سمير رمان
علَّق أحد مقدّمي البرامج التلفزيونية المشهورين على حرائق الكنائس في فرنسا: “الكنوز الوطنية patrimoine – هي نفط فرنسا”. هذا صحيح؛ فالبلاد تجني أموالًا طائلة من السيّاح الذين يزورون كاتدرائياتها العائدة إلى عصر الفنّ القوطي. ولهذا لم يكن من قبيل الصدفة أن تنشئ وزارة الثقافة الفرنسية، قبل قرنٍ من الزمن، جهازًا خاصًّا خدمة لحماية المعالم التاريخية. تكريمًا لمعالم العصر القوطي المتأخر والكلاسيكي والقديم.
يذهب الناس إلى المدن الفرنسية، شارتر، آميين، تورز، ريمز، ستراسبورغ، روين، باريس، وأورليان، التي تزين كلًّا منها كاتدرائية على الأقلّ. ويقصد السيّاح من جميع أنحاء العالم نانت، عاصمة دوقات بريتانيا لمشاهدة كاتدرائيتها الفريدة، التي كادت الحرائق تأتي عليها نهائيًا.
لكن هذه الكنائس تتعرض للتخريب، فخلال الفترة من كانون الثاني/ يناير عام 2018، ولغاية نيسان/ أبريل عام 2019 (تاريخ حريق كاتدرائية نوتردام)، شبّ عشرون حريقًا كبيرًا في الكنائس الفرنسية، وبيّنت التحقيقات أنّ العدد كان يمكن أن يكون أكبر، نظرًا لغياب أنظمة حديثة للحماية من الحرائق في 47 كاتدرائية على الأقلّ.
وهذا ما استدعى مقولة الشاعر والفيلسوف الفرنسي الشهير (Paul Valéry/ بول فاليري) المرعبة: “الموت هو مصير الحضارات”. فالعبارة تتحقق على أرض الواقع في فرنسا،
بحسب ما بدا من الأرقام والتفاصيل التي طفت على السطح في سياق الجرد المأساوي لحرائق الكنائس والكاتدرائيات الفرنسية، بعد أسبوعين على آخر حريق شبّ في كاتدرائية القديسين بيير وبول في مدينة نانت. وظهر كأنّ البلاد لكثرة الحرائق قد فقدت القدرة على مواصلة العدّ.
للأسف الشديد، فإنّ الكوارث التي حلّت بالكنائس الفرنسية ليست مجرّد مسرحيةً درامية تدور حول الكاتدرائيات، بل هي حرائق حقيقية بالفعل. ولأنّ العديد من هذه الكاتدرائيات أكثر غنىً من العديد من المتاحف، فقد اختفت إلى الأبد تحفٌ فنية فريدة. فعلى سبيل المثال، كانت كاتدرائية القديسين بيير وبول في نانت، قد أدرجت عمليًا في سجلّ الآثار قبل 29 عامًا من اكتمالها عام 1891 (بدأ بناؤها عام 1434). لكن الحريق الأخير أتلف نوافذ من الزجاج الملوّن تعود إلى القرن السادس عشر، واحترق الأورغ الفريد من نوعه (وقد يكون الأنفس في العالم)، الذي يعود إلى القرن السابع عشر. كما التهم الحريق لوحة الرسّام الفرنسي (هيبوليت فلاندرين Hippolyte Flandrin) تلميذ الفنان العظيم (جان إنغريه/ Jean Auguste Dominique Ingres; 1780—1867).
ذات يومٍ، قال سيّد الكلاسيكية الجديدة في القرن التاسع عشر، إنغريه، للرسّام هيبوليت، بعد فحصه لوحة الرسّام: “هذه اللوحة لن تضيع أبدًا يا صديقي”، ولكنّه لم يكن على صواب، فقد ضاعت التحفة بالفعل (فقد كانت معلّقةً أعلى لوحة التوزيع الكهربائية، ولم تكن هناك أدنى فرصة لإنقاذها).
وعلى الرغم من حجم الكارثة، يردد المواطنون العابرون أمام الكاتدرائية كلمات الشكر لله على أنّ الحريق لم يأتِ أيضًا على أضرحة الدوق (فرنسيس الثاني)، وزوجته (مارغريت دي فوا)، آخر حكام بريتان المستقلّة.
وفي محاولة للحدّ من خطر الحرائق، يتمّ اليوم تداول أفكارٍ عدّة، من قبيل: إغلاق المعالم، الحدّ من عدد الزائرين، تقاضي رسوم دخول (كما هي الحال في بريطانيا). واليوم، يدقّ الخبراء الناقوس محذرين من تردي الوضع أكثر، لافتين في الوقت نفسه النظر إلى أنّ غياب الزائرين سيؤدي إلى تراجع الرقابة، وربما سرقة الأجراس وإذابتها.
في حديثه له أمام وسائل الإعلام، يشرح مدرس الفنون والمؤرخ، ماثيو لورز، الوضع بالقول: لا يمكن إغلاق الكاتدرائيات، فهي مبانٍ حيّة، فهي موجودة طالما يسير الناس في أرجائها،
وبالتالي فإنّ الزائرين معرضون للخطر أيضًا. في القرن الواحد والعشرين، يتوجّب على كلٍّ من الدولة والمجتمع أن يتعافيا من آفة عدم الاكتراث بجذور البلاد التاريخية.
في خضمّ الجدل الواسع الذي يدور بين الفرنسيين، يقول ديدييه ريكنر Didier Rikner، محرر المجلة الأسبوعية الإلكترونية La Tribune de l’Art، والمؤرخ الفني والناشط في حماية التراث التاريخي: بعد مرور ثلاثة أيّام على حريق كاتدرائية نانت، خرج وزير الداخلية بتصريحٍ ليقول: “في الوقت الحالي، ليس هناك ما يشير إلى عملٍ إجراميّ”. ومع ذلك، نرى نشاط وسائل الإعلام قد اقتصر على البحث عن الجاني. فلماذا أصبح من المهمّ جدًا العثور عليه، وهل يقتصر الأمر على كونه رد فعلٍ على حوادث اختراق الكنائس الواحدة بعد الأُخرى؟
ويتابع المؤرخ وجهة نظره قائلًا: في فرنسا يهوى الناس أحاديث المؤامرة بشكلٍ لا يصدّق، فكثيرون يعتقدون حتى الآن أنّ حريق كاتدرائية نوتردام كان مفتعلًا، وهذا من وجهة نظري لا يمتّ إلى الواقع بصلة، فقد اندلع الحريق أثناء القيام بأعمال الترميم. الأمر نفسه ينطبق على حريق كاتدرائية القديسين بيير وبول في نانت، حيث لم يعثر في المكان على آثار خلعٍ، أو مواد قابلة للاشتعال، كما لم يتم العثور على أدلّةٍ جنائية. بيد أنّه قد اتضح وجود مشاكل في التمديدات الكهربائية، لذا فإنّ البحث يجب أن يتركّز على هذه المشكلة. ولكنّ ما يقلق فعلًا أنّ أول من أبلغ عن حريق نانت كان أحد المواطنين، وليس أجهزة إنذار الحريق، مما يشير إلى ضرورة مراجعة أنظمة الإنذار والتحقق من جهوزيتها وفعاليتها.
تقول صحيفة Le Figaro، في تعليقٍ لها على حريق كاتدرائية نانت، إنّ العام الماضي شهد وحده تعرض قرابة 875 كنيسة فرنسية لأعمال تدنيس، أو تخريب. وإن كان أنصار عبدة الشيطان يقومون ببعض أعمال التدنيس كجزءٍ من طقوسهم السريّة السوداء، فإنّ غالبية الاعتداءات كان تتم على يد شبّان يتسللون إلى الكنائس بهدف سرقة شيءٍ ما، والأمر نفسه يتمّ على يد شبّانٍ مخمورين.
وأخيرًا، يقول ديدييه: تعيش فرنسا حاليًا حالة من الذهان المرتبط بالإرهاب الإسلامي، وكذلك
الذهان المتعلّق بقاطني المناطق المحرومة في المدن الكبرى. وعلى الرغم من وجود حالات تدنيس فردية للكنائس، فهي ليست مرتبطة بالإسلاميين وحدهم، إذ تعاني فرنسا أيضًا من مشكلة الراديكالية، التي لا تطال الكنائس حتى الآن على الأقلّ.
ومما يثير الدهشة أنّه على الرغم من الاهتمام الواسع بمشكلة الحرائق التي ضربت درّة التراث التاريخي والثقافي الفرنسي، فإنّ شيئًا لم يتغيّر على أرض الواقع، فقد استمرّت الحرائق تنتقل من مكانٍ إلى آخر. ويعود الأمر إلى عدم اهتمام الحكومة الحالية بتراث البلاد التاريخي، فكانت القوانين التي أصدرتها مدمرة للمعالم الثقافية وتقليص الأموال اللازمة للحفاظ عليها. واليوم، تعقد الطبقة الثقافية الفرنسية الآمال على وزيرة الثقافة، روزلين باشلو، المعيّنة مؤخرًا. ولكن الرئيس الفرنسي لا يولي المشكلة ما تستحقه من اهتمام، فالموارد المخصصة للثقافة تتقلّص باستمرار، وليس هناك العدد الكافي من المديرين المؤهلين، كما تتراجع باضطراد صلاحيات القائمين عليها.
يتابع المؤرخ التاريخي والناشط في مجال المحافظة على التراث الثقافي ديدييه ريكنر: لن تكون استعادة الكاتدرائية عملية سهلة، فهي تستغرق وقتًا طويلًا وتتطلّب تكاليف باهظة، ولكنّها في الوقت نفسه سهلة إن أحسنت الدولة التصرف. ما تلف ضاع إلى الأبد. ولكنّ الدولة في فرنسا ليست وحدها منخرطة في حماية التراث التاريخي، فإلى جانبها تقف العديد من منظمات حماية التراث. بالنسبة للتمويل، فهناك العديد من مصادر التمويل المحلية، كالبلديات والمدن ومختلف الإدارات. ولكن المشكلة في مشاركة الدولة المتواضعة، إذ خصصت 300 مليون
يورو فقط سنويًا لترميم المواقع التراثية التاريخية، وهذا مبلغ متواضع مقارنة بالعدد الكبير من المواقع الموجودة في فرنسا.
ويقول ريكنر إنّه تقدّم بمبادرتين: أولًا، فرض ضريبة إقامة إضافية بـ1 يورو يوميًا على كلّ سائح، أي 7 يورو أسبوعيًا، وبذلك سيتم تحصيل مبلغ مهمّ يخصص للأماكن التي سيزورها السيّاح. ثانيًا، على غرار النسبة المفروضة على جميع مختلف مراهنات الأنشطة الرياضية، التي تعادل 1.8% من إجمالي دخلها، اقترحت تطبيق هذا المخطط على التراث التاريخي. لنقل مثلًا، اقتطاع مبلغٍ معيّن من الرهانات الفائزة فقط في الألعاب الفرنسية (Francaise des jeux FDJ)، وهي شركة مسؤولة أمام وزارة المالية، وتتحكّم باليانصيب الرئيسي وبالمراهنات الرياضية في فرنسا. أعتقد أنّ تطبيق هذا المقترح سيجذب مساهمين إضافيين. وبشكلٍ تقريبي، يمكن توقع أن تبلغ مجموع التحصيلات المتأتية من المقترحين السابقين حوالي 700 مليون يورو، تضاف إليها مساهمة الدولة البالغة 300 مليون يورو، فسيكون المبلغ مليار يورو سنويًا، وهذه أموال كافية لترميم الآثار.
هوامش:
عصر الفنّ القوطي (Gothic): هو الفنّ، الرسم، النحت، صنعة الزجاج، والهندسة المعمارية التي اتسمت بها المرحلة الثانية من النهضة والازهار في غرب ووسط أوروبا. وقد هيمن هذا الفنّ لمدة تقارب 400 عام. كانت بدايته في شمال فرنسا في القرن الثاني للميلاد، وانتشر بسرعة في انكلترا وعلى البر الأوروبي الغربي والأوسط.
بريتان Bretagne: منطقة شمال- غرب فرنسا. عرفت بهذا الاسم منذ العهد الروماني. أصبحت مملكة مستقلة، ثمّ تحولت إلى دوقية، ثمّ اتحدت عام 1632 مع مملكة فرنسا وأصبحت مقاطعة تدار وكأنّها أمّة منفصلة ولكنها تحت التاج الفرنسي. وتضم المقاطعة أقدم الآثار المعمارية في العالم وتعود إلى الألف الخامسة قبل الميلاد.
المصدر: ضفة ثالثة