انتباه أيها السادة … كل الأقنعة تخلع تباعاً فدورها ينتهي.. وكل الألوان تبهت أمام سطوته.. فالموت في الشام بات على المكشوف، والقتل فيها بات مكرمة أخوية. ما عاد هناك من داع لقناع القلق الأممي وقناع الإدانة العربي وقناع التباكي الإنساني، فالعالم كله يصدق مع نفسه للمرة الآولى مع انطلاقة المقتلة السورية منذ مليون شهيد إلا بضع جثث، ويتسربل بالرمادي. انتباه أيها السادة، فالقيامة اليوم طعمها شامي.
قهرهم تشبث الأطفال بألعابهم رغم عظامهم البارزة في أجسادهم بسبب الجوع، وأذلت عنجهيتهم تلك الأم الحامل التي بدأت مشروع حياة جديدة في أحشائها المتضورة، على الرغم من أنها أسيرة موتهم منذ ما يزيد على خمس سنوات. كسرهم ذاك المقاوم رغم كل خيانات الأشقاء والأقرباء والأصدقاء له. فكان لا بد من صاروخ يقطع أطراف ذاك الطفل كي يعجزه حلم الطفولة بلعبة، وكان لا بد من برميل يبقر بطن تلك الحامل كي يموت مشروع الحياة معها، وكان لا بد من قنبلة ذكية تقهر ذاك المقاوم ببتر أطراف طفله وقتل زوجته وجنينها كي تبكي الفاجعة عينيه اللتين تقاومان المخرز حتى الآن، ثم تقتلعهما.
بعد اغتصاب حمص وحلب والزبداني ومضايا، واستباحة دير الزور والرقة، كان لا بد للغوطة أن تشهد القيامة. فلماذا تستغربون؟ كل ما نراه في الغوطة اليوم شاهدناه البارحة في الرقة والبوكمال والقورية، وقبلها في ريف حلب، وقبلها في جبال التركمان وريف حماة، وقبلها في عين الفيجة، وقبلها في بانياس والحولة، وقبلها وقبلها. ويومها أيضاً احتسبنا وحوقلنا وكبرنا، مثلما نفعل هذه الأيام، وكتبنا وحللنا وأدنا واستنكرنا، وخرجنا في مظاهرات وأشعلنا الشموع، ثم عدنا إلى بيوتنا ننتظر القيامة التالية.
فما الذي طرأ الآن؟ ما الجديد في مشهد قهر الرجال حد البكاء؟ ما المبتكر في عجز البصر عن التصديق حد الإنكار؟ أين الحدث في صمت أم أمام بقايا طفلها؟ أين الإثارة في حرب تشن على شعب من الأشباح، وأسلحة تستهدف الدموع والوجع والجراح؟
ما بكم أيها السادة، أكل هذا الاستنفار لأن الغوطة باتت آخر معاقل كرامتنا؟ أكل هذا الاستنكار لأنها آخر رموز مكاننا المقاوم؟ فماذا لو سقطت؟ ماذا ستفعلون؟ هل أخبركم؟ سنحتسب ونحوقل ونكبر، وسنكتب ونحلل، وسنشعر ونقصص ونروي، ونتهم ونشتم، وسندين بأشد العبارات، وسنطالب المؤسسات الأممية التدخل لمنع قتل الأموات، ومنع اغتصاب الشهيدات، ومنع المتاجرة بقطع غيار الأطفال المتناثرة في كل مكان، وضرورة لملمتها. وقبل هذا طبعاً سيدعو اتحاد التنسيقيات إلى الخروج في مظاهرات شجب وتنديد، وسنلعن والد بشار والخميني وبوتين، ونلعن والدة العرب والمسلمين، وسنسقط الإنسانية والعالم أجمعين. وبعد أن نرضي ضمائرنا المنتشية بنخوتنا، وأصواتنا المبحوحة بسبب ارتفاع صراخها، سنعود إلى بيوتنا ليستقبلنا أبناؤنا وزوجاتنا في بلاد لجوئنا استقبال الفاتحين، ثم نجلس معاً كي نشاهد التغطية الإعلامية العالمية لسقوطنا الضمائري المريع. عفواً، وعذراً منكم، نسيت بيان الإدانة من الائتلاف، فهو المعبر الرئيس والوحيد عن سقوط العالم، وسقوطنا و. سقوطه. لا تهتموا لأمر الصياغة فهي لن تعجزهم. فكما استبدلوا صنماً رأسهم بصنم ليرأسهم، سيستبدلون حلب بالغوطة. وكفى الله المعارضة شر التعب.
الحقيقة أن استنفارنا واستنكارنا سببه ليس مجرد ما هم فيه، والبعض منا فيه، بل لأنهم، وبعد كل هذا الخذلان العالمي والأخوي لهم، وبعد كل ما مر ويمر عليهم من أشكال الموت، وعصات ما قبل الموت، وأزمنة انتظار الموت، لا زالوا يملكون القدرة على أن يبقوا بشراً، ولا زال هذا البعض منا يملك القدرة على البكاء.