د – عبد الناصر سكرية
وسط تزاحم الحملات المعادية للعروبة المنتشرة في كل مجال وفي كل مكان فوق أرضنا العربية ، في كل ركن من الحياة حولنا ؛ فوق كل منبر وعلى صفحات كل وسيلة آعلامية ؛ ترتفع أصوات شبه يتيمة ترى العروبة منقذا وهاديا ورابطا يحمي الجميع حتى اؤلئك الذين يتبرؤون منها ضعفا أو غضبا أو عتبا وإنفعالا..
يقول مثل سوري : ” العرس في حرستا والزفة في دوما “..
فإذا كانت العروبة هي المستهدفة في حرب متصلة متعددة المواقع والإطراف ، موحدة الأغراض ؛ تبغي القضاء على الوجود العربي بما يملك راهنا وبما قد ينتج عنها مستقبلا ؛ فمن الغريب جدا على أي من أبناء العروبة أن يكون شريكا في تلك الحرب تحت أية مبررات..
وحيث أن العروبة هي اللحمة التي تجمع أبناء البلاد جميعا وتجعل منهم كيانا واحدا ؛ فمن الطبيعي والمنطقي والموضوعي أن يتمسك بها ويعززها ويدافع عنها كل من لا يريد لتلك الحرب أن تنتصر على أمته..ومن غير المفهوم أن يهاجمها أحدهم محملا إياها مسؤولية التدهور والضعف والهوان في حين أنها هي المستهدفة لأنها هي اللحمة الهوية الجامعة..
وبصفتها التوحيدية هذه ؛ فهي المؤمل منها أن تكون سبيلا للخلاص والإنقاذ..وليس العكس..فكيف تتحمل مسؤولية التردي الناتج أصلا عن إستبعادها من مقتضيات الوجود وبرامج الحياة والعمل ؟
لأنها مستبعدة كخيار إستراتيجي للعمل ودرء المخاطر ورد العدوان ؛ فلا تتحمل أية مسؤولية بل على من يسعى في الدفاع عن وجود الأمة ، أن يستمسك بالعروبة ويجتهد في توضيحها وتعميق الإلتزام بها ورد الإفتراءات المشبوهة عنها وصولا إلى تجسيدها في رؤية إستراتيجية واضحة المعالم ممنهجة التخطيط والعمل ..حتى وضع القطار على السكة وحتى تكون الزفة والعرس في مكان واحد وبهدف واحد وتجليات واحدة..
إن العروبة كهوية موحدة لجميع المكونات البشرية والمجتمعية لبلاد العرب ، شيء ، وسلوك أبنائها حيالها أو حيال مسؤولياتهم تجاهها ، شيء آخر مختلف تماما..
العروبة هوية حضارية ثقافية أخلاقية تكونت تاريخيا من رحم أركان ومقومات وعناصر متنوعة فكانت ثمرة تفاعل جدلي بينها جميعا فتبلورت في صيغتها الحضارية الراقية حيث لا فضل لأحد على آخر إلا بالولاء للأرض والشعب والوطن..
الولاء للوطن يستلزم بالضرورة تعبيرا وجدانيا عن ضمير الشعب وذاتيته وتطلعاته ؛ وذودا عن الأرض ضد كل أطماع او أخطار أو إحتلال..وبناء ما يكفي من القوة والمناعة التي تحقق التطلعات الشعبية وتحمي الأرض أو تحررها ؛ وتجعل الوطن مقاما حرا كريما لأبنائه وطمأنينة وأمنا وسلاما لهم وللمقبل من أجيالهم…ليكون الوطن إطار تفاعلهم وموضع عطائهم ومحيط إبداعهم لتعزيز المستقبل وحمايته وتطويره بإستمرار بالمشاركة الجماعية التفاعلية..
فهل في بلادنا يتحقق شيء من هذا ؟ كله أو بعضه ؟؟
في بعض الأجزاء قد نرى بعضا من هذا متاحا أو متوفرا ..وفي أجزاء أخرى كثيرة لا أثر لشيء منه إن لم يكن نقيضه هو القائم المسيطر..
إن نظرة هادئة لواقع الحال العربي ، تبين أن موارد البلاد المتاحة مهدورة وضائعة في معظمها فيما لا يخدم لا الشعب ولا يحمي الأرض ولا يبني الوطن..
فيما الإنسان مضطهد او مقهور أو تحول قوانين سلطوية جائرة بينه وبين وجدانه والتعبير عن ذاته ، كما تحول بينه وبين حقوقه..
أما الأرض فواقع على أجزاء كبيرة منها ؛ إحتلالات إستعمارية مدمرة..
وما حال بعض الشعب إلا كما يبدو في صور التهجير أو أخبار السجون والمعتقلات والتعذيب..كما في الفقر والجوع وقهر الحياة..
كل هذا يحدث في غياب أي إلتزام بالعروبة ومقتضياته..بل هو تجسيد لتغييبها والتنصل منها والمشاركة في الحرب عليها وتشويهها..فكيف يستقيم أي تقييم موضوعي دون إعطاء العروبة حقها وبلورتها في إستراتيجيات تحرير وبناء ومشاركة ؟؟
هل لا يزال مثل هذا متاحا في ظروف بلادنا الراهنة ؟ ومن ذا الذي يتوجه نحو هذا الإلتزام أو يستعد له لإتمامه وبيان تجلياته الإيجابية الكثيرة ؟؟
إن أصحاب المصلحة الحقيقيين في إظهار تجليات إيجابية للعروبة هم ابناء الشعب العربي الذين لا تربطهم مصالح فئوية أو حزبية أو شخصية او مالية أو نفعية من أي نوع ، بأعداء العروبة المحليين والخارجيين..في الداخل كما في الخارج..
ثمة – إذن – من ليست لهم مصلحة في ترجمة العروبة إلتزاما..في الداخل أي من أبنائها ذاتهم..ممن ينتمون إليها يحملون هويتها يتحدثون لغتها لكنهم لا يريدونها لأن مصالحهم في عكس إتجاهها..
هؤلاء ، بما يملكون من سلطة أو نفوذ أو إمكانيات مالية ومادية وإعلامية كبيرة ، باتوا يشكلون عقبة رئيسية في طريق العروبة و عائقا أمام مسيرتها ؛ وفي كثير من الأحيان أصبحوا مرتبطين مصلحيا بأعداء العروبة – الهوية في الخارج.. وهم كل قوى النفوذ الأجنبي ومن يشكلون نظام العولمة الرأسمالية المفترسة المتوحشة..وقاعدتها الأمامية دولة ” إسرائيل ” المصنعة تصنيعا..
اعداء الداخل بات وجودهم ذاته مرتبطا بأعداء الخارج..وليس دورهم الوظيفي فقط..
ولأنهم جميعا يدركون ذلك ؛ أي يدركون هذا الترابط الوجودي بينهم ؛ باتت حربهم على العروبة حربا إستئصالية لا هوادة فيها ولا رحمة ولا إسترحام ولا أي نوع من الإنسانية..
حربهم على العروبة ذاتها تشويها وتقزيما وترجيفا بالأباطيل ؛ ثم منعا لظهور أو إنبثاق أية تجليات لها عملية ميدانية تزيد في مناعة الجسم العربي او تحميه..
هذه الحرب المزدوجة ، على روح العروبة ومضمونها الحضاري من جهة وعلى تجلياتها العملية من جهة ثانية ؛ تتجلى في مواقع عربية كثيرة..أهمها وأخطرها ساحات فلسطين والعراق وسورية ومصر أيضا..حيث بات مصير الأمة كلها والعروبة معها مرهون لمصير العروبة التوحيدية الجامعة في هذه البلدان جميعا..وعلى هوية هذه البلدان ودورها يتوقف مصير الأمة كلها وجميع أجزائها..
إن الحرب الدائرة في هذه البلدان وعليها ؛ تديرها وتشرف عليها وتقودها ؛ تلك القوى والجماعات الداخلية – من أبناء الأمة ذاتها – بالتنسيق والتعاون مع قوى النفوذ الأجنبي وركائزه الصهيونية ..
فأصبحوا كتلة واحدة مصالحها مشتركة ووجودها مترابط..فلم يعد من بد أمامهم غير سحق العروبة وإبادة رموزها ومضامينها وتجلياتها كافة..فهم إكثر الناس إدراكا أن يقظة العروبة وروحها الملهمة الجامعة ؛ وبروز تجلياتها الإيجابية الفاعلة المانعة المؤثرة ؛ هي الخطر الحقيقي الأكبر على كل مصالحهم وما يرسمون وما يخططون للامة برمتها..ولهذا يتحالفون أكثر فأكثر وتتوضح معالم إرتباطهم المصلحي أكثر فأكثر ويطفو على السطح ذلك الترابط الوجودي الذي يجمعهم ضد العروبة وتجلياتها…
ليس التطبيع الظاهر والمخفي ، المقنن أو في الطريق إلى التقنين ؛ إلا تعبيرا عن ذلك الإرتباط المصلحي بين تلك الأطراف الداخلية والخارجية..
# خلاصة :
إن أصحاب القوة والنفوذ في الأمة والسلاطين وكبار الرأسمالية التي كانت يوما وطنية ؛ يقفون إلى جانب القوى الخارجية التي تستهدف الأمة والعروبة معها ومن خلالها..
وكما تمكنت قوى النفوذ الأجنبي من تشكيل جماعات محلية تتبع لها وسلمتها مصادر القوة والنفوذ ؛ في مراحل تاريخية سابقة ؛ فقد تمكنت هذه القوى المحلية بعد أن صارت صاحبة السلطة والسلطان ؛ من تشكيل جماعات غير رسمية ؛ تتبع لها وتسلمت منها مصادر عديدة مهمة للقوة والنفوذ وراحت تلعب دورا وظيفيا لمصلحتها ..برز ت هذه المجموعات في عدة مجالات كان أبرزها على الآطلاق :
١ – الإعلام وما يلحق به من مراكز للدراسات والأبحاث والنشر والتسويق وكل ما يدخل في التأثير على العقول وتوجيه الرأي العام وإهتماماته..
٢ – المال والأعمال والمشاريع والمقاولات وكل أنواع صناعة المال والرأسمالية..
وكل ما يدخل في إستملاك مصادر عيش الناش ومتطلبات حياتهم العملانية..
فصارت قوى الإعلام ورأس المال قوة إضافية رديفة لقوى السلطة وصاروا جميعا رديفا لقوى النفوذ الأجنبي
وإنخرطوا جميعا في حرب واحدة على العروبة وتجلياتها..
في مواجهة هذه القوى الضخمة ذات الإمكانيات الهائلة يقف أبناء الشعب العربي ليس لهم من قوة تحميهم إلا إيمانهم بحقهم في الحياة الحرة الكريمة..
شعب مشلح من كل أسلحة الدفاع والصمود في مواجهة أعتى تحالف للقوة الهمجية الغاشمة المسلحة بكل أسباب القوة بأنواعها..
شعب مقسم مقهور منهوك القوى مستغرق في تأمين أبسط مقومات الحياة المادية ؛ مقابل كل طغيان القوة وجبروتها..
فكان طبيعيا جدا إختلال الموازين وبصورة مجحفة جدا في غير صالح الشعب…
ولقد إستطاعت قوى البغي والنهب والعدوان ، بما تملكه من فعاليات التأثير الكبرى ، أن تضلل كثيرين وتشوه وعيهم بذاتهم وبأمتهم وبتاريخهم ، بل راحت تمارس عليهم ألعابا ساخرة بهلوانية عجيبة لتحمل العروبة مسؤولية كل ما يعتريهم من ضعف وإنهيار وهوان..فخرج قطاع لا بأس به من أبناء الأمة من ثوبهم وتنكروا لهويتهم فصاروا عائقا آضافيا أمام تحرر الأمة ونهضتها وإصطفوا في صفوف الغزاة وإن لم يعلموا ذلك أو يكابرون فينكرونه بل ويدعون عكسه..
وهكذا وجد الأحرار من أبناء الأمة أنفسهم في مواجهة جبهة جديدة تضم هؤلاء المشوشين الذين راحوا يضللون غيرهم بما يبثون من شعارات كاذبة .وهم يعلمون أنها كاذبة مضللة لإخفاء مواقعهم المشبوهة ومواقفهم الخبيثة المعادية..
قطاع أخر واسع من أبناء البلاد إتخذ السلبية موقفا فراح يراقب وينتظر مكتفيا بإهتماماته الحياتية المباشرة متخذا من الإحباطات المتتالية ذريعة لسلبيته..
فلم يبق في الساحة إلا فئة قليلة من الأحرار الذين يعون أبعاد العدوان والمخاطر وإستهدافاتها فراحوا يتحركون بإمكانيات تقترب من العدم في مواجهة قوى جبارة طاغية مجرمة…
ورغم هذا الآختلال الخطير لا يزال أبناء الأمة الأحرار يصمدون ويحققون وينجزون ..يكفيهم أنهم يصمدون بما يملكون من إرادة..وهذا لوحده دليل على أصالة الإيمان الذي يحركهم ويحميهم من الرضوخ والسقوط..وحدهم هؤلاء تتجلى العروبة والإيمان والأصالة في سلوكهم ومواقفهم..وحدهم يترجمون هويتهم العربية إلتزاما سلوكيا يضعهم في مواجهة كل قوى البغي والنهب والعدوان .. الداخلية والخارجية ، وما أكبر جحافلها..
كل هذا يكفي دليلا على أن من يتحمل مسؤولية الضعف والهوان والتردي العربي القائم ؛ هم اؤلئك الذين يملكون سلطة القوة والنفوذ ويستحوذون على كل الإمكانيات ويتصرفون بها وفق مصالحهم المرتبطة بالنفوذ الأجنبي والساعية لإرضائه ؛ بعيدا عن أي إلتزام بالعروبة ومقتضياتها وتجلياتها ..فلماذا إذن يحملونها للعروبة فيشتمونها ويتهمونها بسبب وبغير سبب.. بمناسبة وبغير مناسبة…؟؟!!
هل تعلمون لماذا ؟؟
لأن الذين يطلقون ويروجون هذه الإتهامات للعروبة هم أنفسهم ألمعادون لها الذين يشنون عليها حرب الإبادة والتدمير..أما الذين ينطقون بها فليسوا إلا ضحايا تلك الحرب ، اليتامى المتروكين لمصائرهم فرادى مستضعفين ..كما العروبة ذاتها..
ولقد برعت تلك القوى المترابطة في مصالحها ضد العروبة ؛ في تشكيل مجموعات غير متوافقة معها ظاهريا. . تنشط وتتحدث وتتحرك في كل إتجاه تسمي نفسها معارضة ؛ تستكمل دورا وظيفيا مطلوبا لها ومنها ؛ بالسيطرة على ساحات الحركة والفعل ، يبقى في إطار تلك القوى المهيمنة التي أبرزته وأطلقته أساسا ؛ وراحت تناور معه لإستباق أية حركة حرة شريفة ولتبقى الأمور جميعها ممسوكة للقوى المتحالفة داخليا وخارجيا..ويبقى الأحرار خارج الحسبان والتأثير ..فلا هم يملكون من القوة والنفوذ شيئا ولا قوى تحالف النفوذ المعادي تريدهم أو تقبل لهم دورا فتستبعدهم باشكال متنوعة من الحرب والحصار والقتل والتشويه والحرمان والفتن..ثم يأتي دور من أسموهم معارضة يكمل اللعبة فلا يترك في الساحة مجالا لحركة أحد غيرهم…ويلعب المال والإعلام دورا خطيرا في كل هذا..وهكذا في لعبة الثنائية المنضبطة الممسوكة التي لا تسمح للخيار الثالث بالظهور والتجلي..
على من تقع إذن والحال كذلك ؛ مسؤولية بلورة العروبة التزامات عملية وتجليات أخلاقية تضامنية ؟؟
متى يتحرك الشارع العربي ؟؟
من يحرك الشارع العربي في تعبير عن إلتزام عروبي يترجم وحدة المصير والمشاعر التضامنية بين ابناء البلاد العربية ؟.
هل المشكلة في العروبة ذاتها كما يدعي المرجفون أم في التعبير عنها بتجليات عملية واضحة ؟؟
بالعودة إلى الأحداث السياسية خلال المئة سنة المنصرمة من عمر الأمة ، نجد أن الحركات الشعبية التضامنية بين العرب والإحتجاجية والمتصدية لقوى البغي والعدوان بكل الوسائل حتى العسكرية منها ؛ كانت نشطة جدا بل فعالة جدا ..فمن محاربة التتريك الى شهداء الإستقلال عن تركيا والثورات ضد الإحتلال الأجنبي في المشرق والمغرب ومصر لم تهدأ .ثم كانت ثورة الجزائر تجليا واضحا وعميقا لفعل العروبة في نفوس ابناء الأمة جميعا ..فلم تبق قرية او مدينة في أي بلد عربي إلا وحاك ابناؤها لباسا للمقاتلين أو قدموا مصاغهم للثورة وهكذا الى أن إنتصرت …
وهكذا كان الحال مع الثورة الفلسطينية في كل بلد عربي..كان أبناء الأمة يتفاعلون ويقدمون وينخرطون في النضال بما فيه القتالي ..كانت مصر بقيادة جمال عبدالناصر تعبر عن ذلك الإلتزام الواضح الواعي العميق بالعروبة دعما وتضامنا لكل تحرك شعبي عربي وطني او تحرري ..دفعت من أبنائها شهداء ومن مواردها دعما ..
ولعل ذلك الإلتفاف الشعبي الجماهيري الخارق للوصف حول قيادة جمال عبدالناصر ؛ أبلغ تعبير عن أصالة الوطنية والعروبة في ابناء الأمة كلها..وفي إلتزامهم بالعروبة واستعدادهم للدفاع عنها والتضحية في سبيلها..فكانت تجليات العروبة أروع صور الجماهيرية الشعبية التي يعرفها التاريخ الإنساني برمته..
ثم ماذا بعد ؟؟
لنعد إلى العقدين المنصرمين من القرن الواحد والعشرين نجد ان الشعب العربي في إكثر البلدان التي تعاني القهر والتبعية والفساد إنتفض و كانت حركات شعبية رافضة متمردة ترافقت باعتقال عشرات آلاف الشباب والكوادر والقيادات الوطنية المنتفضة معبرا عن تفاعل الشارع وحركته الإيجابية إنسجاما مع حسه الوطني ومشاعره العروبية ضد التسلط والتبعية والقهر وطلبا للحرية والكرامة والحياة الكريمة..
ولم تكن مشاعر التضامن الشعبية العربية المتعاطفة مخفية أو خافية على أحد..
منذ غزو العراق الامريكي الصهيوني الفارسي عام ٢٠٠٣ ؛ لم تنقطع مظاهر التضامن مع الشعب العراقي..
كذلك مع الشعب السودان وليبيا واليمن وكل مكان..وبلغ التضامن ذروته إبان ثورة ٢٥ يناير في مصر..ربما كانت تعبيرات التضامن معها متناسبة مع مستوى التطلعات الشعبية نحو دور مصر الإيجابي الفاعل في كل الواقع العربي..
اما فيما يتعلق بقضية فلسطين العربية المركزية فلم تنقطع مظاهر التضامن الشعبي العربي معها..
كذلك ثورة الشعب السوري التي عرفت تأييدا جماهيريا بارزا في مراحلها الأولى ..
أمام هذا الواقع يواجهنا تساؤل جدي : وماذا كانت نتائج هذا التضامن وما مدى فعاليته ؟؟
هنا يطرح الواقع الموضوعي أمرين جوهريين :
– الأول :
يتعلق بمدى قدرة المتلقي – أي الساحة المعنية بالتضامن معها – على التعبير عن ذاتها بشكل جاذب غير مشوش..
وقد كان الوضع الداخلي لكل ساحة يعاني من مشكلات وإرباكات تجعله من جهة غير قادر على إستظهار أشكال التضامن المطلوب من العرب الآخرين ؛ ومن جهة ثانية يفرز واقعه ما يجعل التضامن الموجود غير ذي جدوى فيدفعه إلى الحيرة والتردد والتلاشي تدريجيا..
والمثال الجلي جدا على هذا هي الساحة الفلسطينية..
فمن جهة فإن حالة الإنقسام القاتل المدمر وما يرافقه من إتهامات متبادلة ؛ يضع المتضامنين من غير الفلسطينيين في حيرة وتردد يؤدي بهم إلى الحسرة والإنكفاء..
كما أن وضع السلطة وما فيها من فساد وما يربطها عبر أوسلو بسلطة الإحتلال ، يشكل صادما آخر..
ثم يضاف إلى كل هذا تحالف الأجنحة الدينية في الساحة الفلسطينية بمشروع غير عربي لا بل معاد للعروبة ويرى غالبية العرب أنه يتاجر بقضية فلسطين..فكيف يتضامن العربي ومع من وعبر أية مؤسسات أو قنوات ؟؟ ورغم ما لقضية فلسطين من قدسية في ذهن وروح الإنسان العربي وضميره ؛ فإن تشوش الأدوات الحركية يتركه حائرا مترددا..
ينطبق هذا على ساحة ليبيا حيث أن الإطراف المتقاتلة متوزعة على قوى النفوذ والإحتلال والعدوان الأجنبي ؟ فكيف يتجلى التضامن ومع من وعبر ماذا ؟؟
وما حال ثورة مصر بأفضل بكثير حيث مآلها غير المطمئن يدفع إلى النكوص..
وفيما يخص ثورة الشعب السوري فقد أصبح المأزق أكبر بكثير..
من هو الشعب السوري حاليا ومن يمثله ومن يقود ثورته او يعبر عن تطلعاته وكيف لعربي أن يترجم تأييده لشعب سورية في ثورته ضد الإجرام والطغيان ..
ما هي حقيقة الميليشيات المسلحة التي ساهمت بإتاحة الأسباب أمام ضياع الرأي العام في متاهات المصالح والصراعات الإقليمية والدولية وفي الخلفيات الفئوية غير البريئة ؟ كل هذا أدى إلى تشتت الرأي العام الشعبي لا بل تسبب في توهان كثير من الأطراف في خضم المصالح والصراعات والخلفيات الفئوية..
إلى الدرجة التي جعلت الكثيرين ينفضون عن مسار الثورة أو تأييدها حتى من سوريين كانوا مؤيدين..
ليس الشعب السوري الثائر هو المسؤول عن هذه الإشكاليات لكنها التداخلات المحلية والإقليمية والدولية العميقة والمعمقة بإستمرار في واحدة من أخطر وأهم الثورات العربية ضمن الواقع الراهن نظرا لما لها من تغييرات إيجابية مأمولة أو منتظرة فيما لو صححت ذاتها وإنتصرت..
– الثاني :
يتعلق بألإستثمار ، أي بمدى إمكانية الحركة المتضامنة في التعبير عن ذاتها وفق آليات محددة تصب في خدمة الهدف المطلوب..
وهنا الإشكالية المهمة التي لا ينتبه لها كثيرون :
# إن الثورة شيء وإستثمارها شيء آخر #.
التحركات الشعبية أكانت تضامنية أو ثوروية أو تعبيرية أو حتى مطلبية ؛ كثيرا ما تستثمرها قوى معادية لها جوهريا..تركب موجتها..تتاجر بها ثم تفاوض بالنيابة عنها وتقطف ثمارها بعيدا عن أية مشاركة فعلية لها أو بمشاركة جزئية بسيطة..
هذا يطرح إشكالية التنظيم ؛ وهل توجد قوى منظمة تقود التحرك الشعبي وتبرمجه وفق أهداف محددة تعبر عنه تفاوض بأسمه وليس نيابة عنه وتفرض أهدافها وفق برنامجها المحدد..
وهكذا فإن إستثمار أية تحركات شعبية يستدعي وجود قيادة تنظيمية لها صادقة مخلصة أمينة..فعودة إذن إلى مشكلة التنظيم والأداة التنظيمية..
تجلى هذا بوضوح في الثورة السورية وكان غياب التنظيم والبرنامج المرحلي أحد أسباب إنتكاساتها المتكررة..
كذلك الحال في كل بلد عربي..وقد تميزت إنتفاضة الشعب السوداني بوجود قيادات منظمة أصلا ذات رؤى وبرامج محددة فإستطاعت أن تحقق الإستثمار الأفضل بأقل الخسائر ..أما في إنتفاضة شعب لبنان في ١٧ تشرين ٢٠١٩ ؛ فإن غياب تنظيم تنسيقي مبرمج للإنتفاضة كان أحد أسباب إنتكاستها وتمكين قوى السلطة منها ؛ رغم مشاركة أعداد كبيرة من الشباب الوطني من كل المناطق والمذاهب والأديان تجاوزا للتقسيمات الطائفية السلطوية..وهي لن تستطيع المعاودة بفعالية ما لم تستدرك هذه الثغرة التنظيمية القيادية المهمة..
وهنا يطرح البعض إشكالية تتعلق بالتشكيك بتلك التحركات – الإنتفاضات العربية والتي سميت بالربيع العربي ؛ موجهين إتهامات مباشرة لقوى النفوذ الأجنبي بآفتعالها للسيطرة على الأمة وتدميرها..
وفي هذه المقولة إجحاف وإبتعاد عن الموضوعية..فالحقيقة أن قوى النفوذ الأجنبي بما لها من أدوات محلية وعربية ومن قوة وإمكانيات هائلة ؛ تستطيع التدخل وإستثمار أية تحركات شعبية لخدمة أهدافها هي ومنع الشعب من تحقيق ما يريد..وما غياب التنظيم القيادي المبرمج إلا سببا أساسيا في تمكين قوى النفوذ الأجنبي من ألإستفراد بالتحركات الشعبية وإستثمارها ضد أهدافها التي إنتفضت لأجلها ..لا بل سيبلغ رعب الإستفراد والإستثمار حدا سيجعلها تندم على ما قامت به وإنتفضت لأجله..سيما وأن قوى النفوذ والسلطان المحلي يقف إلى جانب قوى النفوذ الأجنبي وليس إلى جانب التحركات الشعبية..بل يعاديها فيحاربانها معا..
أما في الجانب الآخر أي في التعبير السلبي في الواقع العربي فإن هذه الإشكاليات ذاتها تنطبق عليه وتجعل الكثيرين حائرين..
وإذا أخذنا التطبيع مع العدو الصهيوني كمثال ؛ فإن موقف الكثيرين سيصاب بالحيرة والتوهان بسبب واقع حال الساحة الفلسطينية فمن قائل أن السلطة تعترف وتتعامل وتطبع مع الإحتلال إلى قائل أن حماس مثلا تعترف وتتعامل وتطبع مع الإحتلال بدليل المفاوضات واتفاقيات وقف النار والأهم إستلام أموال خارجية عن طريق سلطة الإحتلال ومؤسساته..
فهذا كله يكبح التضامن الإيجابي وتجلياته في حين يشجع التجليات السلبية الشامتة أو الغاضبة والمنفعلة..
والنتيجة في هذا العرض الموضوعي أن ما يبدو من ضعف تعبيرات الشارع العربي عن مشاعره العروبية التضامنية مع أخوته العرب في الظروف الراهنة ؛ وهو ما أسميناه : تجليات ” العروبة ” ؛ له أسبابه الموضوعية التي لا يتحمل الإنسان العربي مسؤوليتها …وليست بسبب عجز بنيوي في هذا الإنسان أو عطب تكويني ينفي هوية العروبة ووجود الأمة كما يدعي الشعوبيون والمنافقون وأتباع النفوذ الأجنبي أو المنساقين في تخرصاته الحداثية..
وفي ظل الواقع العربي الراهن وانطلاقا من المعطيات العملية القائمة فيه ؛ فإن أحدا ممن يملكون قوة أو نفوذا او سلطة يريد أو يقبل أو يتمنى أي شكل من أشكال ذلك التجلي والإلتزام..فهو في غير مصلحته بل كاشف فاضح له إن تم…
كما يسقط المضللون والسلبيون والإنتظاريون من الحساب..
أما الأحزاب التي ليست في السلطة والتي تتحدث لغة الوطنية والتقدمية والعروبة فقد تخشب كثير منها وتشرنقت قياداتها داخل ذاتيتها المهلكة وتقوقعت فأصابها شبه شلل او أصبحت شللا لا تملك المقدرة على تحريك الجماهير وتفعيل حركتها..وبعضها الأخر غزتها أجهزة السلطات فربطتها بها بالمال او بالجاه أو بالتوريط والتشبيك والإبتزاز..فأضحت من مفرقعات السلطة تفجرها هنا أو هناك لإمتصاص أية حركة شعبية وتضليلها وإحباطها..
كان الطبيعي أن تلعب أحزاب العروبة والتقدمية والقومية والناصرية ذلك الدور الأساسي الطليعي القيادي التنظيمي لتلك التحركات الشعبية وإنتفاضاتها ؛ حيث المفترض أن تكون أقرب القوى إلى نبض الشارع العربي وأكثرها مقدرة على التعبير عنه وترجمة تجلياته العروبية قيما وسلوكا إيجابيا تضامنيا فاعلا..
لكنها للأسف قد تكون غرقت في شيء من الجمود الحزبي وتمكنت منها العقلية الفئوية ما جعلها عاجزة عن هذه الأهداف وأمامها..هنا تطرح إشكالية أخرى تتعلق بتلك الأحزاب والحركات المسماة ” قومية ” والتي إلتحقت بقوى النفوذ المحلي أو الإقليمي فغادرت مواقع الحركات الشعبية لتلتحق بمصادر تمويلها التي تملي عليها مواقف في غير مصلحة العروبة..مما جعلها تصبح عائقا إضافيا أمام العوائق الموضوعية التي تشوه تجليات العروبة وتجعلها غير ذات معنى أو مضمون حقيقي صادق..
وقد شكل ” المؤتمر القومي العربي ” أحد أهم أدوات تخريب الحركات والأحزاب والشخصيات القومية التي إنضمت إليه على أساس أنه سيكون إطارا قوميا للحوار والتفاعل بين الجميع لدفع نهضة الأمة إلى الأمام فإذا به يصبح غطاء للنفوذ الأجنبي في الأوساط القومية وتحديدا بات غطاء وتبريرا للمشروع الفارسي المذهبي المتصهين الذي يتخفى تحت شعارات المقاومة والممانعة..
( كذلك الأمر فيما يتعلق بالنقابات المهنية والعمالية فأصبحت أدوات سلطوية وليس العكس.)
كان من الطبيعي في مثل ظروف الأمة العربية وواقعها المزري الراهن ،؛ أن تلعب الأحزاب السياسية ” الوطنية ” دور الموجه للشارع الشعبي تقوده وتحركه وتترجم تطلعاته لتبدو تجليات الإلتزام الوطني والعروبي واضحة تجمع ولا تفرق تفعل ولا تبدد ؛ تواجه كل تشويه للهوية والإنتماء ، لكنها للاسف الشديد غرقت في عقليتها الحزبية وإنعزلت في إطار مصالحها الضيقة أو تجمدت فكريا وثقافيا بفعل ذاتية قياداتها التاريخية المزمنة فأصبحت عقيمة غائبة عن الوعي..مما جعلها تسقط فريسة الآحتواء السلطوي فباتت تبخر لها تنافقها وتلفق من المواقف ما يبرر لها ويخفي إرتهانها لها.. هكذا فقدت أغلب الأحزاب السياسية دورها وإنضمت إلى صفوف معوقات الإنطلاق والنهضة ..إلا القليل منها…
وقد كان لازما أيضا أن يقوم الدين بدور المحرض المدافع عن الهوية إلا أن إرتباط المؤسسة الدينية وظيفيا بالسلطات السياسية جعلها ظلا لها منافقا ملفقا..
اما الأحزاب السياسية ذات الإسم الديني فهي في أساس نشأتها مرتبطة بالسلطات ذات النفوذ..وهي وإن إستطاعت تحريك قطاعات واسعة من الناس ليس بفعل مواقفها السياسية النضالية المستقلة ولكن بفعل إستغلال مشاعر الإيمان الديني العفوية في الناس ؛ إلا أن تحريكها لهم كان أيضا في التشويش على العروبة وتشويهها ومنع تجلياتها الإيجابية..فإنضمت أيضا إلى معسكر المحرضين على العروبة المتنكرين لها والمشوهين لثوابتها ومقوماتها..
فهل بعد هذا من يستغرب ضعف تجليات العروبة التعبيرية بمعناها الإيجابي التضامني الفاعل ؟؟!!!.
رغم كل تلك المعوقات ؛ تبقى في الميدان تلك الفئة القليلة المؤمنة الصادقة الأمينة التي تمارس عروبتها بتمسكها النضالي بالدفاع عن الشعب والأرض والوطن مدركة حجم المخاطر وأبعاد العدوان ؛ مستمسكة بعروتها الوثقى : العروبة منقذا وهاديا وجامعا..ليست منقذا لها هي وإنما للأمة كلها بما فيها تلك القوى والجماعات التي تاهت في طريقها وتشوش وعيها بهويتها التاريخية ..
على مثل هؤلاء ينعقد الأمل الكبير في بلورة إطار عام يرى العروبة بصورتها الحضارية يطرحها يشرحها يدافع عنها ويجسدها تجليات عملية حياتية في كل الأمور الكبيرة كما الصغيرة ..يشكل دليلا مرشدا إلى الفهم العروبي لما يجري من أحداث ؛ كما للموقف العروبي السليم ثم مرشدا وهاديا إلى حركة تنويرية نهضوية رافعة تراكم الإيجابي وتطوره وتزيده ، فترفع أسس المناعة وتدفع إلى الأمام نفوسا مؤمنة مناضلة مخلصة…
وما الإنتظار إلا تكريسا لهيمنة قوى الأمر الواقع وإستبعادا لأية مصلحة شعبية..بل ترك الساحة للقوى المعادية ، الداخلية والخارجية ، ترسم ما تريد وتحوله إلى وقائع لا نملك في رفضها غير إيماننا وإرادتنا ..
إن طاقات شعبية عربية كبيرة واعدة لكنها تائهة مشتتة مبعثرة..تنتظر من يوجهها وينظمها في إطارات تعبوية جامعة ويوظف طاقاتها
لتصبح موحدة بعد تشتت ، منهجية بعد توهان ، فاعلة بعد بعثرة..فإن بقيت على حالها فسوف تزيد الضغوط عليها وإستفرادها إما لإستيعابها وإسقاطها وإما لإبعادها ووأد تأثيرها وفعاليتها..
لا يخيفن أحدا واقع أن العروبة يتيمة راهنا..فهي الحقيقة الأصيلة المعبرة وحدها عن تاريخ شعب ومستقبل أمة..هي حقيقة الهوية والإنتماء لأنها حقيقة التكوين والتفاعل بين التاريخ والجغرافيا والبشر عبر آلاف السنين..وستنتصر مهما غلت التضحيات وإشتد الظلام…