هنري ستيمسون
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
في عدد شباط (فبراير) 1947 من “مجلة هاربر” Harper’s Magazine، قدم وزير الحرب هنري ستيمسون، للجمهور الأميركي مبرراته لاستخدام القنبلة الذرية في هيروشيما وناغازاكي. وكان رئيس جامعة هارفارد، جيمس ب. كونانت، وهو مستشار علمي مهم لمشروع مانهاتن، قد حثّ ستيمسون على الرد على الانتقادات المتزايدة لاستخدام القنابل الذرية. ويوثق مقال ستيمسون رفض اليابانيين الاستسلام ويقدر أن غزو الحلفاء لليابان كان سيكلف مليوناً من الضحايا الأميركيين وعدداً أكبر بكثير من اليابانيين.
في الأشهر الأخيرة، ظهرت الكثير من التعليقات على قرار استخدام القنابل الذرية في الهجمات على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين. وكان هذا القرار واحداً من أجرأ القرارات التي اتخذتها حكومتنا في الأعوام الأخيرة، ومن المناسب تمامًا وجوب مناقشته على نطاق واسع. لذلك قررت أن أسجل لكل الذين قد تهمهم المعرفة عن فهمي للأحداث التي أدت إلى الهجوم على هيروشيما في 6 آب (أغسطس) 1945، وناغازاكي في 9 آب (أغسطس)، والقرار الياباني بالاستسلام في 10 آب (أغسطس). ولا يستطيع أي فرد واحد أن يأمل في أن يعرف بالضبط ما الذي دار في أذهان كل أولئك الذين كانت لهم حصة في تقرير هذه الأحداث، لكن ما يلي هو وصف دقيق لأفكارنا وأفعالنا كما أجدها في السجلات وفي ذاكرتي الواضحة.
جرى سرد القصة الاستثنائية للتطوير الناجح للقنبلة الذرية في أماكن أخرى. ومع مرور الوقت أصبح من الواضح أن السلاح لن يكون متاحًا في الوقت المناسب لاستخدامه في “المسرح الأوروبي”، وانتهت الحرب ضد ألمانيا بنجاح باستخدام ما تسمى الآن بالوسائل التقليدية. ولكن، في ربيع العام 1945، أصبح من الواضح أن ذروة جهدنا الذري المطوّل أصبحت في المتناول.
كان الهدف السياسي والاجتماعي والعسكري الرئيسي للولايات المتحدة في صيف العام 1945 هو تحقيق استسلام اليابان الفوري والكامل. ويمكن للتدمير الكامل لقوتها العسكرية فقط أن يفتح الطريق أمام سلام دائم. وكانت اليابان، في تموز (يوليو) 1945، قد أُضعفت بشدة بسبب هجماتنا العنيفة بشكل متزايد. وكان من المعروف لنا أنها ذهبت إلى حد تقديم مقترحات مبدئية للحكومة السوفياتية، على أمل استخدام الروس كوسطاء في سلام تفاوضي. وكانت هذه الاقتراحات الغامضة تتوخى احتفاظ اليابان بالمناطق المهمة التي غزتها، وبالتالي لم يتم النظر فيها بجدية. ولم يكن هناك حتى الآن أي مؤشر على أي ضعف في تصميم اليابان على القتال بدلاً من قبول الاستسلام غير المشروط. وإذا أرادت أن تستمر في قتالها حتى النهاية، كانت ما تزال لديها قوة عسكرية كبيرة.
في منتصف تموز (يوليو) 1945، قدَّر قسم المخابرات في هيئة الأركان العامة لوزارة الحرب القوة العسكرية اليابانية على النحو الآتي: في جزر الوطن، أقل بقليل من 2.000.000؛ في كوريا، منشوريا، والأراضي الصينية، وفورموزا، أكثر بقليل من 2.000.000؛ في الهند الصينية الفرنسية وتايلاند وبورما، أكثر من 200.000؛ في منطقة جزر الهند الشرقية، بما في ذلك الفلبين، أكثر من 500.000؛ في جزر المحيط الهادئ وما حولها، أكثر من 100.000. وقُدر إجمالي الجيش الياباني بحوالي 5.000.000 رجل. وتبين لاحقاً أن هذه التقديرات كانت متوافقة بشكل وثيق جدًا مع الأرقام اليابانية الرسمية. كان الجيش الياباني البري في حالة أفضل بكثير من القوات البحرية والجوية اليابانية. لم تعد البحرية موجودة عملياً إلا كقوة شرسة ضد أسطول غازٍ. وتم اختزال القوة الجوية بشكل أساسي إلى الاعتماد على الكاميكازي، أو الهجمات الانتحارية. ومع ذلك، ألحقت هذه الأخيرة بالفعل أضرارًا جسيمة بقواتنا البحرية، وكانت فعاليتها المحتملة في معركة أخيرة مصدر قلق حقيقي لقادتنا البحريين.
كما فهمنا في تموز (يوليو)، كان هناك احتمال قوي للغاية لأن تقرر الحكومة اليابانية المقاومة حتى النهاية، في جميع مناطق الشرق الأقصى الخاضعة لسيطرتها. وفي مثل هذه الحالة، سيواجه الحلفاء مهمة هائلة تتمثل في تدمير قوة مسلحة قوامها خمسة ملايين رجل وخمسة آلاف طائرة انتحارية، ينتمون إلى جنس أثبت مسبقاً وبوضوح قدرته على القتال حتى الموت.
كان قد تم إعداد الخطط الإستراتيجية لقواتنا المسلحة لهزيمة اليابان، كما كانت في تموز (يوليو)، من دون الاعتماد على القنبلة الذرية التي لم يكن قد تم اختبارها بعد في نيو مكسيكو. كنا نخطط لضرب حصار بحري وجوي مكثف، وحملة قصف جوي استراتيجي كثيف خلال الصيف وأوائل الخريف، على أن يتبع ذلك في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) غزو لجزيرة كيوشو الجنوبية. وسيعقب ذلك بدوره غزو جزيرة هونشو الرئيسية في ربيع العام 1946. وكان إجمالي القوات العسكرية والبحرية الأميركية المشاركة في هذا المخطط الضخم حول خمسة ملايين رجل؛ وإذا تم تضمين جميع المعنيين بشكل غير مباشر، فسيكون العدد أكبر.
قدرنا أنه إذا اضطررنا إلى تنفيذ هذه الخطة حتى نهايتها، فلن ينتهي القتال الرئيسي حتى الجزء الأخير من العام 1946، على أقرب تقدير. وعلمتُ أن مثل هذه العمليات قد تكلف أكثر من مليون ضحية من القوات الأميركية وحدها. ويمكن توقع خسائر كبيرة إضافية بين حلفائنا، وبالطبع، إذا نجحت حملتنا وإذا استطعنا الحكم من خلال التجربة السابقة، فإن خسائر العدو ستكون أكبر بكثير من خسائرنا.
كان من الواضح مسبقاً في تموز (يوليو)، حتى قبل الغزو، أننا يجب أن نكون قادرين على إلحاق أضرار جسيمة بالوطن الياباني من خلال الاستخدام المشترك للقوة البحرية والجوية “التقليدية”. وكان السؤال الحاسم هو ما إذا كان هذا النوع من العمل سيؤدي باليابان إلى الاستسلام. ولذلك أصبح من الضروري النظر بعناية شديدة في الحالة الذهنية المحتملة للعدو، وتقييم مسار السلوك الذي قد ينهي إرادته للمقاومة بدقة.
دار الكثير من النقاش في واشنطن حول توقيت التحذير الذي سيُوجَّه إلى اليابان. وكان العامل المسيطر في النهاية هو التاريخ المحدد مسبقاً لاجتماع بوتسدام للثلاثة الكبار. وكان قرار الرئيس ترومان هو أن مثل هذا التحذير يجب أن يصدر رسمياً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في هذا الاجتماع، بموافقة رئيس الحكومة الصينية، بحيث يكون واضحاً أن جميع أعداء اليابان الرئيسيين هم في وحدة كاملة. وتم فعل ذلك من خلال إنذار بوتسدام في 26 تموز (يوليو)، والذي تعقب عن كثب المذكرة المذكورة أعلاه في 2 تموز (يوليو) سوى أنه لم يذكر الإمبراطور الياباني. وفي 28 تموز (يوليو)، رفض رئيس وزراء اليابان، سوزوكي، إنذار بوتسدام بإعلانه أنه “لا يستحق حتى الإخطار العمومي”. وفي مواجهة هذا الرفض، أمكننا المضي قدمًا لإثبات أن الإنذار النهائي كان يعني بالضبط ما قاله عندما ذكر أنه إذا واصل اليابانيون الحرب، فإن “الاستخدام الكامل لقوتنا العسكرية، مدعومًا بعزمنا، سيعني الدمار الحتمي والكامل للقوات المسلحة اليابانية، وبنفس القدر من الحتمية الدمار الشامل للوطن الياباني”.
لتحقيق مثل هذا الغرض، كانت القنبلة الذرية سلاحًا مناسبًا بشكل ملحوظ. وقد تم إجراء اختبار نيو مكسيكو بينما كنا في بوتسدام، في 16 تموز (يوليو). وكان من الواضح على الفور أن قوة القنبلة ارتقت إلى أعلى تقديراتنا. لقد طورنا سلاحًا ذا طابع ثوري لدرجة أنه من المتوقع كثيراً أن يُحدث استخدامه ضد العدو على الأوليغارشية الحاكمة اليابانية نوع الصدمة التي أردناها بالضبط، بحيث يعزز موقف أولئك الذين يرغبون في السلام، ويضعف موقف الفريق العسكري.
بسبب أهمية المهمة الذرية ضد اليابان، قدَّم الفريق العسكري الخطط التفصيلية لي للموافقة عليها. وبفضل دعم الرئيس ترومان الحار، شطبتُ من قائمة الأهداف المقترحة مدينة كيوتو. وعلى الرغم من أنها كانت هدفًا ذا أهمية عسكرية كبيرة، إلا أنها كانت العاصمة القديمة لليابان وكانت مزارًا للفن والثقافة اليابانية. وقد قررنا أنه ينبغي الإبقاء عليها. ووافقتُ على أربعة أهداف أخرى، بما فيها مدينتي هيروشيما وناغازاكي.
تم قصف هيروشيما في 6 آب (أغسطس)، وقُصفت ناغازاكي في 9 آب (أغسطس). وكانت هاتان المدينتان جزءًا نشطًا من المجهود الحربي الياباني. كانت إحداهما مركزًا للجيش، وكانت الأخرى مركزاً بحرياً وصناعياً. كانت هيروشيما المقر الرئيسي للجيش الياباني الذي يدافع عن جنوب اليابان وكانت نقطة تخزين وتجميع عسكرية رئيسية. وكانت ناغازاكي ميناءً بحريًا رئيسيًا وتضم العديد من المنشآت الصناعية الكبيرة ذات الأهمية الكبيرة في زمن الحرب. وكنا نعتقد أن هجماتنا قد أصابت المدن التي يجب أن تكون بالتأكيد مُهمة للقادة العسكريين اليابانيين، في الجيش والبحرية على حد سواء، وانتظرنا نتيجة.
كُتبت العديد من الروايات حول استسلام اليابان. بعد جلسة مطوّلة لمجلس الوزراء الياباني والتي كسر الجمود فيها الإمبراطور نفسه، تم تقديم عرض الاستسلام في 10 آب (أغسطس). واستند العرض إلى شروط بوتسدام، مع تحفظ بشأن سيادة الإمبراطور. وفي حين أن رد الحلفاء لم يقدِّم أي وعود بخلاف تلك التي تم تقديمها مسبقاً، فقد اعترف ضمنيًا بموقف الإمبراطور من خلال النص على أن سلطته يجب أن تخضع لأوامر القائد الأعلى للحلفاء. وقبل اليابانيون هذه الشروط في 14 آب (أغسطس)، وتم توقيع صك الاستسلام رسميًا في 2 أيلول (سبتمبر)، في خليج طوكيو. وهكذا تحقق هدفنا العظيم، وتشير كل الأدلة التي رأيتها إلى أن العامل المسيطر في القرار الياباني النهائي بقبول شروط الاستسلام كان القنبلة الذرية.
كانت القنبلتان الذريتان اللتان أسقطناهما هما الوحيدتان اللتان كانتا جاهزتين لدينا، وكان معدل إنتاجنا في ذلك الوقت ضئيلًا للغاية. ولو استمرت الحرب حتى الغزو المتوقع في 1 تشرين الثاني (نوفمبر)، لكانت نيران غارات القصف الإضافية لقاذفات “بي-29” ستكون أكثر تدميراً للحياة والممتلكات من العدد المحدود للغاية للغارات الذرية التي كان يمكن أن ننفذها في الفترة نفسها. لكن القنبلة الذرية كانت أكثر من سلاح تدمير رهيب. كانت سلاحا نفسياً. في آذار (مارس) 1945، شن سلاحنا الجوي أول غارة حارقة كبيرة على منطقة طوكيو. وفي تلك الغارة، تم إلحاق ضرر أكبر ووقع من الضحايا أكثر مما كان عليه الحال في هيروشيما. وقد شاركت المئات من القاذفات وأسقطت مئات الأطنان من المواد الحارقة، وأحرقت مجموعة متتالية من الغارات المماثلة ودمرت جزءًا كبيرًا من المنطقة الحضرية في اليابان، لكن اليابانيين واصلوا القتال. وفي 6 آب (أغسطس)، ألقت طائرة قاذفة من طراز “بي-29” قنبلة ذرية واحدة على هيروشيما.
وبعد ثلاثة أيام، أُسقطت قنبلة ثانية على ناغازاكي وانتهت الحرب. وبقدر ما كان يمكن لليابانيين أن يعرفوا، فإن قدرتنا على تنفيذ هجمات ذرية، إذا لزم الأمر بواسطة العديد من الطائرات في وقت واحد، كانت غير محدودة. وكما قال الدكتور كارل كومبتون: “لم تكن قنبلة ذرية واحدة، أو قنبلتين، هي التي أدت إلى الاستسلام؛ كانت تجربة ما ستفعله القنبلة الذرية فعلياً بالمجتمع، بالإضافة إلى الخوف من وجود عدد إضافي كبير منها، وكان ذلك فعالًا”.
وهكذا، خدمت القنبلة بالضبط الغرض الذي قصدناه. استطاع معسكر السلام أن يسلك طريق الاستسلام، ومورس كل ثقل هيبة الإمبراطور في تعزيز عامل السلام. وعندما أمر الإمبراطور بالاستسلام، وتمت السيطرة على المجموعة الصغيرة، وإنما الخطيرة، من المتعصبين الذين عارضوه، أصبح اليابانيون مخضَعين للغاية، لدرجة أن المهمة العظيمة المتمثلة في الاحتلال ونزع السلاح اكتملت بسهولة غير مسبوقة.
حاولت في الصفحات السابقة تقديم وصف دقيق لملاحظاتي الشخصية عن الظروف التي أدت إلى استخدام القنبلة الذرية والأسباب الكامنة وراء استخدامنا لها. وبالنسبة لي، بدت لي تلك الأسباب دائماً مقنعة وواضحة، ولا أستطيع أن أرى كيف يمكن لأي شخص يتولى مسؤوليات مثل مسؤولياتي أن يسلك أي مسار آخر، أو أن يعطي أي نصيحة أخرى لرؤسائه.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: From “The Decision to Use the Atomic Bomb” by Henry Stimson
المصدر: الغد الأردنية/– (هاربرز ماغازين) عدد شباط (فبراير) 1947