حازم نهار
لا يُتوقع، مع استمرار الاستقطاب والصراع على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، بصورة خاصة بين أميركا وإيران، أن تستقيل الحكومة اللبنانية كلها من تلقاء نفسها، بعد انفجار بيروت، ولا يُتوقع أيضًا أن يسمح داعموها بذلك، بل من المرجح أن يعملوا على تدعيمها وضمان استمرارها بكل وسيلة ممكنة، بحكم أن البنية السياسية اللبنانية الحالية لن تنتج بديلًا مغايرًا، أو ربما تسمح بتعديلات طفيفة فيها تطال عددًا من الشخصيات، لكن من دون إجراء تغيير جدي في بنية النظام اللبناني القائم.
أما المجتمع الدولي، فهو غير جاهز حاليًا إلا للتعامل مع التفجير ذاته والنتائج المباشرة له في أحسن الأحوال، ولن يذهب إلى ما هو أبعد فيما يتعلق بالأسباب الكبرى للانفجار، أي البنية السياسية والاقتصادية اللبنانية القابلة للانفجار في كل وقت، تلك التي نمت وترعرعت أساسًا تحت أعين وأنظار المجتمع الدولي نفسه من دون أن يكترث لها، أو يفعل شيئًا للتأثير فيها إيجابًا، خصوصًا في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري، والمرحلة التي أعقبت احتجاجات سورية في 2011، ما يعني أن النظام اللبناني، على الأغلب، سيستمر في كونه المشكلة الأكبر في طريق لبنان واللبنانيين.
يحدث هذا على الرغم من الغضب الشعبي الكبير ضد الطبقة السياسية اللبنانية التي تعدّ، على الأقل منطقيًا وأدبيًا، المسؤول الرئيس عمّا حدث، سواء أكان الانفجار عدوانًا مقصودًا من جهات داخلية أو خارجية، أو نتيجة الإهمال والفساد، وأيًا تكن نتائج التحقيق الجنائي. نعم، ببساطة، “الدولة” القائمة هي المتهم الأول، بأطرافها ومسؤوليها وأجهزتها السياسية والاقتصادية والأمنية، على الرغم من كونها سلطة بالمعنى الصريح، لا دولة بالمعنى الحديث أو الوطني.
في الأزمات الكبرى، لا يكتفي البشر بالبحث عن السبب المباشر أو الجنائي، على أهميته، بل يذهبون إلى التفتيش عن الأسباب غير المباشرة أو الكبرى أو الأساسية؛ لأنها الأرضية المولِّدة للأزمة، ويلعب السبب المباشر دورًا محدودًا في اندلاع الأزمة، ما يعني أن حدث انفجار الميناء ليس حدثًا عرضيًا يمكن تجاوزه بسهولة أو وضع اللوم على أفراد أو إهمال في زاوية ما. حزب الله غير بريء كما يدعي أنصاره، ومثله بقية أطراف الحكومة والطبقة السياسية؛ حزب الله موجود في المجلس النيابي اللبناني منذ عام 1992، وله الحصة الأكبر في اختيار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ومن خلفه إيران والنظام السوري، على الأقل منذ خمسة عشر عامًا، وشارك بفاعلية في كل الحكومات التي أنتجت هذا الفساد والإهمال والعجز.
كان من نتائج الانفجار المباشرة، إلى هذه اللحظة، تدمير ميناء بيروت، ونحو ثلث مدينة بيروت، ووفاة أكثر من 150 لبنانيًا، وجرح أكثر من 6000 لبناني، وما يزيد على 20 مفقودًا، وتشريد أكثر من 300 ألف. هذا ليس حدثًا عرضيًا أو بسيطًا يمكن تجاوزه أو القفز فوقه. ولا يشير نسيان أو تناسي الطبقة السياسية اللبنانية وجود مواد شديدة الانفجار في ميناء بيروت، بحسب ما قيل، إلا إلى نسيانها لبنان ذاته؛ لبنان غير موجود على مائدة نقاشاتها وعملها، على ما يبدو، إلا بالقدر الذي يسمح لكل طرف سياسي لبناني بخدمة سياسات ومصالح شخصية أو فئوية أو طائفية أو إقليمية ودولية.
كان لبنان، فعلًا، رمز الحريات والتنافسية والاقتصاد الحر والثقافة والتعليم والفن في المنطقة العربية في الخمسينيات والستينيات؛ في سنة 1960 مثلًا، كان الناتج المحلي الإجمالي اللبناني أعلى قليلًا من ناتج سنغافورة التي تماثله تقريبًا من حيث عدد السكان، فيما لا يعادل ناتجه اليوم سدس ناتج سنغافورة (لبنان: 46.8 مليار دولار، سنغافورة: 297 مليار دولار، في عام 2013). ويُشار أيضًا إلى أنّ لبنان احتلّ في عام 2019 المرتبة 128 عالميًا في مؤشر رؤية الحكومة طويلة الأجل الصادر عن البنك الدولي، واحتلّ المرتبة 130 في مؤشر كفاءة الإنفاق الحكومي، والمرتبة 135 في مؤشر الهدر في الإنفاق الحكومي. بالتأكيد، لم يصل لبنان إلى هذا الانهيار إلا نتيجة سياسات الحكومات المتعاقبة والطبقة السياسية المتحكمة فيه طوال أكثر من ثلاثة عقود.
في لبنان أحوال قابلة للانفجار في كل مكان وزاوية، منها ما هو قديم ومتراكم، ومنها ما هو جديد؛ هناك دستور مفخخ أساسًا تعايش معه اللبنانيون حتى عام 1975، ودولة غائبة منذ عقود لمصلحة حضور نظام سياسي هش، وحزب مسلح/ ميليشيا يمسك برقاب اللبنانيين وقابل للانفجار في وجوههم في كل لحظة، وقنبلة موقوتة اسمها الطائفية، وعلاقات غير منطقية مع دولة الولي الفقيه وأذرعه في المنطقة، وهناك جار اسمه سورية طالت وستطال انفجاراته لبنان كله الآن ومستقبلًا، فضلًا عن الفقر الذي يطال اليوم أكثر من نصف الشعب اللبناني، ووجود طبقة سياسية فاسدة وتافهة وبلا كرامة.
من الممكن أن تستغلّ الطبقة اللبنانية الحاكمة الانفجار والتضامن الدولي الذي تلاه في الحدّ من تأثير العقوبات وتحقيق خرق في عقوبات قانون قيصر، ولا معنى هنا للتصريحات الدولية التي أكدت على أن الدعم الذي سيصل إلى لبنان، سيوزّع مباشرة على الشعب اللبناني أو أن الدعم لن يقدم عن طريق الحكومة اللبنانية الفاسدة؛ لأن الدعم يحتاج في الحصيلة إلى أطراف وجهات لبنانية تقوم بالإعمار والإصلاح وفق خطط على مستوى البلاد لا الأفراد. تذكرنا فاجعة انفجار بيروت بفاجعة كيماوي غوطة دمشق في آب/ أغسطس 2013 التي أسهمت في جعل النظام السوري طرفًا في اتفاق دولي للتخلص من سلاحه الكيماوي بعد عزلته ونزع شرعيته بدءًا من أواخر 2011.
النظام اللبناني الحالي وليد التزاوج بين ميليشيا المال وميليشيا السلاح، وللطرفين علاقات وارتباطات إقليمية ودولية تجعل مسألة تفكيكه وإعادة بنائه على أسس جديدة مرتبطة بتفكيك بنية النظام الإقليمي كله، خصوصًا ما يتعلق بدور إيران في المنطقة واستمرارية النظام السوري، وهذا ما زال، في اعتقادي، بعيدًا بحكم الافتقاد إلى رؤية وإرادة دوليتين تجاه المنطقة، ما يعني أن تغيير النظام اللبناني، في المآل، هو رهينة نتائج الصراع الإقليمي الدولي في المنطقة، تمامًا كما هو حال التغيير السياسي في سورية.
كان من المتوقع كثيرًا أن ينفتح الصراع في المنطقة على مصراعيه عاجلًا أم آجلًا؛ فلا يمكن ترجيح حدوث استقرار وتغيير سياسي في سورية من دون أن ينعكس ذلك حكمًا على التوازنات في الساحة اللبنانية، والعكس صحيح. هل يمكن أن يصل النظام السوري إلى لحظة قريبة من الانهيار من دون أن يكون في جعبته ما يختتم به مسيرته الكارثية أو من دون أن يترك ارتدادات قوية في المحيط، ومنها لبنان، أو هل يمكن ألّا يؤدي تضييق الخناق على حزب الله أو إيران إلى تداعيات شديدة في المنطقة؟ أركان محور “الممانعة” يعيشون معًا أو يموتون معًا.
في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، اندلعت احتجاجات واسعة استمرت أشهرًا عدة، طالبت برحيل الطبقة السياسية الحاكمة كلها، المتهمة بالفشل والفساد والهدر، ويُتوقع أن تنطلق احتجاجات جديدة، بعد الراحة التي وفرها فيروس الكورونا للسلطة، لكن يُعتقد بأنها ستكون أكثر حدة وأكثر تصميمًا على رحيل الطبقة السياسية الفاسدة، ويُخشى أن تنزلق نحو العنف أو تُجبر على الانزلاق إليه.
هناك ما يمكن أن يخرق هذا التحليل المتشائم؛ إرادة اللبنانيين وإصرارهم التي يمكن أن تجبر المجتمع الدولي على إجراءات تصبّ في صالحهم، وفي صالح إعادة بناء الدولة اللبنانية على أسس جديدة، وإنهاء حكم الغربان أو إضعافه، غربان السياسة والأيديولوجية والسلاح والاقتصاد، ولهذا شروطه العديدة التي يأتي في مقدّمها عدم الانجرار نحو العنف على الرغم من أرجحيّة لجوء الطبقة المتنفذة إليه.
المصدر: المدن