أنس العبدة
كانت سورية أشبه بمشروع نمرشرق أوسطي في الخمسينيات ومطلع الستينيات،لكنها تحولت إلى جمهورية وراثية يتم استنزافها وسرقتها دون توقف،حتى وصلت الأوضاع في سوريا اليوم إلى حال غير مسبوق من الانهيار الاقتصادي وتلف العملة الوطنية.
إن حصر ثروات سوريا في أيدي قلة من العوائل الفاسدة من عصبة النظام وتسارع وتيرة الفساد والنهب بين أفراد العصابة الحاكمة بسبب استشعارهم السقوط الوشيك؛ هو ما دمر الاقتصاد وأوصله إلى الهاوية، وبات أكثر من 85 في المئة من أهل سوريا اليوم تحت خط الفقر، فيما يحتاج 11 مليوناً منهم للمساعدات الإنسانية.
إن طرح مختلف التساؤلات حول مخاطر وحيثيات انهيار الاقتصاد في سوريا، وفقدان الليرة السورية لقيمتها بشكل غير مسبوق، وتناول هذه الموضوعات بالبحث؛ أمر هام.
مسؤولية النظام
لكن التساؤلات تفقد أحياناً أي معنى أو قيمة، إذ لا ينبغي أن يختلف عاقلان على مسؤولية النظام عما وصلت إليه الأمور، وعن الطرف المسؤول عن تدمير الاقتصاد وخسارة ملايين السوريين بيوتهم وأرضهم ووطنهم ومدخراتهم.
فمن قتل مليون سوري واعتقل ربع مليون وقتل منهم عشرات الآلاف تحت التعذيب، هو بلا ريب من دمر الاقتصاد، ومن هجّر الملايين من خيرة أبناء سوريا من حرفيين وصناعيين وتجار ومثقفين، ومن ضيّع مقدرات الدولة في حربه على سوريا وشعبها وسرق ونهب وهرّب ما تبقى من ثرواتها إلى الخارج، هو دون أدنى شك من دمر الاقتصاد.
قرابة الستين عاماً مرت على الانقلاب العسكري المشؤوم الذي أطاح بحكومة شرعية منتخبة ديمقراطياً؛ متقدمة في مجال حقوق الإنسان على كثير من دول العالم المتحضر آنذاك، حيث كانت أمريكا ما تزال تناضل من أجل منح جميع مواطنيها حق الجلوس في حافلات النقل دون تمييز، كما كانت سويسرا ما تزال تمنع نساءها من حق التصويت!
خمسون عاماً مرت منذ سطو هذه العصابة على الحكم؛ وسوريا وشعبها واقتصادها وسيادتها وقرارها؛ مصادر ومغتصب من قبل هذه الطغمة؛ لهذا كانت الثورة السورية مساراً طبيعياً، وخياراً لا محيد عنه من أجل سعي هذا الشعب لاستعادة حريته وقراره، ومن أجل حقه الطبيعي في أن يحيا حياة حرة كريمة أسوة ببقية شعوب العالم.
نعم، ليس لمعاناة الشعب السوري وانهيار اقتصاد البلاد إلا عنوان واحد؛ هو سياسات وجرائم رأس النظام والدائرة المحيطة به، إنهم مسؤولون عن كل ما جرى ويجري، لقد سلّمت هذه العصابة مقدرات سوريا وإمكانياتها الاقتصادية ومستقبلها لروسيا وإيران، ولم تكتف بإجبار الشعب السوري على تحمل تكاليف حربها عليه، ولكنها ترهن مستقبل سوريا للأجنبي، وتحمّل الأجيال القادمة فاتورة إجرامهم وعمالتهم دون أي ضوء في الأفق. ولن يكون هناك أي حل طالما بقيت هذه العصابة في الحكم.
ثروات الشعب
لم يكتف هذا النظام بإنفاق ثروات الشعب على آلات قتله وإبادته؛ بل أجرى اتفاقيات سلّم من خلالها مقدرات سوريا لحلفائه ورعاته، وهي اتفاقيات مشبوهة من نظام لا شرعي؛ ونعمل على مراجعة جميع الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت وأثرها على مستقبل واستقلال سوريا.
يأتي قانون «قيصر» لحماية المدنيين اليوم، وللتضييق على قاتليهم، مستهدفاً مصالح العصابة وفروعها الأمنية وكبار المجرمين فيها، وشاملاً لكل من يدعم هذه العصابة في القتل سواء على مستوى الدول أو المؤسسات أو الشركات أو الأشخاص، في حين يستثني القانون المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية والطبية، لتخفيف الضغط عن عموم السوريين.
فيتو مجلس الأمن لحماية المجرمين لن يجدي نفعاً هذه المرة في مواجهة قانون قيصر لحماية المدنيين، ليس هناك هذه المرة حق نقض تعطل من خلاله روسيا مجلس الأمن والذي أفقده دوره الهام في حماية الشعب السوري.
المسار السياسي التفاوضي ما يزال متاحاً، والجميع يعلم أن قانون «قيصر» يمكن أن يجمّد في حال توقف النظام عن القتل والاعتقال والتهجير، وقدّم خطوات عملية في ملف المعتقلين.
المجتمع المدني
العقوبات الموجهة ضد النظام يمكن أن تتجمد مع حل سياسي فعلي وفق القرارات الدولية بما فيها 2254 وصولاً لانتقال سياسي شامل من شأنه أن يعيد اللاجئين السوريين ويبشر بإعادة إعمار ما دمره هذا النظام.
نعلم أن هذه العصابة مستعدة لتقديم تنازلات للجميع ما عدا الشعب السوري، وستسعى للالتفاف بكل وسيلة ممكنة على القانون الجديد، لكن أمام السوريين اليوم فرصة حقيقية، مهما كانت توجهاتهم أو اصطفافاتهم أو خلفياتهم، ولديهم اليوم فرصة ليقولوا كلمة حاسمة من أجل صياغة مستقبل سوريا، التي نحلم بها جميعاً، لا تضيعوا هذه الفرصة لأن الفرص الضائعة تكلف كثيراً، تكلف أرواحاً ومزيداً من المعاناة، لا نريد لشعبنا أن يتحمل المزيد.
لقد تحرر السوريون من الخوف والرعب، ولم يعد الطاغية قادراً على تخويفهم من جديد، المجتمع المدني السوري؛ مجتمع الثورة السورية المنتشر في كل مناطق سوريا، في مدنها وبلداتها وقراها، مدعو اليوم للتحرك الفاعل من أجل الخلاص العام، والخيارات مفتوحة في كل مدننا وقرانا حسب الطاقة والوسع.
هذه العصابة لا تعرف إلا لغة القتل والتدمير، يجب ألا نسمح لها بالهروب إلى الأمام، وافتعال المزيد من الحروب والهجمات الجديدة، والخراب، لا مستقبل لسوريا مع بقاء العصابة الحاكمة وإصرارها على الحل العسكري.
إنّ غاية ما نسعى إليه في الائتلاف الوطني كمؤسسة سياسية ثورية تمثل الشعب السوري وأهدافه ومصالحه، هو تمكين الشعب السوري من استعادة قراره وصناعة مصيره واختيار ممثليه وحكامه بحرية ونزاهة.
إن هذه العصابة في مرحلة الانهيار، وما نشهده اليوم هو بمثابة المخاض لولادة سوريا الجديدة، سوريا الحرية والكرامة والازدهار. وعلينا كسوريين أن نكون على قدر التحدي والمسؤولية من أجل وطننا ومستقبل أبنائنا.
إن ما نراه اليوم من عودة للمظاهرات والحراك المدني له دلالات عميقة، سواء من حيث الشعارات، أو مناطق التظاهر، شباب سوريا يستحقون التحية، هؤلاء الأبطال في السويداء ودرعا وإدلب ودمشق وحلب ودير الزور وجميع أنحاء سوريا.
وأمام السوريين اليوم – لاسيما من هم تحت سيطرة النظام- خياران:
إما الاستمرار في الرضوخ لهذه العصابة الحاكمة ما يعني استمرار الألم والقتل والتجويع والإجرام والفقر وسلب الثروات، أو الانتفاض الشامل والتحرك الفاعل، وإنهاء ذلك كله، فالخيارات الشجاعة كفيلة بتعجيل ولادة الحرية، وانبثاق شمس سوريا الجديدة، سوريا الحرية والكرامة والعدالة، سوريا الحكم الرشيد، الذي يوزع ثروات البلاد وخيراتها على الشعب ولا ينهبها، وسوريا المدنية الديمقراطية لكل أهلها وأبنائها.
المصدر: القدس العربي