ماجد كيالي
ثمة تاريخاً غامضاً للنظام السوري، في الحقبة الأسدية، هو التاريخ المحجوب، لمصلحة سردية تحيل كل شيء في سوريا، للنظام الذي أسسه، أو سيطر عليه، حافظ الأسد…
تفتقر القصة التي أبطالها بشار الأسد الرئيس، وأسماء الأخرس زوجة الرئيس، ورامي مخلوف ابن خال الرئيس، إلى الحوادث الدرامية، المثيرة، والجاذبة، والتي تحرّض المخيّلة، على غرار الروايات الشيّقة التي قرأنا عنها، أو شاهدناها في المخيال السينمائي، والتي رصدت مؤامرات أو صراعات أو غراميات أو فروسيات سادة القصور، مثلاً، آل بوربون في قصر فرساي في فرنسا، وآل وندستور في قصر باكنغهام أو وندستور في بريطانيا، وآل رومانوف في قصر الكرملين أو “الشتاء” في روسيا.
في ذلك الافتقار يمكن الحديث عن أسباب، أهمها، أن تلك القصة تأتي في طور انحطاط النظام السياسي الأسدي في سوريا، وتكشف عن التحلّل الأخلاقي لأهل الحكم، الذين هيمنوا على حياة السوريين، منذ نصف قرن، لقبضهم على السلطة السياسية والأمنية والمالية في ذلك البلد، مع كل ما في ذلك من جشع وأنانية ورياء وغدر، كأن الأمر يتعلق بعصابة سيطرت على دولة، وفوق كل ما تقدم، لأن مخيلة السوريين لم تعد تتّسع لقصص كهذه، بعماد باتت تغص بقصص الهول السوري، القتل والاعتقال والتدمير والحرمان والتشرد.
ربما المّيزة الوحيدة لتلك القصة تتعلق بالشكل الذي يمكن أن تنتهي إليه، على غرار حكايات أخرى، مماثلة، ميّزت حقبة السلطة الأسدية، في التاريخ السوري. مثلاً، هل ستنتهي تلك القصة باغتيال مخلوف أو انتحاره أو اعتقاله أو نفيه، على نحو ما حصل مع غيره من أقطاب تلك السلطة، التي أكلتهم، ضمن ما أكلت من الشعب السوري، ومن تاريخ سوريا ومواردها؟
تاريخ محجوب
الفكرة هنا أن ثمة تاريخاً غامضاً للنظام السوري، في الحقبة الأسدية، هو التاريخ المحجوب، لمصلحة سردية تحيل كل شيء في سوريا، للنظام الذي أسسه، أو سيطر عليه، حافظ الأسد (1970)، عبر انقلاب عسكري سُمّي، مراوغة، “الحركة التصحيحية”، وتحت تغطية شعارات: الوحدة والحرية والاشتراكية، ومقاومة إسرائيل والإمبريالية، في حين أن ذلك الانقلاب أنجب واحداً من أكثر الأنظمة العربية تسلطاً وفساداً، في مختلف المجالات، ناهيك بأنه حول الجمهورية إلى نظام وراثي.
بدأت حكاية ذلك النظام مع تشكيل ما سمي “اللجنة العسكرية”، وكانت تضم مجموعة من الضباط من مثل صلاح جديد وحافظ الأسد وعبد الكريم الجندي وأحمد المير ملحم ومحمد عمران،
إلا أن أعضاء اللجنة العسكرية (ومعظم القادة السياسيين)، باستثناء أحمد المير، تمت إزاحتهم، بالقتل أو بالاعتقال أو بالنفي، بعد سيطرة الأسد (الأب) على السلطة، أي أنه بدأ حياته بالبطش برفاقه المقربين الذين ساهموا في صنعه وفي صعوده في الجيش. مثلاً، أمضى صلاح الجديد، الذي كان يعتبر أهم شخص في تلك اللجنة، 23 سنة في السجن إلى حين وفاته (1970- 1993)، وهذا ينطبق على عبد الكريم الجندي، الذي اختلف مع حافظ الأسد في فترة مبكرة، وكانت النتيجة أنه قضى نحبه بطريقة غامضة، في مكتبه بدمشق (يوم 2/3/1969)، وهو ما شهدناه في ما بعد مع مصرع رئيس الوزراء محمود الزعبي، وغازي كنعان وزير الداخلية. أما محمد عمران، فاغتيل في طرابلس (لبنان) يوم 14/3/1972. أيضاً ينطبق ذلك على اللواء احمد السويداني، رئيس أركان الجيش السوري في الفترة بين 1966 – 1968، الذي أمضى 25 عاماً في السجن (اعتقل عام 1969 لخلاف مع الأسد)، ولم يفرج عنه إلا قبيل وفاته، عام 1994.
لعل تلك القسوة والروح الاستئصالية، التي اتسم بها النظام الأسدي، تذكرنا بمسؤوليته عن مصرع مئات الآلاف، وتشريد ملايين السوريين
طبعاً لم يكتف الأسد بإزاحة رفاقه في “اللجنة العسكرية”، وإنما استكمل ذلك بالإطاحة برفاقه في القيادة السياسية، أو قيادة حزب البعث. هكذا فبعد انقلابه تم اعتقال رئيس الجمهورية (وقتها) نور الدين الأتاسي، الذي كان تبوّأ منصبَي الأمين العام للحزب ورئيس الدولة، أيضاً، إذ أمضى 22 عاماً في السجن، ولم يطلق سراحه إلا بعدما تفشى مرض السرطان في جسده (توفي أواخر 1992). وقد حصل الأمر ذاته مع يوسف زعين، الذي كان من القيادات البارزة في الدولة والحزب، وشغل منصب رئيس الحكومة، إذ اعتقل 11 عاماً، وتم الإفراج عنه عام 1981 بسبب إصابته بالسرطان، ليغادر البلد للعلاج، وقد بقي خارج سوريا حتى وفاته (صيف 2016). وحصل الأمر ذاته مع ضافي الجمعاني، من القيادات القومية لـ”حزب البعث”، وهو أردني الجنسية، إذ أمضى 23 عاماً في السجن، وأطلق سراحه عام 1993 (توفي أوائل نيسان/ أبريل الماضي في الأردن).
شهدنا في فترة منتصف الثمانينات إزاحة رفعت الأسد، أخ الرئيس ونائبة للشؤون العسكرية، بطريقة ناعمة، اشتملت على تسوية مالية ونفي خارج البلد.
في أي حال فإن سيرة الأسد الأب، تكررت مع سيرة الأسد الابن في السلطة، ففي عهده (في ظل مرض الأسد الأب) تمت إزاحة القادة الكبار، رفاق الأسد الأب، من مثل علي دوبا وعلي حيدر وعلى أصلان، بطريقة ناعمة، كما تمت إزاحة عبد الحليم خدام، الذي غادر البلد، وحُجزت أمواله وممتلكاته.
وبشكل أكثر تحديداً، فإن عهد الأسد الابن شهد الكثير من حوادث الإزاحة الغامضة، ضمنها، مثلاً، مصرع محمود الزعبي، رئيس وزراء سوريا (1987- 2000)، في منزله، بادعاء أنه أقدم على الانتحار بعد وصول دورية أمنيه لأخذه إلى التحقيق لاتهامات بالفساد. وتكررت قصة الانتحار مع مصرع اللواء غازي كنعان (2005)، وزير الداخلية في حينه، والذي كان بمثابة حاكم للبنان، وذلك في مكتبه في الوزارة.
بيد أن القصة الأكثر غموضاً وإثارة للريبة تجلت في حادثة تفجير ما يسمى “خلية الأزمة” (صيف 2012)، في مكتب الأمن القومي بدمشق، والتي أدت إلى مصرع كل من: اللواء آصف شوكت صهر الرئيس، واللواء هشام الاختيار مسؤول الأمن القومي، واللواء حسن تركماني رئيس الأركان واللواء داوود راجحة وزير الدفاع، والتي تم التعتيم عليها في خضم الصراع السوري الجاري، وإخراجها بطريقة مريبة، إذ تم فيها التخلص من حلقة مهمة من القادة الأمنيين، الذين أثيرت حولهم الشكوك بشأن إيجاد بديل للأسد.
أيضاً، هناك قصة مقتل رستم غزالة (2015)، الذي كان واحداً من اهم أدوات النظام الأمنية البشعة، والذي كان اسمه يلقي الرعب في قلوب اللبنانيين، والطبقة السياسية في لبنان، إذ تم إخراج مقتله برواية عن خلاف “شخصي” بينه وبين اللواء رفيق شحادة، رئيس شعبة المخابرات العسكرية، نجم عنه قيام مرافقي شحادة بضربه ضرباً مبرحاً، أدى إلى مصرعه.
ولعل تلك القسوة والروح الاستئصالية، التي اتسم بها النظام الأسدي، تذكرنا بمسؤوليته عن مصرع مئات الآلاف، وتشريد ملايين السوريين، كما تذكرنا بمسؤوليته عن اغتيال الزعيم اللبناني كمال جنبلاط (1977)، ومفتي الجمهورية اللبنانية حسن خالد ورينيه معوض الرئيس اللبناني الأسبق (1989)، ثم الرئيس رفيق الحريري (2005) مع الوزير باسل فريحان، وأيضاً سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وبيار الجميل ووليد عيدو وأنطوان غانم ووسام الحسن.
الآن، هل ستنتهي قصة رامي بمجرد نزع أملاكه، وعائلته، أم ستدخل في أطوار أخرى؟
المصدر: درج