جهاد عدلة
اخترت العزلة، والانقطاع عن العالم تماما، واستثنيت من ذلك فقط عملي، لأنه من أهم المهمات عندي، ولأنني أتعامل معه كعبادة، وثالثا لأنه مصدر رزق وهبنيه الله فحُق له علي الاهتمام به وتكريمه، لكنني واصلت عملي من البيت باستثناء يوم التصوير، وما عدا ذلك فقد أغلقت قنوات التواصل مع العالم من حولي.
هذه الخلوة منحتني قدراً لا يمكن حصره من هدوء نفسيٍّ وراحة بال، ووفرت لي فرصة للتأمل والتفكر، وفي النظر إلى الشأن العام، وفي معايش الناس وعلاقاتهم البينية، وأمعنت النظر في بدايات الإنسان ونهاياته، وفي سيرورته ومآلاته، فلم أزدد من ذلك كله إلا إيمانا بهوان الدنيا إلا إذا كانت الحياة فيها زادا لما بعد الموت، وتبسمت كثيراً للهاث الذي يقطع أنفاس كثير من الناس، ويدفعهم إلى التناحر والمكائد، واغتنام الفرص بطرق غير مشروعة، وراء منصب أو منفعة لأنفسهم، أو لأولادهم، أو أشقائهم، أو أحبابهم، أو عشيرتهم، ولو كان في ذلك مظلمة لغيرهم وهضماً لحقوقهم.
الخلوة تعطيك شعوراً كما لو أنك تشاهد جموعاً من البشر تتطاحن وتتنافس وتلهث وتتعب وتبكي ويقتل بعضهم بعضاً بالسلاح أو بالكلمة أو بالمكيدة، لكنك تشاهدهم من علٍ، من فوق جبل يكشف لك المشهد بكليته، فتصغر بعينك عظائم اللذات، وتزول من نفسك كبائر الشهوات، وأنت تدرك كيف تمر اللحظات والساعات والأيام والسنين لهاثاً وراء زائل، بينما يفرط الناس بما هو باق، وكيف يهدر الإنسان منا مسرة دائمة في سبيل متعة مؤقتة.
المشهد من أعلى الجبل، مخدوماً بمكبر صورة تمثلها العزلة والتأمل، يشعرك أن كثيراً من عظماء المسؤولين، وكبار العلماء، وأرباب المال، وأصحاب المناصب، وذوي القوة والسلطان، لا يختلفون كثيراً عن أطفال الحي، وربما أطفال بيتك وهم يختلفون ويتشاحنون ويتشاكون، وتقع بينهم الخصومات، من أجل كرتونة بيض فارغة، أو علبة دواء خالية، أو أي موجود تالف، مصيره إلى النفايات، في مشهد عبثي يحمل لك ابتسامة مشبعة بالألم.
العزلة والخلوة، والبعد عن الناس، مطهرة للنفس، مغسلة للذنوب، مصفاة للعقل، مهذبة للجوارح، منقاة للروح، وهي باب لتوسيع الأفق، وإدامة النظر في ما هو آت، وفقه الحياة والهدف منها.