أكرم البني
ثلاثة مستجدات تفرض نفسها على اللقاء الثالث لما سميت «اللجنة الدستورية السورية»، المزمع عقده في جنيف بعد أيام (24 أغسطس/ آب) بين ممثلي النظام والمعارضة والمجتمع المدني، وتجعله شكلياً وغير مجدٍ، ولنقل تجعل مصير هذه اللجنة محكوماً بالتعطيل والموات، أسوة بما حصل لـ«بيان جنيف» عام 2012، وللمؤتمرات الكثيرة التي عقدت تحت مظلته؛ من مؤتمر «جنيف 1» صيف 2012، وحتى مؤتمر «جنيف 9» شتاء 2018، وأسوة أيضاً بقرار مجلس الأمن رقم «2254» لتسوية النزاع السوري الصادر في يناير (كانون الثاني) 2015، ثم ما حل بما سمي «إعلان موسكو» في 2016 بين روسيا وإيران وتركيا لإحياء العملية السياسية في سوريا، وما تلاه من اجتماعات ومؤتمرات عقدت في «آستانة» و«سوتشي».
أولاً؛ يأتي هذا اللقاء بعد إخفاق الرهانات والتحليلات التي تبناها غير طرف عن قرب تنحي واستبدال رأس النظام السوري، بما في ذلك انحسار الحملات التي قادها بعض الإعلام الروسي ضده للتأثير على مكانته وموقعه، وتقف وراء هذه النتيجة أسباب متضافرة؛ منها تمسك طهران الشديد باستمرار حاكم دمشق ورفضها القاطع أي تغيير يطاله، ومنها رغبة إسرائيلية، أعلنت غير مرة، تميل لبقاء رموز سلطة أثبتت حرصها (كاتجاه عام) على حماية الحدود المشتركة، ومنها تراجع موسكو نفسها عن فكرة تغيير رأس النظام، ربما تحسباً من التداعيات والتكلفة، خصوصاً بعد نجاحه في توفير حد لافت من الالتفاف حوله خلال المعركة التي خاضها لإزاحة رامي مخلوف وأعوانه.
ما سبق يعني أن النهج السلطوي القديم سوف يستمر بالزخم والقوة نفسيهما، خصوصاً لجهة تشدد النظام السوري في رفض التنازلات وفي إفشال مختلف المبادرات السياسية، متوسلاً ما يمتلكه من خبرات لتمييع ما يفرض عليه من حلول وإفراغه من محتواه، ومتسلحاً بحصيلة وفيرة من تجاربه القمعية يحدوها إدمان على الفتك والتنكيل وثقة بأن العمل المجدي لدوام السيطرة ليس الاستجابة لمطالب الناس ومعالجة مشكلاتهم ونيل رضاهم، بل الاستمرار في إرهابهم وإذلالاهم وشل دورهم.
فأنّى لسلطة مرتبكة أن تذعن للتفاوض سياسياً، حتى في حدود التوافق على دستور جديد، وهي تدرك مخاطر ذلك؛ إنْ في هتك هيبتها وتحريض الخلافات داخل بطانتها وبين مراكز قوى تشكلت في أتون الصراع وباتت متفاوتة المصالح والأهداف، وإنْ بتحسبها من المساءلة والمحاسبة حين يفضح المسار السياسي دورها ومسؤوليتها في معضلات الخراب والتفكك الوطني والفساد وتهتك الاقتصاد وتردي الأوضاع المعيشية؛ والأهم مصير المعتقلين والمغيبين والمشوهين؟! ثم أنّى لنظام رفض وهو في شدة أزمته تقديم التنازلات، مهما بدت صغيرة، أن يتنازل اليوم وقد أغراه ما حققه من تقدم عسكري، الأمر الذي يفسر الطعن الصريح لرأس النظام في خطابه الأخير بالمعارضة وخيار التفاوض معها، وتأكيده أنه لن يسمح لها بأن تحقق بالسياسة ما لم تحققه بالإرهاب؛ كذا؟!
ثانياً؛ يتزامن اللقاء مع فترة قصيرة تسبق الانتخابات الأميركية وفي مناخ ينتظر فيه الجميع نتائج هذه الانتخابات كي يتم البناء عليها، مما يعني أن ليس ثمة حماسة واطمئنان، وإنْ بدرجات، لدى مختلف الأطراف الراعية والمشاركة في هذا اللقاء، لخوض مناقشات عقيمة يحكمها تباين كبير بين هموم أطرافها ومطالبهم، ما دام ثمة ترقب لما قد يرسو عليه قرار واشنطن، الجهة التي لا تزال تمتلك أوفر قدرة على التأثير والتقرير والحسم، خصوصاً بعد عودتها عسكرياً إلى المشهد واستعانتها بالحضور الكردي وبـ«قوات سوريا الديمقراطية» للسيطرة على مناطق مهمة في شمال البلاد وشرقها، وأيضاً بعد العقوبات التي اتخذتها مؤخراً ضد السلطة السورية وشركائها تحت عنوان «قانون قيصر» وشكلت حالة ضغط كبيرة ليس فقط على السلطة؛ وإنما أيضاً على حليفتها روسيا، مما زاد من تعقيدات الدور الذي تتطلع إليه هذه الأخيرة في رسم المستقبل السوري.
صحيح أن قيادة الكرملين نجحت، بفضل جهدها العسكري، في إنقاذ النظام وحلفائه الإيرانيين، وصحيح أنها الجهة التي يبدو أنها تمسك بأهم خيوط اللعبة في البلاد وتمكنت من اختراق الاستعصاء المزمن وتخميد حدة الصراع القائم، لكنها خير من يعرف أن التسوية السياسية الناجحة للمحنة السورية تتطلب تنازلات مؤلمة لإرضاء خصومها الغربيين وتحديداً واشنطن، وتعرف أنه من دون ذلك فسوف تستمر حالة «الاستنقاع» التي كرسها فشل التفاهمات الكثيرة المعلنة بين الرئيسين، بوتين وترمب، للإقلاع بالحل السياسي السوري.
ثالثاً؛ التراجع الموضوعي لقدرة المجتمع الدولي والبلدان الغنية؛ الغربية والعربية، على التقدم للمشاركة في إعادة إعمار سوريا، محكومة ليس فقط بصعوبة حصول تغيير في السلطة استجابة لاشتراطاتها السياسية، وإنما أيضاً بالنتائج الوخيمة التي خلفها وباء «كورونا» على قدراتها الاقتصادية، ويصح أن نضيف هنا تداعيات انفجار بيروت وما شهدناه من صرف جزء مهم من الجهد العالمي نحو لبنان، وهو أمر مفهوم ومفسر بالمقارنة مع الحالة السورية، والمفارقات كثيرة؛ منها المسؤولية التي يتحملها نظام الاستبداد السوري عمّا حل في البلاد من خراب وضحايا، محفوفاً بإصراره على رفض المبادرات السلمية الأممية كافة؛ ومنها عمق حضور الفكر الليبرالي، سياسياً واقتصادياً، في لبنان وما راكمه من قوى لها مصلحة في تغيير الاصطفاف الذي فرض عليه خلال السنوات الماضية، وتقريبه من الشروط السياسية التي حددها الغرب للمساعدة في إعادة إعمار بيروت، ومنها قوة رأس المال اللبناني المنتشر في بلدان الاغتراب وقدرته النسبية على التأثير في القرارات الغربية المتعلقة بشؤون بلاده، عدا روابطه العميقة مع قطاع كبير من اللبنانيين وحماسته اللافتة لمدّهم بالعون اللازم.
والحال؛ لا معنى اليوم للتعويل على اللجنة الدستورية، ولنقل على فضلات ما تبقى من مسارات التسوية السياسية في ظل سلطة لا يهمها سوى التفرد بسطوتها وامتيازاتها أياً يكن الثمن، مما يرجح فشلها كحال مختلف المبادرات والمفاوضات السياسية، تاركة المأساة السورية مفتوحة على تفاقم أزماتها المتنوعة؛ سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ورهينة التوغل المريع للأطراف الخارجية وما ترسمه خلافاتها وتوافقاتها، في مناخ عالمي يلوذ بصمت مريب وحسابات بغيضة تجاه عظمة الأهوال والفظائع التي تعرض ويتعرض لها السوريون.
المصدر: الشرق الأوسط