د- عبد الناصر سكرية
في كل (مجتمع – وطن) حين يكون الانتماء إلى الوطن والولاء له معيارًا للمواطنية الصحيحة، لا ينبغي أن يكون هناك اعتبار للعدد. ولا للنسبة العددية لهذه الجماعة أو تلك. وبالتأكيد ليس للصفة العرقية الخاصة بفئة ما او للصفة الدينية أو المذهبية لهذه الفئة أو تلك؛ أي اعتبار في ميزان الوطن والمواطنية. وحينما يكون الانصهار الوطني متحققا في دولة العدالة والقانون؛ تسقط تلك الاعتبارات ما دون الوطنية – القومية.
الشعور بالغبن:
حينما لا تكون الدولة متحققة بالمواطنية والعدل والقانون؛ يبدأ الولاء الوطني بالتراجع فتخبو مشاعر الإحساس بالهوية الوطنية وتبدأ أحاسيس دون المستوى الوطني بالتحرك، محاولة إيجاد منافذ لها في التكوين الوطني تعبر من خلالها عن تطلعات فئوية انعزالية تحت مظنة الحماية الذاتية والحفاظ على الذات.
لقد بدأت مشكلة من هذا النوع تطل برأسها في المجتمع العربي منذ القرن التاسع عشر لأسباب عدة. كان أبرزها التدخل الأجنبي – الأوروبي في شؤون من أطلق عليهم آنذاك رعايا الدول الأجنبية من أبناء المجتمعات العربية. كانت معاهدة وستفاليا بين الدول الأوروبية الاستعمارية الستة والسلطة العثمانية قد أعطت لتلك الدول حق رعاية شؤون ” رعاياها ” من مواطني الدولة العثمانية. فراحت فرنسا تهتم بالموارنة والكاثوليك من المسيحيين وروسيا تهتم بالمسيحيين الأرثوذكس وبريطانيا راحت تهتم بالدروز. فيما كانت تركيا تبدي اهتماما خاصا بالسنة وكانت إيران تحاول بناء جسور تواصل مع الشيعة.
كل دولة راحت تنشئ المدارس والمؤسسات التعليمية والمعاهد الثقافية والمراكز الصحية – الاجتماعية، وكانت جميعها مراكز دعوية. كان النهج العام المشترك لها كلها هو محاولة انتزاع العروبة كهوية عامة جامعة لكل أبناء البلاد العربية واستبدالها بغرس الإحساس بالانتماء الطائفي أو المذهبي. اعتمدوا جميعا على زرع وعي مزيف بالهوية والتاريخ والذات من شأنه أن يساهم في تنمية الشعور المطلوب وصولا إلى الإحساس بهوية أقلوية خاصة بكل جماعة منها على أساس انتمائها الطائفي أو المذهبي. استمرت هذه المحاولات طويلا فأنشأت ظاهرة أسموها هم: مشكلة الأقليات. بحيث أن جماعات من أولئك المستهدفين بدأت تتشكل لديهم نوازع خاصة ذات طابع منفصل عن الهوية العروبية والإحساس بالانتماء إلى العروبة.
وما ساهم في إنجاح هذا النهج جزئيا؛ كان غياب أية جهة تتولى تنمية الوعي بالذات العربية والهوية العروبية الجامعة. فالبلاد العربية كانت جميعها تحت سلطة الدولة العثمانية حتى إن بعض البلدان سقطت تحت احتلالات أجنبية استعمارية مباشرة كما في الجزائر ومصر وليبيا والمغرب.
لكن أصالة الهوية العربية والانتماء القومي المصيري الواحد عادت تؤكد ذاتها عندما بدأت عملية تتريك السلطة العثمانية وبروز الشعور القومي التركي في الدولة المركزية في تعاملها مع المواطنين العرب. فكان أن ترعرعت حركة عربية قومية تطالب بالحفاظ على الهوية العربية واستقلال البلاد العربية – موحدة – عن الدولة العثمانية -التركية.. وأكثر ما برزت هذه الدعوة في الأوساط المسيحية العربية مما كان عاملا أساسيا في انحسار مشاعر الأقليات جميعا.
بعد سقوط الدولة العثمانية بالحرب العالمية الأولى ووقوع بلادنا كاملة تحت الاحتلال الأجنبي عادت مسألة الأقليات بالظهور بسبب مباشر من تدخل سلطات الاحتلال وتحديدًا الإنجليزية والفرنسية.
بلغ التدخل الأجنبي المباشر في تحريض الانتماءات العرقية والطائفية والمذهبية ذروته في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. مما تسبب في بروز مشكلة أقليات من أبناء البلاد العربية المحتلة. في سورية مثلا قسمها الفرنسيون إلى أربع دول وعلى أساس مناطقي وإثني ومذهبي. ورغم ذلك التقسيم الاستعماري المباشر قامت ثورات شعبية عديدة تطالب بخروج المحتل وتوحيد البلاد.. فاستطاعت تحرير وتوحيد سورية تحت اسم الجمهورية العربية السورية والتي لم تعرف مشكلة أقلوية إلا منذ بداية سبعينات القرن العشرين حينما تحكم بالسلطة فيها نظام فئوي استخدم العصبية المذهبية (العلوية) لتكون بمثابة العصب الأساسي الذي يشد رباط الحكم وتغطية خلفياته الفئوية الشخصانية المرتهنة. فبرع في تأجيج عصبيات انقسامية مذهبية مدمرة.
وهكذا أيضا في مصر (حيث كان العمل لتخليق هوية فرعونية انعزالية لا ترتبط بالمنطقة العربية التي تشكل عمقها الإستراتيجي؛ في أشده واتخذ أشكالا ثقافية وفكرية متنوعة بإشراف الاحتلال البريطاني والحكم الملكي التابع له والمؤتمر بأوامره).. والجزائر وليبيا والمغرب. ففي الجزائر مثلا قامت ثورة شعبية انصهرت فيها كل القطاعات الشعبية والجماعات البشرية وفي طليعتهم الأمازيغ الذين تعبت فرنسا وهي تزرع في نفوسهم وتعلمهم أنهم شعب خاص وقومية خاصة ليست ذات صلة بالعروبة. حتى أنها سعت بكل قوتها لتحويل لهجتهم المحلية إلى لغة مكتوبة إمعانا في فصلهم عن العروبة.. إضافة إلى فشلها الساحق في فرنسة شعب الجزائر العربي المسلم. وحينما تشكل جيش تحرير المغرب العربي بقيادة أحمد بن بلة تصدت له قوات الاحتلال الفرنسية وأدواتها المحلية مستميتة لفك المغرب عن الجزائر وإنعاش المشاعر الانفصالية لدى من أسمتهم أقليات وما هم كذلك، ولا سيما المسألة الأمازيغية. وهكذا في البلدان العربية الأخرى.
أما العدوان الاستعماري الأبرز في هذا المجال فقد نجح في فلسطين والعراق ولبنان.. نجح الفرنسيون والإنجليز معا في سلخ لبنان وإقامة نظام حكم طائفي مذهبي أساسه الموارنة والدروز بعد أن نجحوا جزئيا في استقطاب بعضهم إلى نهج أقلوي يتوهم أن مصيره مرهون بالحماية الأجنبية.. تم ذلك بعد أحداث فتنة طائفية استمرت قرابة عشرين عاما بين الطرفين. (١٨٤٠- ١٨٦٠) فكان نظام ما عرف بالمتصرفية. واستمر هذا النظام الطائفي يحكم لبنان حتى بعد توسيعه وضم الأقضية الأربعة إليه بعد أن كانت تابعة لسورية.
أما في العراق فقد تكاملت جهود بريطانيا بعد احتلالها بنتيجة انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ مع جهود نظام إيران الشاهنشاهي المحمي من بريطانيا أيضا؛ فخلقوا ما يسمى المسألة الشيعية وراحوا ينظمون الاحتفالات الحسينية المذهبية بطابع فتنوي تحريضي انقسامي. إلى أن قام نظام وطني منذ نهاية الخمسينات للقرن العشرين. ثم عادت فتفجرت المسألة المذهبية بشكل أكثر حدة بنتيجة الاحتلال الأمريكي للعراق سنة ٢٠٠٣ ثم تسليمه لإيران التي وجدتها فرصتها التاريخية لتمزيق العراق وضمه إلى إمبراطوريتها الفارسية التي تسعى لإنشائها على أن تضم كل المشرق العربي وبعض الأرض العربية الأخرى.
وكانت المصيبة الأكبر في تأسيس عصابات صهيونية عدوانية انطلاقا من تأسيس منظمات إرهابية تجمع أشتاتا من المتطرفين اليهود من كل أصقاع الأرض؛ راحت تعمل على استقطاب
الأقلية العددية اليهودية العربية بشتى وسائل الإرهاب والتهديد والإغراء المادي والامتيازات، حتى استطاعت الصهيونية – بدعم كامل من دول الغرب الاستعماري – نزع ولائهم العربي وزرع شعور الأقلية المصطنع في نفوس الكثيرين منهم. وتشاركت دول العالم الغربي آنذاك بتحريض اليهود صهيونيا واستخدامهم لتأسيس كيان عنصري عدواني في فلسطين معاد للأمة كلها ولهويتها القومية. ثم ما لبث أن راح هذا الكيان المصطنع فور تشكيله يعزز جهود الغرب الاستعماري في إبراز مشكلة الأقليات وتضخيمها على قاعدة أن العروبة تشكل خطرا عليها وأن مصيرها سيكون مرهونا بتحالفها معا وتحت رعاية النظام الاستعماري العالمي لها؛ في مواجهة العدو المشترك الذي هو العروبة.
الاستقلال وبناء الدولة الوطنية
نالت اغلب البلاد العربية ” استقلالها “بعد أن خرجت قوى الاحتلال الأجنبي عقب الحرب العالمية الثانية. وتسلمت السلطات فيها قوى محلية ساهمت قوى الاحتلال في تهيئتها وبلورتها وتسهيل تسليم السلطة إليها. فكانت سلطات وظيفية يهمها أولا استمرار رضى دول الاحتلال السابقة عنها. بعد أن أدخلت في خلدها أن بقاءها في السلطة مرهون بمدى حماية تلك الدول الغربية لها. وهكذا تبين أنها لم تكن سلطات وطنية تعمل لحل مشكلات مجتمعاتها الوطنية؛ إنما راحت تنفذ ما تظنه يرضي حماتها أو ما يطلبونه منها أو ما يملى عليها.
وهكذا كان نهجها في التعاطي مع الشؤون الوطنية خاصتها؛ غير وطني أساسه تعزيز سلطتها وتمكين صلاتها بمن يحميها من القوى الخارجية. وحتى تتمكن من هذا لجأت إلى محاولات ترويض الشعوب وبث أشكال الانقسام المختلفة بينها وفي داخلها حتى لا تتحول إلى قوة تستطيع فرض حقوقها الوطنية والحياتية عليها في يوم من الأيام.
وهكذا توافقت مصالحها المباشرة مع المصالح الإستراتيجية للقوى الأجنبية صاحبة النفوذ و”المونة” عليها. برز ذاك النهج وهذا التوافق في أغلب الشؤون الأساسية؛ وكان موضوع ما يسمى ” الأقليات ” في الصدارة.. وبدل أن تعمل سلطات الاستقلال على تمتين أواصر الوحدة الشعبية لأبناء أوطانها الإقليمية (أنظمة دول صنعتها اتفاقية سايكس – بيكو) راحت تعمق ما كانت قوات الاحتلال الأجنبية زرعته من حساسيات ومنازعات ومناكفات بين أبناء الشعب الواحد على قاعدة التحريض الديني الطائفي والمذهبي والعرقي – العنصري.
حتى أن بعض نظم تلك الدول قام على اساس محاصصة من هذا النوع وبهذه الخلفيات وحولتها إلى دستور وقوانين وتشريعات. أكثر من هذا راحت تحولها إلى سلوكيات يومية للمواطنين تفرضها عليها بفعل ما تملكه من قوانين وسلطة وما تتحكم به من أسباب معيشتهم ومقوماتها مدعمة بما تلوح به وتستخدمه ضدهم من أجهزة أمنية وقمع وإرهاب.
وليس أدل على أن هذا النهج التحريضي الفتنوي التقسيمي من صنع قوى الاحتلال الأجنبي السابقة – اللاحقة؛ ما جرى في العراق عقب العدوان الأمريكي – الفارسي عليه واحتلاله.. حيث اشتركوا معا في بناء نظام شعوبي مذهبي تقسيمي قائم على دستور ينص على محاصصة تخريبية، غير عادلة غير متوازنة وغير قابلة للحياة…فأعادوا إحياء ما كان يسمى المسألة الشيعية التي زرعها الاحتلال الإنجليزي في بدايات القرن العشرين.
وإمعانا في هذا النهج التحريضي – التقسيمي، عملت أنظمة سايكس – بيكو الاستقلالية الإقليمية على رعاية كل حركات أو دعوات دينية ذات طابع مذهبي متقوقع. حتى أن بعضا منها هي التي تولت إنشاءه من خلال أجهزتها. وأمدتها بعناصر النفوذ والقوة ومكنتها من التوسع بما ساهم أكثر فأكثر في إحداث مناكفات اجتماعية أو شروخات دينية – ثقافية أججت مشكلات الأقليات الوهمية.
كان التركيز على الأقليات العددية من المواطنين المسلمين. الشيعة أولا؛ ثم العلويين والدروز؛ ثم على المسيحيين. وكان المشترك في التعاطي بشؤونهم من قبل السلطات الحاكمة: التحريض على التقوقع والانعزال عن الهوية العربية وحتى عن الانتماء الوطني وصولا إلى اصطناع شعور بالأقلية عندهم لاستخدامهم في مواجهة العروبة ولتفعيل مشاريع تقسيم البلاد العربية.
نعيد ونؤكد أن جميع هؤلاء ليسوا أقليات بل مواطنين من أبناء الوطن والبلاد الأصليين مهما كانت أعدادهم صغيرة أو قليلة. كان الهدف الأبرز من إثارة مشكلات الأقليات العددية ثنائيا مزدوجا
الأول: ضمان تفوق وسيطرة الإسرائيلي العدو على كل المنطقة.
الثاني: منع الأمة العربية من النهوض والتقدم لضمان ديمومة سيطرتهم عليها ونهب مواردها..
ومع وضوح إستراتيجية النظام الأمريكي العالمي الرأسمالي للتعامل مع البلاد العربية والمعمول بها راهنا وتقوم على عدم الاعتراف بوجود أمة واحدة لها هوية عروبية بل يجب إعادة الاعتبار لكل أقلية عددية فيها دينية او طائفية أو مذهبية أو عرقية وتحويلها إلى أقليات حقيقية انفصالية معادية لمحيطها ذي الأغلبية الإسلامية ” السنية ” ثم التحضير لحروب مذهبية أساسها صراع مذهبي بين السنة والشيعة.
وفي هذا المضمار يمكن القول إن أنظمة سايكس – بيكو ساهمت بطرق مختلفة، بجهل أو بقصد ومعرفة، في تحضير أرضية صالحة لنمو تلك البذور الانقسامية التخريبية. في كل المناطق والاتجاهات والانتماءات. المهم ألا تبقى العروبة رابطا لها موحدا جامعا..
وحيث أنها لم تسلك نهجا يقرب أبناء الوطن من بعضهم ويعزز تلاحمهم الوطني من خلال دولة القانون والعدالة والمواطنية والاحترام للجميع على أساس ولائهم الوطني؛ بل مارست عكس ذلك تماما؛ فحينا أقامت سلطة طائفية بغيضة كريهة وأحيانا تعمدت إشعار ابناء تلك ” الاقليات ” العددية بأنهم مواطنين من الدرجة الثانية أو ما دون ذلك.
التقت سلوكياتها في التعامل مع هذا الأمر بالمشروع الأمريكي – الصهيوني لتقسيم الأمة وإبادتها أو السيطرة التامة عليها.
ومع قيام حكم ديني في إيران في ١٩٧٩؛ راحت تمعن في التعاطي مع الشيعة العرب لزرع شعور الأقلية فيهم وانتزاعهم من هويتهم العربية واستخدامهم رأس جسر لأطماعها العدائية في البلاد العربية.
وبالمقابل تعمل تركيا منذ سنوات طويلة على صعيد السنة العرب لتكوين عقلية أقلوية مستهدفة فيهم وتحريضهم على التقوقع المذهبي والاستقالة من العروبة.
وحده المشروع القومي التوحيدي هو الذي تعاطى مع هذه المسألة بروحية الانتماء الحر للوطن والولاء له وللأرض والشعب. وتدل سلوكيات التجربة الناصرية بوضوح شديد على التعامل الوطني مع كل أبناء الوطن. ففي مصر كانت الوحدة الوطنية الشعبية في أبهى صورها وتجلياتها في عهد جمال عبد الناصر القومي العروبي التوحيدي. ولم تعرف مصر حادثة طائفية واحدة إبان عهده كله.
وخلال سنوات الوحدة الثلاث مع سورية؛ ابتعثت دولة الوحدة أزيد من مئتي شاب علوي سوري للدراسة الجامعية في الأزهر. دراسة دينية وعلمية. كما أقر الأزهر بالمذهب الجعفري مذهبا إسلاميا كذلك المذهب الدرزي. وتأكيدا لهذا النهج الوطني التوحيدي كانت معاهد مصر الجامعية والتعليمية مفتوحة لجميع ابناء العرب من كل البلاد والانتماءات. وكان مبدأ تكافؤ الفرص سائدا معيارا للتقييم والمشاركة للجميع.
كان هذا نهج العراق إبان الحكم الوطني قبل الاحتلال فكان في الجيش والحزب وكل مؤسسات الدولة قيادات من الشيعة العراقيين بلا أي تمييز، ولم تكن هناك أية فاعلية لما كان يسمى ” المسألة الشيعية.”.
كذلك كان الحال في الجزائر إبان الحكم الوطني بقيادة أحمد بن بلة، ولم تظهر مشكلة الأمازيغ إلا في فترات لاحقة حينما سيطرت عقليات إقليمية فئوية على الدولة ونهجها.فهل بعد ذلك حاجة إلى حديث عن ” أقليات “في بلادنا العربية ؟