رامي عزيز
منذ الإعلان عن الإصابة الأولى المؤكدة بفيروس كورونا في إيطاليا في أواخر شهر كانون الثاني/يناير، انتشر الفيروس في كافة أنحاء البلاد بسرعة غير مسبوقة، حتى أصبحت إيطاليا اليوم إحدى أولى بؤر هذا الوباء العالمي مع استمرار عدد الإصابات المؤكدة والوفيات بالارتفاع بالرغم من أن فرض إجراءات التباعد الاجتماعي يمنح بعض الأمل للشعب الإيطالي.
وفيما تسببت تدابير الإغلاق الصارمة التي فرضتها الحكومة الإيطالية بقلب حياة الكثيرين رأسًا على عقب، خلّف الوباء تأثيراته على الدولة الإيطالية بحكم موقعها في حوض البحر الأبيض المتوسط. فأعداد المهاجرين الضخمة الموجودة في إيطاليا والمنحدرة معظمها من الدول الأفريقية، معرّضة بشكل خاص لأن تتحول إلى تجمّع جديد يتفشى عبره الفيروس. وفي الصورة الكبرى، نرى أن رد فعل الدول الأخرى إزاء المأساة الإيطالية دفع الإيطاليين من مختلف الأطياف إلى التكاتف معاً في ظل تنامي الاستياء من الاتحاد الأوروبي. ومن شأن هذا التوافق المتجدد أن يؤثر على الرأي العام فيما يتعلق بأهم قضايا السياسة الخارجية، على غرار مسألة ليبيا.
دور اللاجئين في تعقيد إجراءات الإغلاق التام في إيطاليا
مع فرض الإغلاق التام على البلاد بأسرها وإقفال المؤسسات غير الأساسية، أصبحت تجمعات المهاجرين الضخمة في إيطاليا، نفسها معرّضة بشكل خاص للخطر. فإيطاليا هي مقصدٌ للكثير من المهاجرين من دول شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى الراغبين في الهرب إلى أوروبا، ويسافر نحو 82 في المائة من المهاجرين إلى أوروبا عبر الممر البحري بين ليبيا وإيطاليا. وقد وصل إلى إيطاليا 492841 لاجئ ومهاجر بالزوارق بين كانون الثاني/يناير 2015 وآذار/مارس 2020.
والجدير بالذكر هو أن الرحلة البحرية بين ليبيا وإيطاليا غدّارة وقاتلة، إذ تسببت منذ العام 2015 بغرق نحو عشرة آلاف شخص. واليوم يتفاقم خطر الغرق مع تفشي الوباء، بسبب تعليق خدمات الإنقاذ منذ أواخر شهر شباط/فبراير. بالعادة تسيّر المنظمات غير الحكومية دوريات في وسط البحر المتوسط لإنقاذ المهاجرين من الزوارق المنقلبة، لكنها اليوم أوقفت هذه المنظمات عملياتها بسبب اشتداد خطورة الفيروس في أوروبا، مع الإشارة إلى أن حرس السواحل الإيطالي كان قد أنقذ في الماضي أعداداً تصل إلى خمسة آلاف شخص في اليوم.
فضلاً عن ذلك، فرضت الحكومة الإيطالية الحجر الصحي لمدة أسبوعين على كافة السفن التي ترسو في الموانئ الإيطالية نظراً لتفشي الفيروس. وبالتالي، توقفت مؤقتاً الخدمات العديدة التي تُعنى بمساعدة اللاجئين، أو اضطرت إلى تقليص عدد موظفيها التزاماً بقرار الإغلاق التام في إيطاليا.
ونظرًا لحدة تفشي الفيروس في إيطاليا، يخشى الكثيرون أن تكون الشرائح السكانية الضعيفة هي الأكثر تضرراً منه. وأولئك الذين نجحوا في الوصول من ليبيا إلى إيطاليا قد يكونون عرضةً لخطر الإصابة أكثر من سواهم بسبب رداءة الظروف المعيشية في ملاجئ إيطاليا المكتظة. فبعض المراكز تضم عشرة أشخاص في كل غرفة، وبذلك يستحيل تطبيق تدابير السلامة الصحية والتباعد الاجتماعي الموصي بها. وما يزيد هذه المخاطر حدةً هو النقص في المياه الجارية والمواد المعقمة في تلك المراكز، خصوصاً في المراكز الواقعة في جنوب إيطاليا. وقد دفعت هذه الظروف المروعة وزيرة الداخلية لوتشيانا لامورجيزي إلى المطالبة بخطة تشمل إعادة توزيع هؤلاء المهاجرين على المراكز المختلفة المنتشرة في إيطاليا، في محاولةٍ لتخفيف الضغط على مراكز الإيواء المتواجدة عند الخطوط الأمامية.
مع ذلك، تبذل بعض المنظمات جهودًا أكبر لرفع الوعي لدي المهاجرين وإشراكهم فيما يجري من خلال معالجة الحواجز اللغوية. فغالبية المعلومات المتوفرة عن فيروس كورونا تتجاهل هذه النسبة الكبيرة من السكان الذين قد يحتاجون إلى هذه التوجيهات بلغات أخرى. لذلك، أطلق عدد من منظمات المجتمع المدني الإيطالي حملات توعية بين المهاجرين حول مخاطر الفيروس وكيفية وقف تفشّيه. على سبيل المثال، قامت جمعية “أركا دي نوي” بإنتاج أفلام تثقيفية ومنصات إلكترونية متعددة اللغات، كالعربية وغيرها، حول الممارسات اللازمة لكبح تفشي الفيروس.
ويُشار إلى أن الاتحاد الأوروبي وإيطاليا، في محاولة لضبط الهجرة غير الشرعية من ليبيا، وضعا سلسلة مشاريع تهدف إلى تأمين الحدود الليبية وفي الوقت نفسه الحد من الهجرة غير الشرعية. ومنذ ثلاث سنوات، أبرمت إيطاليا وليبيا اتفاقيةً ساعدت السلطات البحرية الليبية على إيقاف الزوارق وإعادة الأشخاص إلى مراكز الحجز. كما عملت إيطاليا على تدريب وتجهيز خفر السواحل الليبي وأجهزة أخرى لإبقاء المهاجرين داخل ليبيا. ومنذ إبرام الاتفاق في العام 2017، تم ضبط نحو أربعين ألف شخص وإعادتهم إلى ليبيا، من بينهم 947 شخصًا في شهر كانون الثاني/يناير من هذا العام.
احتمال حدوث تغيّر في الهوية: تعامل إيطاليا مع فيروس كورونا
في المقابل، انطوى هذا الوباء على جانب إيجابي غير متوقع، وهو قدرته على توحيد الإيطاليين على اختلاف خلفياتهم. فقد أظهر السكان من مختلف الأديان والجنسيات بوادر تضامن غير مسبوقة في إطار المسعى الجماعي للتغلب على الوباء. وهذا التضامن ضروري، فمن المرجّح أن تعيش البلاد تبعات هذا الفيروس الفتّاكة لسنوات طويلة، والوضع اليوم يوصف بأنه أسوأ من الدمار الذي تبع الحرب العالمية الثانية.
في هذا السياق، أظهر المسلمون في إيطاليا، الذين تضاعف عددهم خلال السنوات العشرين الماضية إلى نحو مليون ونصف المليون، تضامنًا لافتاً مع الشعب الإيطالي في هذه الظروف. فقد بدأ بعض الأئمة بالظهور على مواقع التواصل الاجتماعي في بثٍّ مباشر من المدن المتضررة، ليطلبوا من المسلمين الالتزام بالقوانين وإجراءات الحجر الصحي المفروضة لمكافحة الفيروس. كما أطلق الأئمة مبادرات دعم للمستشفيات، من بينها حملات للتبرع بآلاف الكمامات الطبية. ويتم أيضاً بذل جهودٍ كبيرة، من أجل التركيز بشكل رئيسي على محاربة الشائعات المتناقلة عن حرق جثث المصابين بالفيروس – وهو عملٌ يتعارض بشدة مع المعتقدات الإسلامية ومن شأنه إثارة بلبلة كبيرة بين المسلمين. واللافت هو أن إيطاليا ظلّت تحترم عادات وتقاليد كل الأديان في هذه المرحلة الحساسة، فحرصت السلطات على توصيل جثث المسلمين إلى الأئمة ليوارَوا الثرى وفق مراسم الدفن الإسلامية، على أن يتم الالتزام بشروط السلامة التي تستوجب ألا تُقام مراسم الدفن بشكل يعرّض الآخرين لخطر التقاط العدوى.
ومن الملحوظ أن حسّ التضامن الإيطالي هذا يظهر في مرحلةٍ يزداد فيها الإيطاليون انتقاداً لفشل الاتحاد الأوروبي في مساعدة إيطاليا. فقد عمدت ألمانيا وجمهورية التشيك كلتاهما إلى منع نقل المعدات الحيوية، ومع إقفال الحدود ضمن منطقة شنغن – الأمر الذي كشف عن ضيق حدود هذه الاتفاقيات – تدخّلت الصين وروسيا بطرقٍ أثارت لدى الإيطاليين شعوراٍ صادقًا بالمودّة وحسن النية تجاههما. وإذا أصبحت هذه المودة شعوراً دائماً، من الممكن أن يؤثر هذا التحول على سياسة إيطاليا الخارجية في منطقة المتوسط فيما يعمل كلٌّ من الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين على تأمين مصالحه في شمال أفريقيا.
والواقع أن مسألة تنامي النفوذ الروسي – وبدرجة أقل النفوذ الصيني – في شمال أفريقيا ليست بالقضية الجديدة. لكن الانشقاقات الظاهرة داخل الاتحاد الأوروبي تحت وطأة الكورونا تشير هي أيضاً إلى احتمال حدوث تبدّل في مواقفه من الصراعات في الشرق الأوسط التي كانت في السابق محط صدامٍ بين الاتحاد الأوربي وروسيا. وفي خضم الصراع الذي تعيشه أوروبا، قد تميل إيطاليا إلى تأييد تعاظم النفوذ الروسي والصيني في دولٍ مثل ليبيا وسوريا – أو أقله التعامل بحياد مع الأمر.
ولا بد من الإشارة إلى أن ليبيا تتمتع بأهمية خاصة بالنسبة لإيطاليا نظراً لقُرب موقعَيهما الجغرافيين وماضي إيطاليا الاستعماري في ليبيا. واليوم، تعتبر روما الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا قضية أمن قومي بسبب سيل الهجرة غير الشرعية والإرهابيين الوافد من ليبيا. وفيما تؤيد إيطاليا “حكومة الوفاق” المدعومة من الأمم المتحدة، تقدم روسيا دعمًا كبيراً للواء حفتر.
ومع تبنّي فرنسا موقفًا مناقضًا للموقف الإيطالي، من الممكن أن تتخلى إيطاليا شيئًا فشيئًا عن موقفها الراهن، لا سيما بعد فشل مساعيها للتوسط في النزاع.
الأرجح أن وباء الكورونا سيرسم مستقبل إيطاليا في السنوات المقبلة، بأشكال لا ترتبط ارتباطًا فقط بمجال الرعاية الصحية. فما بين مشاكل الهجرة المستمرة التي تواجهها إيطاليا، وتكاتف مختلف فئات المجتمع في هذه المرحلة الاستثنائية، من الممكن أن تشهد إيطاليا تبدّلاً في هويتها، قد يصبح خاصيةً ثابتة من خصائص هذه الدولة.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى