمييزياً في المناصب، ووظف البنى الأهليّة من أجل تأبيد سيطرته.
السلطة الحاكمة في سورية، شكلها وأدارها الرئيس حافظ الأسد، وهي من بعده لعائلته. أما سبب ذلك، فيعود إلى قضايا كثيرة، وليس دونه ضعف الاقتصاد الصناعي، وغياب وعيّ حداثيٍّ متطوّرٍ وسيادة البنى المجتمعية المتأخرة، وبالتأكيد غياب الحرّيات، وهذا من الوهم بمكان تصوّره في نظامٍ استبداديٍّ وفردي؛ لذلك كله، أدى دوراً في تشكيل السلطة الحاكمة. بإيجاز: نظام السبعينيات في سورية هو نظامٌ شموليٌّ، حكم بنية مجتمعيّة متخلفة، وزادها تخلفاً، وبالتالي، عبد الحليم خدّام، كان أحد رجالاته، وليس أكثر.
المصدر: العربي الجديد