د- عبد الناصر سكرية
كان من المنطقي والطبيعي أن لا تستجيب عقول كبيرة وعقول كثيرة لتلك الحرب. لا تستجيب لها ولا تتأثر بها.. وتبقى عقول كثيرة تذود عن شخصيتها تنافح كل عدوان على أمتها أو على أي من مقومات بنيانها التاريخي الحضاري. عقول تتطلع للمستقبل تسعى لتحرير أمتها وإنسانها وبناء صرح العلم والفكر الحر المستنير؛ وبناء اقتصادي قوي يشكل قاعدة للنهضة والتقدم؛
هؤلاء هم الذين صنعوا تلك التجارب الإيجابية الساعية للتحرر والبناء والتقدم..
هؤلاء جميعا ومعهم كل تجاربهم مهما كان حظها من النجاح والاستمرار؛ كانوا عرضة لعدوان عليهم مستمر من تلك القوى ذاتها التي تشن حرب العقول للسيطرة على العقل العربي وعلى إمته من ورائه..
كانوا هدفا مستمرا دائما في كل عصر وكل مجال وكل ميدان من ميادين الفكر والعمل..
وطالما أنهم يرفضون الخضوع لهيمنة المشروع الاستعماري الأمريكي – الصهيوني ويصرون على مواجهته وإبطال مفاعيله؛ فليتحملوا نتائج حرب شرسة حاقدة تستهدف إلغاء كل عقل يفكر وكل عقل يريد وكل عقل يعمل وكل عقل علمي وكل عقل يبني ثم يقول لا لمشاريعكم ونعم لبناء مستقبلنا العربي وفقا لرؤيانا وقيمنا ومصلحتنا نحن ….
وهكذا اعتمدوا في حربهم على هذه العقول إستراتيجية متكاملة متعددة الأركان..
# ١ – الاغتيال:
فقامت أجهزتهم الأمنية السرية باغتيال مئات العلماء العرب من أفذاذ العبقرية الإنسانية الذين كانت مساهماتهم العلمية تتصدر علوم البشر والعصر في كل الميادين..
مئات العلماء العرب من كل بلد عربي تمت تصفيتهم في القرنين الأخيرين فقط لأنهم عرب رفضوا التعاون مع الدوائر الاستعمارية والصهيونية..
حتى أن عددا من العقول التي تعمل في تربية العقول وتنشئتها وتوعيتها؛ ومنها التي تعمل في مجال الفنون والسينما نظرا لتأثيرها الفعال في التنشئة؛ تمت تصفيتها لإلغاء دورها وإزاحتها من دروب الفعل والتأثير. وما اغتيال العالم الفذ الدكتور جمال حمدان إلا خطوة في هذه الاستراتيجية العدوانية. جمال حمدان العالم العبقري الذي أبدع في رسم شخصية مصر العبقرية ودورها المسؤول عن أمن المنطقة العربية عبر التاريخ؛ في حين أنهم يسعون لإزاحة مصر وإلغاء دورها التاريخي للاستفراد بها أولا وببلدان أمتها ثانيا – واحدا تلو الآخر -.
جمال حمدان الذي استنبط من قوانين الجغرافيا والتاريخ إستراتيجية الرد والمواجهة لأي عدوان أو تدخل أجنبي في شؤون مصر والأمة العربية وهم يعملون عكس ذلك فاغتالوه..
ومثله المخرج العبقري مصطفى العقاد الذي استخدم ذات أسلحتهم الحديثة في الرد على حربهم القذرة فاغتالوه..
مصطفى العقاد الذي أخرج فيلمين سينمائيين يقدمان تاريخ البطولة مصورا حديثا جذابا محببا: الإسلام ورسالته العظيمة وعمر المختار كنموذج للبطولة يجسدها بأجمل صورها من البساطة والفقر وضعف الإمكانيات. عمر المختار الذي جعل البطولة أمر يسيرا زهيد التكلفة عظيم الأثر. يكفي أن تكون حرا لتقرر أن تكون بطلا. مصطفى العقاد الذي كان يعد لفيلم وثائقي عن جمال عبد الناصر كرمز للقيادة العربية الحرة الشريفة الذي جسد وحدة العرب مواقف شعبية عظيمة مؤثرة فاعلة.. وقبل أن يستكمل العقاد ثلاثيته العربية المجسدة لروح الأمة وشخصيتها اغتالوه. وهل اغتيال مئات القيادات الفلسطينية الحرة المقاومة ؛ حتى تلك التي تقاوم بالكلمة الحرة والشعر المتمرد إلا باب من أبواب تلك الحرب الجهنمية ..غسان كنفاني وكمال ناصر وكمال عدوان وناجي العلي وكثيرون مثلهم لم يكونوا يشكلون خطرا عسكريا على الكيان الصهيوني المستعمر ؛ لكنهم كانوا يخاطبون العقل العربي فيشكلون حماية توعوية له وسندا ؛ فاغتالوهم. وغيرهم مثلهم كثيرون في كل بلد عربي في كل مرحلة من مراحل الصراع من أجل التحرر والبناء والتقدم. أما اغتيال العلماء العباقرة في الفيزياء والعلوم والرياضيات والهندسة والمعلوماتية؛ فلم يكن إلا حربا على العقول؛ استباقية؛ لمنع الأمة من البناء على علمهم والاستفادة منه. وإلغاء دورهم وتأثيرهم بإلغاء وجودهم وإلغائهم من الوجود ذاته..
@ وهل أقذر من هذا أسلوبا منحطا لفرض الانحطاط على شعب يريد أن يتحرر فيتقدم؟؟ @
أما على صعيد السياسة والفكر والثقافة فاعتمدوا على أساليب قذرة بشعة حاقدة في التعاطي مع كل من لا يرضخ لهم ويعاند ساعيا للتحرر من هيمنتهم وبناء قوة ذاتية.. تجسدت كما يلي:
# ١ – الحصار بأشكاله المختلفة؛ اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا وسواها..
# -٢ التخريب في الداخل حيث التجربة المعاندة. تخريب من كل نوع ممكن. ماديا ومعنويا ونفسيا وثقافيا…مع تركيز خاص بتشويه الرموز الوطنية النضالية الحرة الشريفة لإسقاط هيبتها أمام أبناء مجتمعاتها فلا تعود تصلح لتكون مرجعا أو دليلا أو هاديا للعمل الوطني النضالي…
# ٣ – الفتنة والتحريض: فتنة بين أبناء البلد وتحريض فئات الشعب على بعضهم لإضعاف الوحدة الوطنية والجبهة الداخلية وبالتالي إضعاف مقدرة القيادات الحرة على الفعل والإنجاز..
# ٤ – التشويش: ببث المعلومات الكاذبة عن التجربة غير المرغوبة والتشويش على مسيرتها وإمكانياتها وقدرتها على الاستمرار. في حرب نفسية شديدة مركز تعتمد أحدث وسائل الدعاية والتأثير…
# ٥ – التشويه: تشويه معنوي وأخلاقي واجتماعي للأشخاص القائمين على التجربة لإضعاف ثقة الناس بهم وبالتالي التقليل من إمكانية تأثيرهم في عقول الناس وتجاوبهم معها..
# – الإغراء والابتزاز:
في محاولة للتأثير في الفاعلين ضمن التجربة لحرفهم عنها وعن مساهماتهم فيها أو الإيقاع ببعضهم عن طريق التوريط في مسالك مخجلة مثلا؛ وهو أسلوب برعوا فيه كثيرا وكان سببا في خسارة التجارب النضالية لطاقات بشرية لا بأس بها..
وهكذا إلى الكثير من وسائل الحرب القذرة الحاقدة الخبيثة المبيتة لإسقاط العقول المعترضة وتمهيد الدروب للعقول الخانعة التي تدور في الفلك المطلوب..
والطريف المقرف أن كل تلك المعارك والحروب تتم تحت شعارات الديمقراطية والمساعدة وحقوق الإنسان. فكل من يعارضهم يصبح عدوا للديمقراطية ولحقوق الإنسان وللحضارة وللحداثة وللتقدم وللحرية….
١٢ – خلاصات ونتائج:
# ١ – إن الحرب على العقل العربي ليست جديدة وليست حديثة بل قديمة قدم الحروب الاستعمارية على الأمة؛ قدم التدخل الأجنبي في بلادنا منذ حروب الفرنجة وإلى الراهن القائم. في كل الحروب على الأمة كان هناك دائما حيز يتوجه إلى العقل لتحييده او تشويشه وزعزعة قدرته على الرؤية السليمة والتفكير السديد. وما حرب الاستشراق إلا واحدة من أوائل حرب العقول المتميزة تصاعديا..
# ٢- مع التقدم التقني والإعلامي والتسويقي والدعائي وسطوع العولمة الرأسمالية المفترسة اكتسبت حرب العقول أبعادا جديدة وتقنيات متقدمة جدا وأكثر خطورة من كل ما سبقها من تقنيات وإستراتيجيات. وتوظف خبرات أكاديمية عالمية عالية المستوى والخبرة..
# ٣- صار التلاعب بالعقول علما يدرس له قواعده العلمية كما لعلم تغيير السلوك أيضا. من هنا أحد جوانب الخطورة على مستقبل الشباب والأجيال القادمة في أمتنا وغيرها من الشعوب والأمم..
# ٤ – يحتل الإعلام ووسائل التفاعل العنكبوتي (الأنترنت) دورا متميزا بارزا نافذا في المقدرة على التلاعب بالعقول وتوجيهها والسيطرة عليها. ليس فقط من خلال المعلومات المفبركة وإنما من خلال كل المواد الفنية التي تعد بإتقان وبراعة سينمائية لأداء الدور المطلوب..
# ٥ – الحرب على العقول ركن أساسي من أركان حرب شاملة متكاملة الأبعاد للسيطرة على الأمة بشرا وأرضا وإمكانيات؛ أو القضاء عليها وجوديا إذا أمكن ذلك. فهي ليست حربا إعلامية فقط لكنها تشمل كل ما يمكن أن يؤثر في فعالية العقل وتوظيفه من أجل مصلحة الأمة والإنسان. تمتد لتشمل التعليم والتربية ومجالات الثقافة والتثقيف..
وحرب العقول تمهد للسيطرة السياسية والاقتصادية على الأمة والعكس صحيح أيضا فالسيطرة السياسية والاقتصادية تفتح أبوابا واسعة أمام نفوذية حرب العقول ونافذيتها..
إنها حرب حضارية شاملة بكل أبعادها..
# – ٦ – حرب العقول تنطلق من الوقائع حيث ترغب قوى العدوان أن تكون تحت هيمنتها؛ لتغزو العقول حيث ترغب في إعادة تشكيلها وصياغتها وفق معطيات مزيفة او مضللة تضيفها عليها؛ ثم لتعيد تشغيل العقول بعد تضليلها والتلاعب بها؛ في إعادة صياغة الوقائع بما يخدم مصالحها ويمكنها – أي قوى العدوان – من إتمام سيطرتها على الوقائع. وهكذا في حركة جدلية تفاعلية مستمرة إلى أن تحقق ما ترغب فيه من سيطرة أو إبادة..
# – ٧ – كثيرة هي الأدوات المحلية من أبناء البلاد ذاتها التي تشارك قوى العدوان الخارجية في حربها على العقل العربي..
بعضها عن جهل وقصور في الرؤية وبعضها عن وعي ودراية وحقد على الأمة.. أما كثيرون فبتبعيتهم لأحد مفاصل النفوذ الأجنبي وقواه الكثيرة والمتمكنة..
# – ٨ إن استهداف المكونات التاريخية الحضارية للأمة، جزء من الحرب الشاملة على العقول والوجود برمته..
إن الحرب على العروبة وعلى الإسلام منفصلين أو مجتمعين هي ركن أساسي في تلك الحرب. يضاف إليها حرب لفصلهما عن بعض واختلاق مبررات لصدامهما معا الأمر الذي يستهدفهما معا ويستهدف من ورائهما وجود الأمة ذاته..
# – ٩ استحالة الفصل
إن الإسلام والعروبة هما الجناحان اللذان يحملان الأمة العربية ويجعلانها تحلق في آفاق النهوض والتقدم. لن تتحرر إلا بهما معا. ولن تقوى على مجابهة أي عدوان عليها؛ خارجي أو داخلي؛ إلا بهما معا يتكاملان ويزود أحدهما عن الآخر ويزودان معا عن الأمة والإنسان معا..
إن أحد أسباب التصدع النفسي في بنية الإنسان العربي المعاصر؛ هي تلك المحاولات والدعوات والضغوطات التي تخرب في العلاقة بين العروبة والإسلام. فيهتز تكاملهما في روحه الواحدة مما يتسبب بشيء من الضياع والحيرة والتنازع الداخلي المؤدي إلى بعض الشروخ أو التصدع النفسي..
إن الأمن النفسي للإنسان العربي لا يمكن أن يستقر أو يهدأ في ظل أجواء التنازع والتناحر بين العروبة والإسلام والتي تفتعلها قوى العدوان جميعا …
إن أية دعوة إلى النهوض العربي لا تقوم على تكامل هذين الركنين لن يكتب لها النجاح مهما تمتعت بحسن النية وصدق العزيمة. وشواهد التاريخ كثيرة..
# – ١٠ حرب العقول هي حرب نفسية في جانب كبير منها. وعليه فإن تفعيل ثقة الإنسان العربية بذاته وبأمته ومكوناته الحضارية والأخلاقية؛ ضرورة من أجل إطلاق طاقاته الإيجابية وتفعيلها وتوظيفها في رد العدوان عليه وعلى أمته: وجودا ودورا وموارد..
وبالعكس فكل ما يضعف ثقته بذاته وبأمته؛ يسهل الدروب أمام قوى العدوان في حرب العقول والتلاعب والسيطرة..
# ١١- إن الدور الإيجابي الأبرز للإنسان العربي كان يتجلى بوضوح في كل مرة كانت الأمة تشهد تجارب نهضوية سعيا وراء التحرر والتقدم والعدالة. تجارب عربية توفرت لها قيادات حرة شريفة شكلت مرجعيات عليا ثقة للإنسان العربي؛ تحميه وتذود عنه وتفتح له قنوات وآفاق المشاركة الإيجابية الفاعلة..
ومع غياب المشروع النهضوي العربي المحرك؛ تضعف مشاركة الإنسان وينكفئ ويقل عطاؤه ومقدرته على الصمود..
فليست المشكلة في الإنسان بل فيمن يطلق طاقاته الإيجابية وينظمها في سياق مشروع عربي نهضوي للتحرر والتقدم..
# ١٢ – الهجوم على التراث:
يلاحظ وجود حملة متعددة المصادر من أقلام عربية مسلمة على التراث الديني وتحميله مسؤولية الضعف والتخلف..
إن نظرة موضوعية على واقعنا الراهن لا بد أن ترى قوى النظام العالمي الامريكي – الصهيوني وأدواته المحلية؛ في رأس قائمة العدوان على الأمة والإنسان؛ بإمكانياتها الهائلة وهجومها الساحق لاجتثاث الأمة من أساساتها التاريخية والوجودية ؛ فكيف يستقيم لأولئك المتثاقفين العرب ألا يروا هدفا يصوبون عليه سوى التراث الإسلامي دونما اعتبار للأخطار الراهنة المحدقة ؟!!
وإذا كانت حجتهم أن التراث الديني يحتوي الكثير من الأفكار البالية غير المقبولة حداثيا أو علميا؛ فإن ما يصاحب حرب العقول من تزوير وتزييف ومن أفكار ومسلمات دينية وغيبية ومن تسخيف للعقول واستحمار للتفكير ومن تحريض خطير على التقليد الأعمى والتبعية والفساد والتعلق بالمظاهر والقشور والشكليات وترك الجوهر والمضمون وإهدار القيم الأخلاقية؛ لهو أخطر ألف مرة على العقل والإنسان من أية أفكار سخيفة بالية محنطة في كتب التراث..
وفي ميزان التفكير العلمي: هل حرب العقول تحث العقل العربي على التفكير والمشاركة الإيجابية أم تكبله بكل قيود التقليد والتبعية وتعطل قدراته بالتزييف والخداع؟؟
وهل تضم كتب التراث المنسية خرافات أكثر من خرافات الصهيونية الاستعمارية وادعاءاتها الباطلة بكل مقاييس العلم والحق والحقيقة؟ أم أن شبح يأجوج ومأجوج في أوهام رئيس امريكا ليست خرافات سخيفة معيبة؟؟
إن المسلمين المعاصرين هم أكثر الناس فعلا للخير والمساعدة الإنسانية والتي تتجلى بالتضامن الاجتماعي الرائع الذي لا تعرف مجتمعات الغرب شيئا منه؟؟
فلماذا الهجوم المستمر على الإسلام تحت مسمى التراث؟؟
أليس الإسلام حاليا يمثل خط الدفاع الأهم والأفعل في مواجهة العدوان المتواصل المتراكم على الأمة؟؟
أليست مواجهة العدوان الوجودي الساحق القائم أولى من حيث الخطورة والإلحاح والضرورة الوجودية من الحرب على التراث؟؟ مع التأكيد على ضرورة المراجعة العلمية النقدية لكل ما هو تراث وماض لكنما في إطار المشروع الوطني القومي الجامع العام كإطار لرد العدوان وطلب التحرر والنهضة والتقدم؟؟؟!!!.
# ١٣ – خصوصيات الواقع العربي..
كما يتميز المجتمع العربي بمكوناته التاريخية الحضارية؛ فإن المخاطر الراهنة عليه جعلت له خصوصيات في حجم ونوع المشكلات التي يواجهها.. فمن مشكلات الأراضي الكثيرة المحتلة إلى الكيان الاستعماري الصهيوني إلى تجزئة الأمة الواحدة إلى كيانات إقليمية متناحرة استنزافية غالبا، مرورا بكل القهر والظلم والفقر والجهالة وعدم الوعي الكافي بالهوية والذات القومية؛ إلى تسخير إمكانيات البلاد في غير صالحها وكثيرا ما توظف لمزيد من تقييدها وتكبيلها وإضعافها ومنعها من التفكير. إلى تخلف البنية التعليمية والتربوية تبعا لتخلف النظم السياسية وتهجير الطاقات والعقول الحرة أو وأدها وقتلها. إلى الدور السلبي للمؤسسة الدينية الراهنة إلى استمرار وتصاعد أشكال متنوعة من العدوان الأجنبي مرورا بظهور القوى الإقليمية المعادية واختراقاتها لقلب المجتمع بالعصبيات المذهبية والعرقية، كل هذا مجتمعا يواجهه الإنسان العربي بإمكانياته الذاتية المحدودة جدا لأن إمكانيات الأمة ليست في متناوله بل في متناول قوى العدوان..
كل هذا مجتمعا يهدد الإنسان العربي في عقله ووعيه وتوازنه الاجتماعي واتزانه النفسي؛ لا بل في وجوده من أساسه…
على الإنسان العربي أن يواجه كل هذا منفردا مجردا من إمكانيات أمته؛ وحيدا مشلحا من كل أسلحته الموضوعية. وهو لا يزال يقاوم ويواجه ويرفض ويقول لا للعدوان ولا للرضوخ والاستسلام..
إن الظروف المتشابكة والمشكلات المركبة التي يعاني منها الواقع العربي لم تتعرض لمثلها أمة من الأمم عبر التاريخ الإنساني كله. ولم تقدم أمة من التضحيات مثلما قدمت أمتنا وتقدم..
وبالتأكيد ما كان لأمة أخرى أن تصمد وتبقى تقاوم كأمتنا لو لم تكن ضاربة الأعماق في التاريخ والانصهار الحضاري الذي يدعون بطلانه فيحاولون تدميره..
@ ورغم كل هذا يتسابق بعض المتثاقفين من نخب عربية بائسة محبطة يائسة في تقريع الإنسان العربي كل يوم تمكينا لأعدانه منه ومن عقله وتوازنه وفعاليته..@
# ١٤ – العروبة اليتيمة:
في مواجهة آلاف المصادر المتنفذة شرقا وغربا ؛ شمالا وجنوبا ؛ محليا وإقليميا وعالميا ؛ التي تهاجم العروبة وتسعى لطمسها وتشويهها وإلغائها تمهيدا لمزيد من الاقتسام والتقسيم والتقاسم بين كل قوى العدوان ؛ لا يوجد منبر رسمي واحد يقدم العروبة سليمة غير مشوهة ، أو يرد على مهاجميها ؛ أو يدافع عنها ويعرض صورتها الإيجابية المشرقة ..إن كل الجهود التي تدافع عن العروبة وتنافح الأعداء لأجلها ، إنما هو جهود فردية أو جماعية محدودة الإمكانيات بما لا يقاس بالإمكانيات الهائلة المرعبة التي تتمتع بها قوى العدوان وتسخرها لإلغاء العروبة وفك عرى التزام الإنسان العربي بها : قناعة ووعيا وسلوكا..
ورغم كل ذلك لا يزال الإنسان العربي صامدا يقاوم يرفض الخضوع والاستسلام أمام حرب العقول الشرسة وحرب الاقتلاع الأشرس. فيما لا يزال بعض أبناء جلدته يقرعونه منزلين كل إحباطهم ويأسهم على دماغه المثقل بالأحزان والمآسي والهموم..
# ١٥ – ما العمل:
لا تبدو في الأفق القريب المنظور إمكانيات حدوث تغييرات نوعية مهمة في الواقع العربي. العدوان مستمر من كل الجهات. الوعي الشعبي يتقدم ولا يتراجع. انتفاضات كثيرة سوف تثمرا عطاءات إيجابية ومعنويات أفضل ومناعة أقوى.
النظام العالمي المركز الرئيسي للعدوان في أزمة واضحة لا بد سوف تؤدي إلى متغيرات قد تحمل بعضا من تخفيف الضغط على دول العالم البائس والمنكوب ونحن منه..
فهل نكتفي بالانتظار أم ماذا نفعل؟؟
يحتاج الواقع العربي إلى ضبط وتنظيم مصادر القوة الشعبية المتاحة. وهي بالمناسبة ليست قليلة…على الفعاليات الثقافية والسياسية والاجتماعية والأكاديمية تقدم الصفوف لتجميع ما يتوفر من منابع القوة ومصادرها وتنظيمها في أطر مؤسساتية حديثة تلائم العصر وتقنياته ووسائل عمله. تكون مهمتها الأولى والأساس تخفيف ضغوط حرب العقول حتى يستعيد الإنسان العربي أنفاسه ومقدرته على التفكير الواعي بهدوء والتصرف الواعي بسرعة..
مطلوب من المخلصين رفع معنوياته لا تثبيطها.. تدعيم ثقته بنفسه وبأمته لا تدميرها..
والتخلي عن كل طرح خلافي انقسامي من أي نوع. عقائدي أو ديني أو حزبي أو إقليمي أو جهوي. اللهم أن يكون الولاء للوطن والشعب وليس للمصالح الحزبية أو الفئوية الضيقة..
إن كل طرح انقسامي غير مبرر حاليا. وكل تثبيط للهمم والعزائم مؤذ ومضر بل يخدم قوى العدوان ويزيد من فعالية حربها على العقل والإنسان والأمة..
فليتقدم من ولاؤه للوطن، ينظم ويجمع ويقود وسيرى كم من الطاقات الشعبية المخلصة ستكون معه وإلى جانبه في صد العدوان كل عدوان وكل العدوان بما يتوفر من إمكانيات ولو كانت إيمانا وإرادة وعملا موحدا..
لقد أفرز الواقع العربي خلال العقد الأخير الكثير من المتغيرات الإيجابية في مقدمتها الانتفاضات التحررية الشعبية في كثير من البلاد العربية…وبروز مقاومات شبابية تجاوزت كثيرا من العصبيات الانقسامية التي كانت مادة لتخريب العقول والتحكم بها. وإذا كانت قوى العدوان المضادة قد استطاعت حرف بعض تلك الانتفاضات عن مسارها الوطني وركوب موجتها واستغلالها بعكس غاياتها الشعبية؛ فلم يكن ذلك ليتم بسهولة لولا غياب الرؤية الوطنية الواحدة التي تدير برنامجا مرحليا للمجابهة ورد العدوان..
ولو لم تكن تتوفر للواقع العربي الراهن الكثير من إمكانيات العطاء والتضحية وفعاليات القوة الكامنة لما استطاع الصمود متمسكا بهويته وسعيه لنيل حريته وبناء نهضته وتقدمه..
لو لم يستطع الشرفاء المخلصون أن يقدموا حاليا إلا إعادة تنشيط العقول وتدعيم الثقة والمعنويات؛ لكانت بداية طيبة تكفي لمزيد من الإنجاز والتقدم على طريق النهضة المفتوح وليس على طريق الانتظار المسدود…
إن النقد لازم ومطلوب لتصحيح أي خلل وكشف أي عيب. والمراجعة النقدية والتقويمية مطلوبة في كل مرحلة ولكل مجال…على أن يتم ذلك في سياق رؤية متكاملة:
١- تشخص المشكلات موضوعيا.
٢- تحسب الإمكانيات المتاحة.
٣- تحدد الأولويات كما يطرحها الواقع الموضوعي لا كما تقتضيها الأهواء والأمزجة.
٤ -تضع خططا مرحلية للعمل
٥ – تشارك الجميع في التنفيذ..
وحتى لا يكون النقد والمراجعة خارج السياق السليم أو تعريضا لمزيد من التفكك واللهو والانقسام. إن أهمية الوعي الصحيح بالذات توازي البند الأهم في أية إستراتيجية للمواجهة ورد العدوان. وهذه وحدها إنجاز مهم بمقدور ما هو متاح من قوة كامنة أن تنجزه إذا ما تحولت إلى قوة متحركة منضبطة في إطار الرؤيا والمشروع والبرنامج المرحلي للعمل.. إرادة – تنظيم – عمل – عروبيون – موحدون.