إيفا كولوريوتي
في صباح الرابع عشر من الشهر الماضي هزت الانفجارات منشأة البقيق التابعة لأرامكو في أقصى الشرق السعودي، هذا الهجوم الذي أعلنت ميليشيا الحوثي وقوفها خلفه وضع العالم بأكمله أمام تصورات جديدة، فالهجوم بقيمته المادية ليس بالأمر الجلل كما أنها ليست المرة الأولى التي تشن بها ميليشيا الحوثيين هجمات ضمن العمق السعودي إلا أن المختلف هذه المرة مرتبط بنقطتين:
الأولى أن الهجوم أصبح مؤكداً تنفيذه من شمال المملكة لا من جنوبها..
أما النقطة الثانية فهو الموقع المستهدف وهي شركة أرامكو والتي تعتبر عصبا أساسيا في الطاقة العالمية، ومع مرور الساعات وبين تغريدة لترامب وتصريح لمسؤول سعودي انتهت المحنة بإعلان وزارة الدفاع الأمريكية عن إرسالها المزيد من المنظومات الدفاعية لشرق المملكة، بالمقابل أعلنت الرياض عن فتحها تحقيقاً دولياً بالهجوم وتجنبها توجيه التهم المباشرة نحو طهران كرسالة تهدئة واضحة والتي لحقتها مبادرة عمران خان وعادل عبد المهدي.
قيادة القطب الواحد
قد لا يكون هناك بجديد في رد الفعل الأمريكي في ظل القيادة الحالية أو بالرد السعودي في ظل التخبط الداخلي والإقليمي والدولي إلا أننا كمراقبين يتوجب علينا وضع النقاط على بعض الحروف المبهمة المرتبطة بهذا الهجوم.
في البداية يجب التأكيد على مبادئ أساسية وضعت ما بعد الحرب العالمية الثانية ثم تم تأكيدها ما بعد الحرب الباردة وتحول العالم نحو قيادة القطب الواحد متمثلاً بواشنطن مع نظام دولي متمثل بالأمم المتحدة ومجلس الأمن، وضمن هذا النظام تم التأكيد على بعض الخطوط الحمراء التي توجب على واشنطن والنظام الدولي التدخل لحمايتها، ومن هذه الخطوط الحمر كمثال: أمن الطاقة العالمي، أمن المسارات البحرية، استخدام أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وبالفعل وبالرغم من العديد من التصادمات والأزمات استمرت واشنطن حفاظها على هذه التوافقات سواء عبر الدبلوماسية والتهديد أو عبر العسكرة والعقوبات الاقتصادية، وفي تجربة ليست بالبعيدة عندما استخدم نظام الأسد السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية صيف العام 2013 وبالرغم من عدم تحرك أوباما عسكرياً لردع الأسد وجعله يدفع ثمن تخطي هذا الخط الأحمر إلا أن الدبلوماسية الامريكية استطاعت خلق ضغوطات كبيرة على الأسد دفعته لتسليم جزء من هذا السلاح كما جعلته يعيد التفكير مرتين قبل استخدامه مرة أخرى.
هذه الحادثة وهذا التحرك كان في ظل رئيس امريكي عرف عنه ضعف شخصيته وقربه من اللوبي الإيراني بشكل عام، إلا أن ما جرى ويجري خلال الأعوام الثلاثة الماضية ومنذ وصول ترامب لقيادة البيت الأبيض يجعل المجتمع الدولي عموماً يترحم على فترة أوباما.
في البداية يتوجب علينا طرح تساؤل غريب لفهم ما أرنو إليه وهو: هل العقوبات الامريكية التي وضعتها واشنطن على النظام الإيراني وبالأخص منع بيعها للنفط نعمة أم نقمة على هذا النظام؟
نعم تساؤل ذو أهمية وجوهري اضطررت لوضعه على الطاولة من جديد، فالشعوب العربية بالمجمل تعلم علم اليقين أن أي نوع من العقوبات الاقتصادية مهما كانت درجة قوتها لن تؤدي لسقوط نظام ديكتاتوري، فما بالكم بنظام ديكتاتوري أيديولوجي يقود شعبه تحت شعارات طائفية تجعل منهم مستعدين للموت جوعاً في سبيل بقاء هذا النظام، وبالتالي فإن العقوبات بشكل واقعي لن تغير أي أمر في المنطقة، فلن تجعل إيران تحجّم من تحركاتها الميليشياوية في الشرق الأوسط كما لن تمنعها من إيقاف برنامجها الصاروخي، وبالتالي فإن جدوى العقوبات هو صفر حتى هذه اللحظة، لكن هل استفادت إيران من هذه العقوبات؟ والجواب هو نعم.
فوائد العقوبات
الفوائد التي حصل عليها النظام الإيراني من العقوبات الأمريكية ليست ضمن ملف واحد وإنما في عدد من الملفات وهي: لا يستطيع ظريفي أو روحاني مهما حاولا أن يغطيا الشمس بالغربال فإيران وعلى لسان العديد من مسؤوليها أصبحت تسيطر بشكل عام على أربع عواصم عربية من خلال ميليشيات دعمتها أو شكلتها إلا أن ما جرى ما بعد العقوبات هو أن طهران وتحت غطاء الرد عن على هذه العقوبات زادت من انتشارها العسكري في المنطقة فزادت من دعمها لهذه الميليشيات بالسلاح كما ضاعفت من وجود قوات إيرانية في هذه الدول الأربع، وكما أكدته العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية فإن طهران ما بعد العقوبات زودت عدد من ميليشيات الحشد الشعبي بالمئات من الصواريخ البالستية والتي قد يصل مدى بعضها ل 700 كم، وهو ما أكدته الضربات المتكررة مؤخراً من قبل سلاح الجو الإسرائيلي لمواقع تابعة للحشد، كما تحول الشرق السوري بشكل واضح لمزرعة إيرانية بلا منازع وتوّجت هذا التواجد بافتتاح معبرها الخاص في مدينة البوكمال، هذا الدعم المتزايد والانتشار المتسارع لم يكن ليحدثا بهذا الشكل الفج دون وجود هذا الغطاء المسمى بالعقوبات.
خلال هذا الصيف استطاعت إيران خرق العديد من الأعراف والقوانين الدولية دون أي رادع، فمن هجمات الفجيرة والقرصنة البحرية التي نفذها عناصر الحرس الثوري تكون طهران قد اعتدت مراراً وتكراراً على أمن المسارات البحرية، وبين تفجير خط الغاز السعودي وهجمات أرامكو تكون طهران قد ضربت وبقوة أمن الطاقة العالمي، هذه التصرفات اللاأخلاقية لا يمكن توصيفها سوى بالإرهاب الدولي لو ارتكبتها قوة سنية، إلا أنه في الحالة الإيرانية اعتبرت هذا الهجمات بوجهة نظر الغرب دليلاً على أن طهران قوة مهمة في الشرق الأوسط وضرورة للاستقرار العالمي، وهو أمر ما كان ليتم بهذا الشكل لولا غطاء العقوبات.
في المحصلة يمكن استنتاج وبشكل منطقي أن العقوبات الأمريكية الحالية على طهران زادت من الطين بلة، كما فاقم من سوء الوضع التصريحات المتكررة من ترامب شخصياً وتذكيره الإيرانيين بشكل مستمر أنه لا ينوي التحرك عسكرياً ضدهم كرسالة تطمين وتشجيع نحو التصعيد أكثر فأكثر، ومن هنا يمكن قراءة المشهد ضمن الأشهر القليلة المقبلة أن إيران ستستمر في منهجها التصعيدي في المنطقة عموماً وأمريكا بمنهجها اللامفهوم المبني على عقلية ترامب اللاعقلاني إلا إذا انتج تحرك الديمقراطيين في الكونغرس الأمريكي معادلة جديدة في أجواء البيت الأبيض.
تلخيصاً للمشهد في الشرق الأوسط حالياً في ظل تفرعن إيراني ممتد من البقيق حتى صنعاء وغض للطرف الأمريكي تناغماً مع التحركات الإسرائيلية حذرة مع صعود نغمات التطبيع العربي وصفقة القرن فإن الواقع الحالية للدول العربية بحكوماتها ناتج عن خيار تم اتخاذه سابقاً وكتبه شعراً الراحل محمود درويش: عرب أطاعوا رومهم… عرب وضاعوا.
المصدر: القدس العربي