مزن أتاسي
من نافل القول، إن الحديث عن الثنائيات التي أفرزتها الأحداث الجسام في القرن العشرين المنصرم، وما نتج عنها من صراعات شملت أعمق المسائل الإنسانية، سواء حين تطرح أسئلتها الوجودية الكبرى حول: الحياة والموت، الحق والواجب، العدل والقوة، الإيمان والكفر، وسواها من أسئلة تتعلق بالغيبيات طوراً، وبشروط الحياة الروحية، والفكرية والفلسفية والجمالية تارة أخرى، أم بتلك التي تمس جوهر العيش، وما يكفل له من حياة كريمة تليق بمركزية الإنسان في هذا الكون، ورسالته فيه، أمر صعب وشائك ومعقد وطويل، لكنني إذ أفتح هذا الباب أكتفي بالإطلالة على معاناة الإنسان العربي في صراعه حول أكبر ثنائيتين استغرقتا كل القرن المنصرم، وما زالتا حتى الآن تستغرقان نقاشات النخبة السياسية والثقافية، لكي تتبدى نتائجها تحولات في المجتمع، تتراوح في عمقها وفعلها بحسب فاعلية الطبقة الاجتماعية، ودرجة تعليمها وآلية اشتغالها، وماهية الفكر الذي تطرحه في قربه أو بعده عن روح الأمة، وذهنيتها وموروثها ،وأعني بهما ثنائية الدين/ القومية، وثنائية الدين/ العلمانية.
ثنائية الدين/ القومية
موضوع شائك ومعقد، ويمتد ليشمل حقبة تاريخية طويلة جداً، لكنني سأحاول التكثيف والاختصار ما استطعت.
الصراع أو – بعبارة أدق – الانشقاق بين العروبة والإسلام، لا يرجع إلى العصر الحديث الذي انعكس فيه هذا الصراع، أو الانشقاق متمثّلا بين الحركات الإسلامية المعاصرة والحركات القومية، وإنما تضرب جذوره عميقا في التاريخ إلى القرن الثامن الميلادي/ القرن الثاني الهجري، متمثلا بالانقلاب على أول دولة عربية وهي الدولة الأموية، هذا الانقلاب الذي كان نتيجة تحالف عربي/ أعجمي، كان القوة فيه للأعجمي، وأما العربي فكان الذريعة والستار. إذ بعد انتقال الخلافة للعباسيين وحتى أواسط القرن التاسع الهجري كان الخلفاء العرب يمسكون زمام أمور الدولة بقوة، من بعدها دخلت في طور الضعف وبدأ الدور الفارسي – الذي كان أصلا عنصرا مؤسسا فيها يطفو على سطح الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، ثم انتقل إلى ايدٍ تركية سلجوقية، ثم إلى أيدٍ مملوكية، ثم إلى تركية عثمانية، وهكذا ضاع العنصر العربي، وذاب في خضم بحر من الأعراق، ولم يتبق منه غير اللغة التي بقيت لأنها لغة القرآن الكريم، ولممارسة الشعائر الدينية، وبلغت أدنى مستوى لها في عصر “الانحطاط” وما لبثت أن فقدت هذا المستوى المتدني بمجيء الأتراك العثمانيين، الذين فرضوا اللغة التركية لغة الدولة الرسمية وكذلك لغة التعليم، وبقيت اللغة العربية محصورة في الكتاتيب فقط، ومن يريد متابعة تعليمه لمرحلة أعلى لا بد له من تعلم التركية.
عن الهوية العربية وصراع الثنائيات
ضاعت الهوية العربية، ولم تعرف كينونة سياسية لها، منذ الربع الأول من القرن الثامن وحتى الربع الأول من القرن العشرين، أي أن العرب لم يعرفوا لهم هوية ولا كياناً سياسياً لألفي ومائتي عاماً (اثني عشر قرنا)، ولم تعرف بعثاً لها، إلا في أواخر القرن التاسع عشر في شكل جمعيات علنية وسرية، والتي استيقظت بفضل القومية التركية التي أصبحت تدمغ الدولة العثمانية بشكل فاضح، بعد أن كانت تتوارى تحت سطح الإسلام لعدة قرون.
من هذا العرض المختصر تظهر نتيجة واضحة بجلاء: أن الإسلام فقد هويته العربية ولونه العربي، نتيجة فقدان الكيان العربي السياسي، فاتخاذ الكيان السياسي للمنطقة هويات غير عربية تحت عباءة الدين/ الإسلام، أفقد الإسلام نفسه روحه ولونه وثقافته التي أتى بها أصلا، وهنا عند هذه النقطة تبدأ صورة الصراع بين هذه الثنائية العروبة/ الإسلام تتبدى، فالعروبة المعاصرة متمثلة بالحركات القومية التي ترجع بجذورها إلى الحركات القومية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، والتي كانت تهدف إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية، وتأسيس دولة عربية موحدة تمتد من جبال طوروس حتى المحيط الهندي، وإن لم تكن بعض هذه الحركات تطمح إلى أكثر من المناداة بالمساواة بين المكونات العنصرية للدولة العثمانية، لكن النوع الأول الذي طمح للانفصال كلية، هو الذي غلب ممثلاً بالجمعية السرية التي كانت تعرف “بالجمعية السرية الفتاة”، وذراعها العسكري الذي عرف باسم ”جمعية العهد”، وإذن العروبة الحديثة ما هي في جذورها إلا حركة انفصالية عن دولة إسلامية، وعن الخلافة الإسلامية، وبالتالي فإن جوهرها يرتكز على القومية العربية، وعلى تحييد الدين إزاء مشروع إقامة الدولة.
تزداد الصورة وضوحاً إذا عرفنا إن هذا الإسلام الذي يريد القوميون العرب الانفصال عنه، بقي مسيطراً على المنطقة العربية التي هي “المشرق العربي”، لأكثر من أربعة قرون متواصلة، ذلك كان الانشقاق الأكبر الذي تعمق بوصول القوميين الروّاد أمثال ساطع الحصري وغيره، الذين لم يكونوا يقيمون وزنا ولا كبير دور للدين ، فضلاً عن المحدثين الذين كانوا علمانيين، بل إن منهم لم يكن مسلماً أصلاً كميشيل عفلق، وهذه هي الثنائية الكبرى الثانية التي أحاقت بحياتنا، وفتحت نقاشاً أضيف إلى سابقه: (لا دخل للدين في بنية الدولة الحديثة ودستورها وقوانينها).
الصراع المتجدد وسؤال الهوية
تجدد هذا الصراع، وتعمق الانشقاق في المشرق العربي عامة، وفي سورية خاصة بين الأخوان المسلمين والحركات القومية قبل مصر، لأنه قبل الخمسينيات لم تكن مصر قريبة من الفكرة العربية، ولا ننسى ما لتاريخ تأسيس الحركة 1928 في مصر من مغزى، فقد كانت سنوات العشرينيات وكل الثلاثينيات، تغلي بمخاض يشي بانعطافات كبيرة، وتغيرات عميقة في بنية تفكير النخب، وبتحركات على الأرض، كان من الممكن لها أن تغير وجه التاريخ لو لم تجهض، وأهم هذه الحركات الحركة التي أطلق عليها حركة التغريب، فقد اجتاحت كل من يمسك القلم في مصر: طه حسين(في الشعر الجاهلي، ومستقبل الثقافة)، أحمد لطفي السيد (كتاب السياسة)، أحمد أمين، قاسم أمين، سلامة موسى، بل وامتدت لتشمل مشايخ الأزهر: علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، وهؤلاء جميعهم كانوا شديدي الإعجاب بنموذج الحياة الغربية وديموقراطيتها، وكرد فعل على هذه الحركة التغريبية تأسست حركة الإخوان المسلمين بزعامة (حسن البنا)، ولا يغيب عن البال أيضا ثورة “أتاتورك” العَلمانية التي ألغت الخلافة، بل واعتبرتها أمراً طارئا على الأمة التركية، لم تكن بعيدة العهد عن ذلك العام المخاض، إذن تأسست الحركة كرد فعل على حركة التغريب، ولتؤكد انتماء مصر للإسلام والعروبة في آن، وقبل استلام الزعيم جمال عبد الناصر 1956 زمام الحكم وصعود نجمه عقب تأميم قناة السويس، لم تعرف مصر خطاباً قومياً عربياً سياسياً، ولما بدأ الراحل يستخدم ذلك الخطاب لإشعال المشاعر القومية، ومد نفوذه على المنطقة العربية، كان الصدام مع الإخوان المسلمين قد مضى على انتهائه سنتان، وآل إلى نهاية حركتهم وموتها، ولما عادوا إلى المسرح السياسي عام 1970 بعد رحليه، عادوا حركة مختلفة تماماً، ليس لها من الحركة التي أسسها “حسن البنا” سوى الاسم وبعض المبادئ الكبرى، فالأولى كانت ذات طابع فكري لأنها – كما أسلفت – رد على حركة فكرية، وأما الثانية فقد كانوا أصحابها قد خرجوا من السجون لتوهم، مشحونين بفكر تعصبي عصبوي مغلق من إنتاج السيد(سيد قطب)، ومملوئين كراهية لعبد الناصر ولكل ما جاء به، والتي أفرزت فيما بعد حركات الجهاد، والهجرة والتكفير والتي صنفت تحت عنوان(الحركات الإرهابية)، وهؤلاء هم الذين كرّسوا الموقف العدائي من العروبة، لأنه بالدرجة الأولى يتماهى مع فكر الراحل عبد الناصر.
أما في سورية فالأمر مختلف تماماً، فإذا كانت ولادة حركة الإخوان المسلمين في مصر، نتيجة موضوعية للأسباب السالفة الذكر، فإن ولادتها في سوريا كانت ولادة قيصرية، وليس لها اتجاه ولا هدف، إذ لم يكن يوجد في سوريا حركة تغريب لا فكرية ولا سياسية، والأمة تمارس شعائر الإسلام، بل وأكثر من ذلك، إن سوريا أبقت على قانون الأحوال الشخصية معمولاً بها بحسب الشريعة من أمور الزواج والطلاق، وأمور كثيرة غيرها تحل في المحاكم الشرعية، على عكس مصر التي كانت قد ألغت تلك المحاكم، وأحلت محلها المحاكم المدنية، فما معنى أن تؤسس حركة “إسلامية ‘”في محيط مسلم، وتميز نفسك عن باقي المسلمين في آن وأحد؟ وفي ظل غياب أية مقاومة أو مناهضة لهم، وحيث أن القوة لا تعمل في غياب المقاومة (بحسب القانون الفيزيائي)، لم يجدوا سوى حزب البعث العربي، وريث الحركة القومية العربية بمؤسسه (ميشيل عفلق)، الذي ربما وجدوا في دينه المسيحي ذريعة مضافة للصدام معه، سلمياً بادئ ذي بدء، وصولاً إلى الصدام الدامي في حقبة الثمانينيات، بعد أن احتكر حزب البعث السلطة والحكم وصار قائد الدولة والمجتمع.
بعد هذه الإطلالة التاريخية الموجزة – نسبيا – ما مدى صحة هذه الثنائية عروبة / إسلام في منطقها وجوهرها؟
في القرآن تسع وعشرون آية، كلها تؤكد على عروبة القرآن والإسلام (البقرة، آل عمران‘الأنعام، التوبة، يوسف، الرعد، إبراهيم، مريم،)، وهل لو كان النبي (ص) أو أحد صحابته الكرام بين ظهرانينا اليوم، وطُرح عليهم هذا السؤال: الإسلام أم العروبة؟
هل كانوا ليفهموا أصلاً معنى هذا السؤال؟ وماذا عن ثنائية الدين/ العَلمانية، والتي لا يبدو أن هنالك مخرجاً ما لأي مقاربة بينهما؟
أما الثنائية الثالثة التي بدأت تطل برأسها الرجيم، لتسعّر من أتون صراع الثنائيات وتزيد من أنواع التكفير والتهجير، ليس خارج الهوية العربية والوطنية والدينية فحسب، بل خارج الهوية الإنسانية: ثنائية القومية/ الوطنية، فالسوري، أو اللبناني، أو المصري، أو أي مواطن في أي قطر عربي الذي يطالب بوطن لكل مواطنيه، بوطن يضمن الحرية والحياة الكريمة ومساءلة السلطة الحاكمة، والحد الأدنى من حرية التعبير عن المسائل المطلبية، يخون من قبل القوميين، ويكفر من قبل الإسلاميين، والذريعة جاهزة: التوقيت غير مناسب بسبب العدو المتربص بنا!
مشروع حياة مؤجّل إلى أن يتوحد العرب، وتعود الأراضي المحتلة وتقام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف و.. و.. و..
كم مرة علينا الانسلاخ من جلودنا وتغييرها، وفقا لبرامج الأنظمة المستدامة الخالدة، أو وفقاً لبرامج الأحزاب والتيارات التي تقتضيها ضروراتها البراغماتية؟؟
وهل سنجد معادلتنا التي يقف فيها المؤشر على الصفر، أي على تعادل كفتي الميزان قبل أن نخرج من معادلة التاريخ؟؟
أزعم أنني – مثلي مثل معظم مواطني هذا الوطن – مسلمة مؤمنة، قومية عربية، وطنية منتمية، عَلمانية وصالحة جداً، ولتذهب كل تلك الثنائيات إلى جحيم السفسطة والخواء.
المصدر: KMARABIAN