أيمن أبو هاشم
يندر أن نجد صراعاً بين روايات الحق والباطل، في تجارب التاريخ البشري القديم والمعاصر، احتشدت فيه ترسانة مهولة من المزاعم والأباطيل، وبروباغندا غير مسبوقة في خداع العقول وتضليلها، كما عليه الصراع؛ بين رواية أصحاب الحق والحقيقة في فلسطين، والرواية الصهيونية الزائفة ومزاعمها السالبة، لمشروعية الرواية الفلسطينية. لا غلّو أن هذا الصراع الرهيب، اتسم طابعه العام بالتناقض الوجودي منذ نشوئه، بين منطق اختلاق الوقائع وفرضها بقوة الإكراه الصهيوني، في مقابل منطق الدفاع عن الحقوق الراسخة في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي. ما يكشف بدوره السياسات النافذة للقوى الاستعمارية، في إضفاء “الشرعية الدولية على الرواية الصهيونية”، على حساب إنكار عدالة الرواية الفلسطينية.
ما يدلل أن الصعوبات والتحديات، التي واجهت الرواية الفلسطينية، منذ ما قبل النكبة، مروراً بواقعتها التأسيسية عام (1948)، وما تلاها من محطات وتحولات الصراع إلى يومنا هذا. أظهرت بمجملها ثقل العامل الدولي، وأدوار المؤسسات الدولية المُعبّرة عنه، في تثبيت وتمرير الرواية الصهيونية على الصعيد العالمي، ما جعل من تلك المؤسسات الخصم والحكم في آنٍ معاً، وهي سابقة فريدة أنتجها تواطئ المنظومة الدولية، في تعاملها مع القضية الفلسطينية، وحصتها من المسؤولية عن مأساة الشعب الفلسطيني. أهمية الإشارة إلى هذه الإشكالية، يعود إلى تأثيرها العميق على تحولات الصراع بين الروايتين في بعده الدولي والعالمي من جهة، ومنعكساته على أداء الفلسطينيين أنفسهم في خضم الدفاع عن روايتهم، طيلة محطات الصراع قبل النكبة وبعدها من جهةٍ ثانية.
المسؤولية الدولية عن فرض أباطيل الرواية الصهيونية
يصعب فهم سياسات المجتمع الدولي، في تعامله مع القضية الفلسطينية، على امتداد أكثر من قرن، دون تناول دوافع الدول الاستعمارية، التي سيطرت على المؤسسات الدولية، التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى ” عصبة الأمم ” والتي ورثتها لاحقاً ” هيئة الأمم المتحدة ” في أعقاب الحرب العالمية الثانية. حيث عملت الدول المنتصرة في كلا الحربين، على تهيئة المناخ الدولي، لمساعدة القوى الصهيونية، على إقامة مشروعها الاستيطاني التوسعي على ارض فلسطين التاريخية. هذا ما نراه جلياً في الحقبة التي أسست لقيام دولة الكيان الصهيوني في (15 أيار عام 1948)، والتي بدأت مع تبني المجلس الأعلى للحلفاء، في مؤتمر سان ريمو الذي عقد عام (1920)، مضمون وعد بلفور الصادر عام (1917)، والذي يُعتبر أول وثيقة تصدر عن دولة استعمارية هي بريطانيا، “تتعهد بموجبها بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين “. لم تقف تلك الدول عند حدود تبنيها هذا الوعد الجائر، الذي مَنح من خلاله من لا يملك (بريطانيا) لمن لا يستحق (الحركة الصهيونية)، بل قامت بإعلان مشروع الانتداب البريطاني على فلسطين من قِبل عصبة الأمم، ووضعه موضع التنفيذ في سبتمبر/ أيلول (1922) كما ورد في المادة ” 22″ من ميثاق العصبة. عدا عن افتقاد ذاك الوعد لأي أساس تاريخي أو قومي أو قانوني، فقد أصبح مُرشد حكومة الانتداب البريطانية، وبوصلة سياساتها الظالمة بحق أصحاب الأرض الشرعيين. حيث سعت الحكومة المُنتدَية، لفتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية، وتشجيع الاستيطان الذي اقترن بمصادرة الأملاك العامة، وإطلاق يد العصابات الصهيونية، وتمكينها قبل الإعلان عن نهاية انتدابها، من سلب الفلسطينيين أرضهم، وطردهم خارج وطنهم. المفارقة أن وعد بلفور وصك الانتداب، رغم دورهما الفادح في إنكار الحقائق التاريخية والساطعة كعين الشمس، التي تؤكد أحقيّة الفلسطينيين بأرضهم، فإن ما قام به المجلس الأعلى للحلفاء والحكومة البريطانية المُنتدَبة، هو مخالفة صريحة للوعد وصك العصبة سوياً، لأن كليهما أكدا على “عدم الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية، التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين”. فضلاً عن مخالفة كل السياسات الانتدابية التي تولتها بريطانيا في فلسطين، وما أحدثه إعلانها المفاجئ بالانسحاب وإنهاء الانتداب، من مخالفة صريحة للمادة “5” من صك الانتداب، التي تنص: ” إن الدولة المُنتدَبة مسؤولة عن ضمان عدم التنازل عن أي جزء من أراضي فلسطين، إلى حكومة دولة أجنبية، وعدم تأجيره إلى تلك الحكومة، أو وضعه تحت تصرفها بأي صورة أخرى”.
جرياً على دور عصبة الأمم، في تغييب وإنكار حقوق شعب فلسطين، خلال حقبة الانتداب، واصلت هيئة الأمم المتحدة، التي تأسست عام (1945)، الاستجابة لمتطلبات فرض الرواية الصهيونية، من خلال دورها في تمرير مشروع تقسيم فلسطين، إثر صدور القرار “181/ 1947″، الذي خالفت بصدوره عنها، التزاماتها المنصوص عليها في المادة ” 77 “من ميثاقها، والتي توجب عليها في حال إنهاء الانتداب “إمّا بالاعتراف بحق شعب فلسطين بتقرير مصيره، وإمّا أن تضع البلاد تحت نظام الوصاية”، وهو ما لم يتمّ من قِبلها.
لم يقتصر قرار التقسيم على مخالفة الأمم المتحدة لمبدأ العدالة، حين انتزع منطقة من البلاد ومنحها لليهود، مع أنّ نصف سكانها من العرب، ويملكون أكثر الأرض فيها، فقد حكم بذلك على أهلها بالتطهير العرقي، بما يعني أنّ الأعضاء الذين صوّتوا على القرار ساهموا في هذه الجريمة التي وقعت في نكبة العام 1948. علاوةً على ذلك فإن قرار التقسيم هو السند الكاشف لما يسمّى بإعلان الاستقلال الإسرائيلي في (15 أيار1948)، وهو ما يفسر قبول اليهود آنذاك بقرار التقسيم، الذي يكرّس وجودهم في فلسطين، ويحقق جهودهم في إنشاء دولة خاصة بهم، وعلى مساحة أكبر مما كانوا يملكون، ويعطيهم وصفا قانونيا يعترف به المجتمع الدولي.
تكشف تلك الحقائق مدى مجافاة الأمم المتحدة لالتزاماتها الدولية، في تعاملها مع القضية الفلسطينية، ومسؤوليتها الواضحة عن إنكار وتغييب الرواية الفلسطينية. رغم التحولات التي طرأت على مواقف المنظمة الدولية، بعد نشوء منظمة التحرير الفلسطينية، ونشاط الأخيرة على الساحة الدولية في حقبة السبعينات وما تلاها، والتي أسهمت في تغيير نظرة المجتمع الدولي لفلسطين، من قضية إنسانية تتعلق باللاجئين، إلى قضية وطنية ترتبط بحق تقرير المصير. غير إن تلك التحولات، لا يمكن أن تبرئ المنظمة الدولية، من دورها في تشريع أباطيل الرواية الصهيونية، تحت مظلة الشرعية الدولية، ومن وجاهة الحديث عن فشلها في أن تكون حكماً عادلاً ومنصفاً، كما كان يتوجب عليها.
محطات الدفاع عن الرواية الفلسطينية في المحافل الدولية
منذ تبلور مخططات المشروع الصهيوني، في عشرينات القرن المنصرم، لاسيما بعد وعد بلفور، وخلال حقبة الانتداب، أدرك الفلسطينيون حجم الأخطار، التي تتربص بوجودهم وأرضهم ومستقبلهم. وكانت تلك الأخطار المُحدقة، دافعهم الأكبر للتمسك بروايتهم الوطنية، بكل أسانيدها التاريخية، وحقائقها الوجودية، ومقوماتها الثقافية والمجتمعية والاقتصادية، وتمثلاتها الكيانية والحقوقية والمؤسساتية. في حين قاموا بالعديد من الانتفاضات والثورات التي شهدتها فلسطين قبل النكبة، تعبيراً عن رفضهم للسياسات الاستعمارية، التي سعت مبكراً إلى تكريس الرواية الصهيونية، على حساب حقوقهم الأصلية. أدركوا أيضاً ضرورة الدفاع عن روايتهم في ميادين السياسات الدولية، ومن اللافت في تلك الحقبة، انجدال الخطاب الفلسطيني بالخطاب الذي اعتمده المؤتمر السوري عام (1920)، والذي ضمّ ممثلين عن ” سوريا – فلسطين – لبنان “، وطالب باستقلال سوريا الطبيعية استقلالاً تاماً، بما فيها فلسطين التي كانت وقتذاك الجزء الجنوبي من سوريا الطبيعية. طبعت هذه السردية أيضاً كافة المؤتمرات العربية الفلسطينية المنعقدة ما بين الأعوام (1919- 1926)، التي لم يفصل خطابها بين مخاطر توزيع الحصة العربية من التركة العثمانية، بين الدول الاستعمارية، والخطر الصهيوني المُحدق بفلسطين على وجه الخصوص.
دبلوماسية الوفود والمذكرات
اتخذ الدفاع عن الرواية الفلسطينية في تلك الحقبة، ما عُرفَ بدبلوماسية الوفود والمذكرات، التي اقتصرت على حضور شخصيات فلسطينية وعربية، في اللقاءات والمؤتمرات التي تخص القضية الفلسطينية، ومن خلال رسائل ومذكرات إلى قادة الدول العربية والإسلامية والغربية، تعبّر عن مخاوف ومطالب الفلسطينيين. بيدَ أن ما يمكن وصفه بالنشاط والتمثيل الدبلوماسي، والدبلوماسية متعددة الأطراف “المنظمات الدولية”، لم يكن قائماً طيلة مراحل ما قبل النكبة وبعدها بعدة سنوات، ويعود ذلك لسببين أساسيين، (الأول) تغييب المؤسسات الدولية لفلسطين، كقضية تحرر وطني وحق تقرير مصير، وإنكار حقوق شعبها، وهو ما تبين – كما سبق – في صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم، وقرار التقسيم الصادر عن هيئة الأمم. ترافق ذلك مع تغييب إدراج فلسطين كبند مستقل، في اجتماعات الجمعية الأمم للأمم المتحدة، حتى المنظمات الدولية التي تأسست بعد وقوع النكبة مباشرةً، مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (unrwa – 1949) و(لجنة توفيق فلسطين -1950)، كانت من وحي التعامل مع فلسطين، كقضية لاجئين ذات بعد إنساني، أو قضية أمن إقليمي ودولي، لا صلة لها بحق تقرير المصير. (الثاني) غياب إطار كياني يمثل الفلسطينيين، ويكون له دور فاعل وطنياً وعربياً ودولياً، ورغم وجود ممثل لفلسطين في جامعة الدول العربية منذ العام (1945)، وهو أحمد الشقيري، غير أن اختياره تم لشخصه، وليس باعتباره ممثلاً لأي كيان فلسطيني. وحتى بعد تأسيس الهيئة العربية العليا لفلسطين عام (1946)، لم ترق لتكون إطاراً كيانياً وتمثيلياً، يلتف حوله الفلسطينيون. أدت تلك الأسباب، إلى ضعف الأصوات والمؤسسات المُدافعة عن الرواية الفلسطينية، في مختلف المنابر والمحافل الدولية، وهو ما انعكس أيضاً على قصور الخطاب الفلسطيني في محاكاة الرأي العام العالمي في تلك الحقبة.
الرواية الفلسطينية بعد تأسيس الكيان المعنوي (م. ت. ف)
انعكست التحولات التي طرأت على النظام الدولي، خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، على مواقف وتوجهات هيئة الأمم المتحدة “مجلس الأمن والجمعية العامة”، التي أصبحت قضايا تصفية الاستعمار، وحق تقرير المصير للشعوب، من أبرز شواغل المنظمة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. في ظل هذا المناخ الدولي، جاءت ولادة منظمة التحرير الفلسطينية عام (1964)، وحازت مكانة وطنية كبيرة، وغدت الكيان المعنوي للشعب الفلسطيني. بقدر ما كان للمنظمة دوراً أساسياً، في إعادة إحياء الرواية الفلسطينية على المستوى الوطني، من خلال دورها في استنهاض قوى الشعب الفلسطيني، باعتبارها العنوان الحقيقي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني. كذلك لم يغب عن برامج وسياسات المنظمة، العمل الدبلوماسي والقانوني والإعلامي، على مزاحمة الرواية الصهيونية في المنابر العالمية والدولية. أسهمت مركبات القوة الذاتية، التي راكمتها المنظمة في حقبة الستينات والسبعينات، في تفعيل دورها على مستويين) أولهما) مواجهة الرواية الصهيونية، في منابر وقنوات الرأي العام العالمي، حيث قامت من خلال دوائرها السياسية، والإعلامية، واتحاداتها ومنظماتها الشعبية، في بناء شبكة واسعة من العلاقات الدولية، في قارات أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ثم امتد نشاطها على هذا الصعيد، إلى دول أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، وكانتا تشكلان الفضاء الأوسع للدعاية الصهيونية. (ثانيهما) دورها القانوني والدبلوماسي والتمثيلي، في مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها، إثر تغييب القضية الفلسطينية عن تلك المؤسسات لمدة سبعة عشر عاماً، تمكنت المنظمة من إعادة القضية للواجهة الدولية، وكانت الانعطاف الهامة في (10 كانون الأول/ ديسمبر 1969)، عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم “2535”، الذي أقر حقوق شعب فلسطين غير القابلة للتصرف. تبعَ هذا القرار جملة من القرارات التي أخذت تكرس للشعب الفلسطيني حقوقه، بانتهاج مختلف وسائل تقرير المصير وعلى رأسها الكفاح المسلح. كان من أبرزها عام (1974)، القرار الأممي “3236” الذي أكد الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، وناشد جميع الدول والمنظمات الدولية بدعم الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه. ومُنِحت (م. ت. ف) في الجلسة ذاتها، بموجب القرار “3237″ وارتباطا بتقرير المصير، مركز مراقب في الأمم المتحدة، وراحت تشغل حيزا في النظام الدولي الرسمي.
تميزت تلك الحقبة بتطور نوعي لافت، بالنشاط السياسي والدبلوماسي الفلسطيني على الساحة الدولية، لاسيما بعد أن نالت “م. ت. ف ” الاعتراف الدولي القانوني، بصفتها الكيان الوطني والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. مما أكسب الرواية الفلسطينية، مشروعيتها القانونية الدولية، ونجاحها في تهديد الرواية الصهيونية وعزلها عالمياً، بحيث لم تعد الأخيرة هي الصوت الوحيد في الساحة الدولية، مما دفع الأكاديمي الإسرائيلي عاموس بيرلماتير للقول: “بأن ما يهدد إسرائيل فعليا ليس مدافع منظمة التحرير الفلسطينية، وإنما نجاحاتها السياسية وخصوصا في أوروبا”. لا يجب أن يغيب أيضاً، دور الدعاية الثورية التي طبعت النشاط الدبلوماسي تلك الفترة، في العديد من الإنجازات التي تم تحقيقها، والتي تجلى مثالها الأوضح في مخاطبة الراحل ياسر عرفات، الجمعية العامة للأمم المتحدة عام (1974)، بمقولته الشهيرة: ” جئت إليكم وأنا أحمل غصن زيتون في يدي، وفي اليد الأخرى أحمل بندقية الثائر، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي” .بالتوازي مع النشاط الدبلوماسي كان ثمة نشاط فكري وثقافي وإعلامي، مارسه الفلسطينيون أيضاً في الساحات الدولية والعالمية، لتفنيد المزاعم التاريخية والدينية والقانونية، التي ارتكزت عليها الخطاب الصهيوني في متن روايته الزائفة.
تأثير أوسلو على الرواية الفلسطينية في المحافل الدولية
بعد حقبة السبعينات التي أحيت الرواية الفلسطينية، في الساحة الدولية والعالمية، أدت التراجعات والهزائم العسكرية التي تعرضت لها “م. ت. ف” في محطات لاحقة، لاسيما بعد خروجها من بيروت عام (1982)، وما تلاها من متغيرات في السياسات الدولية، لاسيما بعد حرب الخليج الأولى، إلى نشوء واقع دولي وإقليمي جديد، وضع الفلسطينيين أمام خيارات صعبة. كشفت عن نزعة واضحة للقيادة الفلسطينية، الدخول باللعبة السياسية الدولية، والتعامل مع استحقاقاتها، دون الاهتمام بإعادة بناء عوامل القوة الذاتية، وفي مقدمتها خيار المقاومة بمختلف تعبيراته الكفاحية. بل شغل قيادة المنظمة هاجس تحويل الكيان المعنوي إلى الكيان الدولاني المنشود. لعل هذا ما يفسّر التوجه إلى إعلان استقلال فلسطين في الدورة (19) للمجلس الوطني الفلسطيني في (منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 1988)، وتسارع الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع (م .ت . ف) إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ورفع مستوى التمثيل الفلسطيني لديها إلى درجة سفارات، حتى وصل عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين أكثر من مئة دولة.
المفارقة المؤلمة، أن هذا التطور الكياني، لم يأتِ في سياق ممارسة الفلسطينيين لحقهم في تقرير المصير، ولم يأخذ بعين الاعتبار أولوية تماسك الرواية الفلسطينية، والحفاظ على وحدة خطاب الرواية لدى الكل الفلسطيني، وتجنب أي مشروع أو مسلك سياسي يؤدي إلى إضعافها، على حساب محض الرواية الصهيونية مشروعيتها بلسان ممثلي ضحاياها.
مع توقيع اتفاق أوسلو عام (1993)، وبعد نشوء السلطة الفلسطينية، التي قامت على تهميش دور (م. ت. ف) اتضحت المخاوف والمخاطر الكبيرة الناجمة عن الاتفاق، ودوره الكارثي في العقود الأخيرة، لجهة إضعاف عناصر ومرتكزات الرواية الفلسطينية، بغطاء رسمي فلسطيني. حين اعترفت القيادة الفلسطينية بموجب الاتفاق بالدولة الإسرائيلية، وتنازلت عن 78% من أرض فلسطين التاريخية من جهة، وقبلت إقامة دولة فلسطينية على الجزء المتبقي منها، دون أية ضمانات دولية وقانونية، تضمن إقامة دولة فلسطين واقعياً من جهة ثانية. فضلاً عن أثر الاتفاق في تكريس منطق السلطة، بدلاً من منطق التحرر الوطني ومتطلباته، ودوره في تفكيك وحدة الشعب الفلسطيني بين داخل وخارج، واستغلاله من قبل الاحتلال لمصادرة الأراضي الفلسطينية، واستكمال مشاريع تهويد القدس والضفة الغربية، وطمس قضية اللاجئين.
تشير تلك التحولات في صيرورة الكفاح الفلسطيني، إلى دور اتفاق أوسلو في إحداث أوجه الإرباك والالتباس التي حافت بالرواية الفلسطينية، في ضوء حصاده المرير، الذي أدى إلى تآكل الحقوق الوطنية، التي تشكّل عصب الرواية الفلسطينية.
في مهام تفعيل الرواية الفلسطينية في المحافل الدولية والعالمية
بما أن الشيء يُبنى على مقتضاه، فإن قدرة الفلسطينيين على مزاحمة الرواية الصهيونية، في المحافل الدولية والعالمية، وتفكيك خطابها، وتفنيد ودحض أكاذيبها، يقترن لزوماً بمراجعة نقدية عميقة، لجوانب الخلل والقصور في أداء التمثلات الكيانية القائمة “السلطة الفلسطينية – م. ت. ف”، والتي تتحمل مسؤولية كبيرة، في انزياح الرواية الفلسطينية، عن عناصرها ومقوماتها، ومضامينها التحررية. إذ من الصعوبة البالغة اليوم، إنضاج مقاربة وطنية تمنح الرواية الفلسطينية، آليات وديناميات الحضور والتأثير على المسرح الدولي، دون القيام بتلك المراجعة التاريخية، وإعادة تصويب الخطاب الوطني الفلسطيني، وتنقيح الرواية الفلسطينية مما اعتراها بفعل السياسات الرسمية الفلسطينية. بناءً عليه تبقى تصريحات قيادة السلطة ومنظمة التحرير، بوقف كافة الاتفاقيات والتفاهمات مع إسرائيل وأمريكا، في معرض ردودهم على صفقة القرن، مجرد زوبعة في فنجان، طالما أنها لا تقوم على إعادة بناء رؤية وطنية شاملة، لديها استراتيجية واضحة، في إعادة بناء البيت الفلسطيني، ومعالجة الانقسامات والشروخ التي ألمّت به، كونها المهمة الوطنية المُلحة، لاستنهاض حوامل ومركبات القوة الذاتية، وتعديل الخلل الفاضح في موازين القوى.
يتلازم مع تلك الأولوية، الاستفادة من منجزات التجارب الدبلوماسية في المحافل الدولية، لاسيما التي حققت رصيداً كبيراً من اعتراف المنظومة الدولية، بحقوق الشعب الفلسطيني، والاعتراف القانوني بدولة فلسطين. من أهمها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام (2012)، بمنح فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة. لكن لا يجوز بالمقابل أن يتم تعويض الفشل في إدارة الشأن الوطني، في دائرة تمجيد تلك المنجزات وكأنها غاية بحد ذاتها. وهي معضلة لا يمكن أغفالها، مع تآكل الحقوق الوطنية على هذا النحو الذي نراه. ما يطرح أيضاً العمل على تلافي جوانب الضعف والقصور في محطات الدبلوماسية الفلسطينية، التي اعتمدت على التجربة والخطأ، وعفوية ومهارات الأفراد، أكثر مما اعتمدت التخطيط الاستراتيجي، والعمل الجماعي والمهني للطواقم المتخصصة. لا مناص أن أي إصلاح هيكلي في أداء السياسات الخارجية الفلسطينية، وعمل سفاراتها الموزعة في العالم، لا يستقيم دون إصلاح بنيوي في الواقع الوطني والسياسي الفلسطيني عموماً – كما تم الإشارة إليه -، فمن غير المجدي على – سبيل المثال -، مخاطبة العالم بحقوق الشعب الفلسطيني، فيما تتجاهل القيادة الفلسطينية، حقوق اللاجئين الفلسطينيين، وتنصرف عن معاناتهم الإنسانية، كما بدا في تعاملها مع محنة فلسطينيي العراق ولبنان، وكما تعاملت أيضاً مع نكبتهم الثانية في سوريا. فيما تضغط الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية من جانب آخر، لتصفية دور (الأونروا) باعتبارها الشاهد الأممي على قضية اللاجئين الفلسطينيين، ما يستوجب بذل جهود فلسطينية مُضاعفة في الساحة الدولية، للمطالبة باستمرار تفويض الأونروا، والخدمات والمساعدات التي تقدمها للاجئين.
إن تعزيز وتفعيل الجهود الفلسطينية في المحافل الدولية الرسمية، وفي أطر الدبلوماسية متعدة الأطراف، سيبقى قاصراً عن توفير أشكال تأثير وحضور الرواية الفلسطينية، ونجاحها في مزاحمة الرواية الصهيونية، دون استجماع الكفاءات والطاقات الفلسطينية، المنتشرة في أصقاع العالم (أفراد بمختلف الكفاءات والتخصصات – اتحادات ونقابات – جاليات – مؤسسات ثقافية ومجتمعية) واستثمارها جميعاً في استقطاب الرأي العام العالمي، على أحقيّة الرواية الفلسطينية، وبناء شبكات تنسيق فلسطينية /عالمية، تُعري الرواية الصهيونية أمام شعوب العالم، على غرار حركات المقاطعة ” BDS”، والتصدي لسياسات التطبيع الرسمية والشعبية، وغيرها من العناوين ذات الصلة الوثيقة بالصراع على الروايتين.
لقد شهد النظام الدولي في العقود الأخيرة، تطورات نوعية بفضل اتساع اختصاصات وأنشطة المؤسسات والمنظمات الدولية، وتنامي أدوارها فيما يتعلق بالجوانب الحقوقية والقانونية، وعمليات مراقبة وتوثيق الانتهاكات، بحق الأفراد والجماعات. مثل المجلس الدولي لحقوق الإنسان، والأجهزة المكلفة بتطبيق المواثيق والاتفاقيات الدولية، والأطر القضائية الدولية المتخصصة بملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية، مثل محكمة الجنايات الدولية. توفر هذه المحافل إمكانية كبيرة، لتجريم سلوك الاحتلال، وملاحقة قادته السياسيين والعسكريين عن جرائمهم بحق المدنيين الفلسطينيين. ما يفرض استثمار انضمام دولة فلسطين إلى هذه المؤسسات الدولية، لتفعيل هذه الآليات المُتاحة، بما يقوّض ادعاءات الديمقراطية الصهيونية، التي يسوقها الاحتلال للعالم، وفضح ممارساته العدوانية والعنصرية والتوسعية.
أخيراً: يبقى العمل على هذه المهام كافة، وتفعيلها في الواقع الدولي، ولدى الرأي العام العالمي، مرهوناً ومشروطاً بنهوض العامل الذاتي الفلسطيني، وتجميع أوراق القوة الفلسطينية، وأهمها ورقة مقاومة الاحتلال، وفق استراتيجية وطنية فلسطينية، تحدد أشكالها وأنماطها المجديّة، بما يتسق والقرارات الدولية، التي أكدت مشروعية الكفاح الفلسطيني، حتى نيل الفلسطينيين حقهم في تقرير مصيرهم. فرواية الحق التي لا تسندها القوة، يبقى صوتها خافتاً وغير مسموع.
المصادر
- هنري كتن – فلسطين في ضوء الحق والعدل – مكتبة بيروت – الطبعة العربية 1970
- جورج طعمة – المنعطفات الكبرى في قضية فلسطين في الأمم المتحدة- ندوة جمعية الخريجين في الكويت- نشر مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت، سبتمبر 1989
- رشاد توام – دبلوماسية التحرر الوطني التجربة الفلسطينية – معهد ابراهيم أبو لغد للدراسات الدولية – بير زيت – فلسطين – 2013
- أحمد بن بلقاسم – مبررات الوجود الإسرائيلي في فلسطين في ضوء القانون الدولي – مداخلة ألقيت خلال المؤتمر الدولي الثالث عشر لمركز جيل البحث العلمي: فلسطين قضية وحق- طرابلس/ لبنان – 2 و3 ديسمبر 2016.
- عدنان السيد حسين- “منظمة التحرير الفلسطينية ومرحلة الانتصار السياسي 1972- 1974” شؤون فلسطينية، عدد 204- آذار، مارس / 1990
- فيصل الحوراني – الفكر السياسي الفلسطيني “1964-1974”- القدس- وكالة أبو عرفة- 1980
- أسامة أسبر – القانون كأداة كولونيالية.. الرواية القانونية لاحتلال فلسطين – قراءة في كتاب “عدالة للبعض: القانون وقضية فلسطين” للباحثة الأميركية من أصل فلسطيني نورا عريقات – ضفة ثالثة – ضفة ثالثة – ٣ شباط ٢٠١٩
- حسام محمود أحمد – أثر اتفاق أوسلو على الدبلوماسية الفلسطينية ” 1993- 2014″ -رسالة ماجستير – جامعة الأقصى – 2016
المصدر: العربي الجديد