فاتن حمودي
لا يمكن لفنان أن يتجاهل أحزان الناس، ويبقى محافظاً على فرشاته نديّة، كما لا يمكن لفرشاة صادقة أن تتميز بعيداً عن الألم الإنساني. بهذه الكلمات بدأ الحوار مع الفنان التشكيلي السوري سهف عبد الرحمن، ابن مدينة حمص، المدينة التي شهدت أكبر تدمير وتهجير ممنهج، حمص التي تحوّلت معظم أحيائها وقراها إلى ركام، يؤكد دائماً بصمته، بلغته، بألوانه، بأنّ الفنان ينتصر على بؤس العالم.
ولأنّ الفن احتفال بالحياة، والجمال معاً، فإنّه يتحدّى الهزيمة، والغربة، والاقتلاع من الوطن، ولكن ماذا لو اختار الفنان داخل هذه العتمة لوني البياض والسواد، وما يتسلل إليها من ضوء وظل، ونفاس أتعبها الغياب.
وهنا استحضر “جويا”، لأشير إلى أهمية انحياز التشكيل لصوت الضحية، جويا الفنان الذي اتخذ موقفاً من الإرهاب، وبشاعة الحرب والأنظمة القمعية، والذي شكل منعطفاً أساسياً في تصدّي الضمير التشكيلي لهمجية الإرهاب.
سهف أحد الناجين من الحرب، استطاع الوصول إلى أوربا، بعد أن قطع ألف طريق، ليبدأ بعدها السفر نحو اللون، حيث حط به الرحال في النمسا، تميزت تجربته التشكيلية، بانزياحه نحو الأبيض والأسود، هذان اللونان المتناقضان، المتجاوران، بما يحملانه من رمز الزمن والحب، الليل والنهار، ومآلات الحياة، يمتلك في كل منهما ما يكفيه من شعرية وحب، وانزياح نحو منصة باتت في الغياب، أقام العديد من المعارض، نفذها بتقنيات تشبه الحفر والتصوير، وتميل إلى التعبيرية، والتجريد معاً، حول التجربة، ومآلات الغربة، كان لنا الحوار التالي:
عن معنى الفن، وأهمية أن يكون شاهداً على خطأ الكينونة يقول سهف:
الفن صائغ الشكل ومحسّن المعنى، يحاول دائماً الشغل على صياغة روحية متجددة، لأنّه اعتراض على الزيف، فإذا قال هيجل “لقد مات الفن”، فإنّني أرى أنّ الفن لا يموت إلا باندثار الكائن على هذا الكوكب، فالفن يعترض على المحتوى الفاسد للوجود، ويغيره، كما الأنثى التي تروّض رجلاً جامحاً وضالاً، وكأنّ الفن يشترك بقواسم سرية مع المرأة، التي تمتلك سحر وأدوات التغيير، لهذا فإنني أعتبر اللوحة فخاً جمالياً كما المرأة.
- ويضيف: “لا أدري إذا ما كان الخطأ بالكائن أم بالكينونة، أعتقد بأنّ الكائن البشري ينمو وهو جزء من نظام عام، ينمو ولم يصل بعد إلى صيغته النهائية، لأنّ مسيرته على هذا الكوكب محفوفة بالعثرات والأخطاء، من هنا فإنّ الفن، هو عصب هذا النمو العضوي، وناقل للفكرة، وللانفعال بصيغته الأشف، وناقد للخطأ، الفن هو الجملة العصبية للكينونة البشرية.
تؤكد أنّ كل المفرزات الثقافية للحرب هي طارئة وآنية، إذاً لماذا تستوقفنا الغورنيكا، وصرخة “جويا”، بأعماله العظيمة، وأعمال الكثير من السوريين أيضاً؟
الفن مثل الشعر، يحتاج إلى مسافة زمنيّة تبعده عن انفعاليّة الحدث، كي يستطيع تمثّله فنّياً، وخلق المسافة ولو تأويلياً، إنّ استبطان الفنان للحدث، يحتاج إلى زمن معقد وطويل المدى، إذ لايمكن استيعاب الحدث بطريقة لحظية وإعادة إنتاجه أو إنتاج موقف معرفي وانفعالي، أو إبداع عمل فني، لابد أن يعيش الفنان الحدث، يستغرق فيه، يفككه، لإنتاج موقف منه. حلم - يضيف: “إنّ أغلب الأعمال وخاصة الفنية التي تنتجها اللحظة، تحمل بعداً انفعالياً، ولا تحمل البعد المعرفي اللازم حتى تعيش وتؤدي اشتغالها ومهمتها، “الجورنيكا”، عمل جاء في سياق تجربة ضخمة، بيكاسو لم يولد كفنان من الجورنيكا ، فكل ماقدمته الحرب الأهلية الإسبانية لبيكاسو هو الذعر بشكله العاري والمكثّف، كذلك جويا الذي اشتغل في معظم أعماله على القبيح والمؤلم في التجربة البشرية، وأعتقد بأنّ مفرزات الحرب الثقافية، هي مفرزات آنية من الصعب أن تتحول إلى مشاريع ثقافية الآن.
·لا شك أنّ الهزّة العنيفة والشروخ العميقة التي تحدثها الحروب في عالم القيمة (وهو مجال اشتغال الثقافة والفن)، لا يمكن التقاطها واستقراء استقرارها، قبل أن تهدأ تلك الاهتزازات، فغالباً ما يطغى على المشاريع الثقافية والفنية أثناء الحرب طابع الاستعراض والتقاط اللحظة، بحثاً عن شهرة أو انتشار ما، إنّها أقرب إلى الترويج والإعلان.
ماذا تقول إذاً عن دور الفن حين يكون الواقع رمادياً، بل حين تتحول المدن إلى حطام، هل علينا أن نكرّس الرماد، أم صورة الواقع تحتل شاشة المخيلة؟
لا أعرف مايجب أن يكون أو ما دور الفن في الخراب، قد أتحدّث عن علاقة الواقع مع الفن، وبالعكس، أيضاً لا أرى الفن فعل تغيير ثوري، ولا أعتقد بأنّ اللوحة تستطيع حمل هذه المهمة، إنّها في الغالب تدعو إلى التأمل والتفكير، وتشتغل على تغيير النمط الصوري القابع في أعماق الذاكرة، إنّها بمثابة إعادة برمجة للذاكرة البصرية وتطويرها، ورفع مستوى حساسيتها، والارتقاء الحسي والجمالي، إنها بعيدة عن السياسة ولكنها بالتأكيد قريبة ومخلصة لآلام البشر، وإن لم تكن كذلك تسقط إلى درك التزيين، وإلى البلاستيكيات التي تحتاج إلى تغيير شكلها لإخفاء ماهيتها، لايمكن لفنان أن يتجاهل أحزان الناس، ويبقى محافظاً على فرشاته ندية، كما لايمكن لفرشاة صادقة أن تتميز بعيداً عن الألم الإنساني.
بعد أن أصبحت بعيداً عن مكانك الأول، سوريا، وعرفت معنى اللجوء والشتات، وفيما إذا كنا نحمل أمكنتنا معنا، كونها لصيقة بنا كرائحة الجسد، ما الذي يشكله لك المكان؟ - سورية بالنسبة لي اليوم حلم قاسٍ، أو كابوس طويل، علاقتي بها تحمل بعدين، بعد مكاني، الشمس والطفولة والتراب والسماء، وصور ثابتة لأناس بوجوه متعبة طيبة، بساطة الطين، وشمس الظهيرة المليئة بالحكايات والانتظار.
أما البعد الثاني زماني، وهو المجتمع المليء بقصص الكراهية وخطاب العنف الخائف من الآخر المختلف، والذي يقدم الموت والحزن على طبق الإفطار، وفي حكايا الليل، ويُجرّم العشاق، وهو النظام السياسي، وصور الديكتاتور على دفاترنا المدرسية، تلك الصور التي أرهبت مُخيلتنا، وحولت أفراحنا الصغيرة إلى مستنقعات من الخوف، وهو والدولة الأمنية المخيفة التي أذلّت الجميع، وحرصت على حراسة صور الديكتاتور وتماثيله، ونشرت قصص أقبيتها المرعبة، كمادة للمخيلة الجمعية، التي لم نُشفَ منها إلى يومنا هذا.
لا أنسى طوابير الخبز والقهوة والمؤسسات الاستهلاكية، بموادها النادرة والقبيحة، سيارات المارسيدس ذات النمر الخاصة، والتي تنشر الرعب في الشوارع، أولاد الجنرالات بثيابهم الفاخرة في المدارس المسيجة، كسجون عسكرية، أحذية الفقراء البلاستيكية القاسية والخوف، الخوف من كل شيء حتى من أزهار الطريق. وأنا في هذا الصراع بين طين يحنُّ إلى طينه، وضحية لا تحنّ إلى آلامها، هنا في المنفى حيث الطين غريب والشمس غريبة أيضاً، ومع القليل من الذكريات، أسترخي كضحية وجدت ظل شجرة وارفة، أراجع أوراق العمر ببطء، ألعب الغميضة مع آلامي القديمة، أَمتنُّ للشوارعِ اللطيفة وللابتسامات العابرة هنا، إنّه المكان -الظل الذي يمنحك الوقت لفهرسة خسارتك. حلم
وعن تأثير الصدمة التي بتنا نعاني منها، والحالة الأقرب إلى “تروما عقلية”، وعنبر تشيخوف، الذي بات واقعاً أكثر قسوة من الخيال، وهذا العالم الذي أسقط كل المعادلات، وكأننا أمام جدار العدم، يقول:
·العالم ينمو، ما يحصل الآن هو بداية لمرحلة جديدة، إننا نغادر ماضينا ونتلمس الطريق نحو القادم، العالم اليوم أمام تحدٍّ حقيقي، لا تستطيع التجربة البشرية الاستمرار بنظامها هذا وآليات إنتاجها، إنّ المكننة والأتمتة وتجريد الكائن لتحويله إلى حالة رقمية يسهل شطبها، وإعادة كتابتها وفقا للمكانزم، لا يمكن أن تستمر ببعدها الجاف، البعيد عن المعنى العاطفي والانفعالي للوجود البشري.
·يتابع: “نحن اليوم كتجربة بشرية في مواجهة حقيقية مع الكوكب –الحياة، بحيث لا يستطيع أي نظام في العالم مهما بلغ من التقدم أن يقف في مواجهة الحياة، الحياة هي المنتصر الأبدي، لذلك كل المنظومات وآليات الإنتاج والأفكار التي لا تكون الحياة عصبها الأساسي ودليلها ستسقط وتندحر، والحياة تنتصر لأصدقائها دوماً”. حلم
حول الكائنات الكابوسية التي تسكن لوحاته، متزاوجة مع الأبيض والأسود، يقول:
·أتحدّث في لوحاتي مع كائنات تسكن لوني الأسود، أحاورها وأشاركها حياتي، أقصُّ لها كل يوم ما جرى، هذه الكائنات تعيش خلف اللوحة، أكاد أتلمسها، أحاول تقييدها بالخط وبالمساحة، أحدد لها حيّزها المتاح، ولكنها تأبى أن تستقر وترضخ، تهرب دوماً إلى الخلف، تنسحب، إنّها أرواح من أسئلة، تلك الأسئلة التي غادر أصحابها وبقيت طليقة في الفراغ، بلا إجابة.
· لذلك لم تزل تلك الكائنات -الأرواح- الأسئلة، هائمة في الفضاء خلف اللوحة أو حولها، ومما لاشك فيه فإنّ لوني الأبيض والأسود، كانا جزءاً من خياري الفني، الخيار الذي لا أودّ الخروج منه، فاللوحة هي تلك العلاقة الحوارية بين الأبيض والأسود، إنني أرى في هذا التناوب على تقاسم المساحة والفراغ جوهراً حياتياً، ومعنى يتجاوز حدود اللوحة، بينما الألوان حالة ظاهرية طارئة.
يكفي أن يكون الفن انتصار على الموت.. ويقول عن الحرب، والاقتلاع، ورحلة المنفى:
الحرب هي طاقة مدمرة لكل شيء، تدمر الإنسان والمكان، وتجعلنا محاصرين بأسئلة حول جدوى الحياة والفن، أمام مدن تنهار، وإنسان يقتلع من مكانه، الحرب تجعل الإنسان يكره بشدّة، ويحب بانهيار، نصبح مسكونين بالحزن، نبكي، لهذا ينتابني شعور أن أبكي عن الجميع، أدافع عن الحياة، عن نفسي، بالرسم، حتى لا يفترسني الحزن.
النمسا منصّة الفن: ولأنّ الأمكنة تفرض علينا أسئلة جديدة، وتغير فينا الكثير، يقول عن النمسا:
في النمسا يوجد مساحة واسعة ومتنوعة للفن، يستطيع الفنان أن يلتقط ما يريد، وأن يبحث عن ضالته في الكثير من الصالات والمتاحف، الغنية بتجارب من مختلف بلدان العالم، في هذه الساحة الثقافية الواحدة، يبحث الفنان عن خصوصيته وهويته بين آلاف التجارب والأساليب، وليس من السهل أن يقدّم الفنان لوحته وهويته الخاصة، فيينا مختبر بصري كبير، وتحدٍّ كبير أيضاً، والناس هنا تملك ذائقة بصرية عالية، وعين خبيرة، يبتسمون ويعطون الفرصة للجميع، ويعترفون بالقليل القليل، النمسا قلبت مفاهيمي البصرية فأعدت إنتاجها من جديد. حلم
كيف نختار عزلتنا.. هل مفهوم الوطن بات ملتبساً؟
·الأرض وطن الإنسان، كل تلك التقسيمات الإدارية والسياسية هي مؤقتة وآنية، وستتجاوزها التجربة البشرية، كل شيء يتّجه نحو بعضه، الاقتراب سمة العصر. حلم
· اليوم البشر أقرب إلى بعضهم بعضاً، هناك سرعة في تبادل المنجز البشري الثقافي والمادي، وهناك أرضية مفاهيمية واحدة تبنى، إنّها طبيعة التجربة ومسيرتها، إنّها الضرورة المشتركة، حتى عائق اللغة يضيق، بالنسبة لي نعم الوطن مفهوم ضيق والمشترك الإنساني أوسع من الجغرافيا، وأشترك مع جميع الكائنات على هذا الكوكب بالحب والألم والفرح وأبحث عن المزيد.
الخارطة الفنية السورية هل انقسمت حسب اللون الثوري-الرمادي، الملتزم، وهل ثمة فن غير منتمٍ، ما هو مفهوم الانتماء؟
·الخارطة الفنية السورية انقسمت وفقاً للفهم والمبدأ الأخلاقي، هناك الكثير من الفنانين لم تساعدهم قدراتهم العقلية والثقافية على استيعاب وإدراك ما يحدث، فاحتمى العديد منهم بقوالب الماضي ومقولاته الفاسدة، وأسس موقفه على هذه القوالب، فكان موقفاً فاسداً أيضاً، ليس المطلوب من الفنان الاصطفاف السياسي ولكن مطلوب منه وبكل تأكيد موقف أخلاقي وإنساني، موقف بعيد عن التمييز وقريب من حق الإنسان بالعيش بكرامة وحرية وعدالة، اللوحة بطبيعتها كاللغة، بصرية معقدة وعميقة ومفتوحة على الزمن، لا تحتمل الخطاب السياسي ولا الموقف، ولكن الفنان كسلوك وحياة وظهور إعلامي هو الذي يعبر عن موقفه الأخلاقي والإنساني، وهو ينوب عن لوحته بهذه المهمة التي لا تستطيع حملها. العديد باعوا مواقفهم الأخلاقية، مقابل امتيازات رخيصة، ووجدوا في مكتباتهم البالية مبررات لهذه المواقف.
ماذا يعني لك الحب والتجلي في اللوحة؟
- لا أستطيع أن أعرف بالضبط، فعلاقتي مع اللوحة لها طابع الصراع، إنّني أحاول هزيمتها أو هزيمة الأبيض -العدم أوشّحه بالسواد- الحياة، هذا الجدل والحوار الطويل الذي أخوضه مع اللوحة لا يدعني أشكل فكرة أو موقف مسبق من الموضوع، اللوحة تستنطقني وبصورة عادلة ونزيهة تتركني، لأيام أو أشهر أمام اعترافاتي، أراجع ما قلت وما أدليت به أحياناً تستجوب ذاكرة العشق فتغدو ضاجة بالحب والحنين، وأسئلة العشق عن المصير والوجود، وأحياناً تستنطق الماضي البعيد، تبحث عن تفاصيل لم تعد على ساحة البال، تنبش في الممنوع، في أماكن لا أعرفها ولا أرغب في خروجها.. إنّني مهزوم دوماً معها، أرغب أن أنتصر عليها وأفشل دوماً.
هل تسمي لوحاتك، أم تكتفي بالمرحلة كتيمة؟
·فيما ندر تكون إحدى اللوحات هي مرحلة بذاتها فأسمّيها، أما غالب اللوحات فهي تنتظم ضمن مجموعات تشبه العائلة بعد أن انتهي من العمل، وأجلس معهم طويلاً أحاورهم وأقرأ اعترافاتي التي أدليت فأوقع عليها بأن أسميها. حلم
المصدر: ليفانت –ليف