عبد الحفيظ الحافظ
وقعتْ أحداثُ هذه القصة في مدينةٍ عربستان الشرقية، فسجل مجهولٌ وقائعَها، لكنه لم يضع اسمه في مطلعها، وعندما اغتصبت مكتبتُه تبرأ منها، فرُميت القصة لقيطةً على قارعة الطريق، تعثر بها قاصٌ أمام باب مسجدٍ في أزقة المدينة القديمة، فأشفق عليها، وتبناها، وضمَّها إلى عائلته القصصية ، ولم يعلم بأنها مفخخةٌ بقضية . القصة: وقف المهندس سمير مشدوهاً أمام باب مكتبه، صورة كبيرة تغطي نصف الباب الأعلى، مرَّ أمام الأبواب الأخرى فوجدها عاريةً بلا صور . داهمته الأسئلة ، واشتبكت فيما بينها ، فاستنطقها وفق الأجوبة المناسبة ، لكنه أدرك في النهاية : أن من وضع هذه الصورة يريد أن يُلبسَه قضية ، وربما يعود هو نفسه إليها ، ليشوهها “لا سمح الله” أو يمزقها ، وعندها سيدخل في دوامة السين والجيم وما بينهما ، وقد يقف من جديد خلف القضبان في محكمةٍ تصدر حكماً مبرماً ، لأن القضية تكون قد نضجت على نارٍ هادئة . حدث نفسَه : – يا إلهي نجني من هذه المصيدة ، لم نعرفْ كيف خرجنا من القضية الأولى ، بابٌ وصورةٌ يعني نفقاً مفتوحاً على المجهول . – لمَ هذا الباب بالذات ؟. – قضية تُنسج خيوطُها في هذا اليوم ، في الذكرى العاشرة لزواجي ، وقد اتفقت مع نسرين أن ندعوَ بعض الأهل والأصدقاء احتفالاً بالذكرى السعيدة ، ونشعلَ الشموع ونقَّطعَ قالب الكاتو ، ونقبِّلَ طفلينا ، ونتقبل التهاني ، وفيروز ترافقنا بصوتها الملائكي .. – لقد شعرت بمذاق العسل صباح هذا اليوم لقبلة نسرين وبدفء قبلة رامي ولجين ، كيف لا ونحن في رحاب هذه الذكرى ، وإلى الآن تغرد لجين : – لا تتأخر يا بابا نحن بانتظارك ..- ماذا أفعل في هذا الصباح اللعين ؟. – كيف أغادر الصورة وأتركها وحيدةً ، وأقوم بجولتي لقسم الصيانة ، ومن وضعها يترصدني ليرمي في وجهي القضية . فتح سمير باب المكتب ، جلس خلف الطاولة يفكر ، وتبادل النظرات مع الصورة ، وتذكر وزارة الحب في رواية 1984، فارتعدت مفاصله وسكنته الرهبة ، وفجأةً لمعت خطةٌ في ذهنه فأسرع إلى تنفيذها . اتجه إلى مكتب اللجنة النقابية ، فدهش من فيها بدخوله ، فقد مضى سنوات في المعمل ولم يدخلْ المكتب ، وبعد الترحيب الحار به ، قدموا له كأساً من الشاي ، فنادى أبا فريد : – اذهبْ يا عم نظِّف مكتبي ، اغسلْ النافذة والباب بالماء والصابون ؟. لكن سمير لم يرشف رشفةً من كأسه حتى عاد أبو فريد لاهثاً ، متأتئاً ، خائفاً ينظر خلفه : – أستاذ أستاذ على الباب صورة أأغسلها ؟. – لااااا أيها المجنون ، كيف تغسلها ؟. حدث نفسه من جديد : لقد باءت خطتك بالفشل يا أبا رامي ، وكدت أن تورط هذا المسكين بالقضية ، انظر ، حتى أبا فريد لمْ ينقذك .. انتقل إلى مكتب المدير العام ، وحدثه عن الصورة ، وعن خشيته أن يقوم أحدٌ بالإساءة إليها “لا سمح الله” أثناء غيابه .. دعا المدير لاجتماع مجلس الإدارة واللجنة الأمنية ، وتدارسوا أبعاد القضية ، وبعد تدقيق تبين أن العامل مسعود دخل الإدارة ووضع الصورة ، وتأكدوا أنه معاقبٌ من قبل المهندس سمير لإهماله . سأل المدير مسعوداَ : – أ أنت وضعت الصورة على باب المهندس سمير ؟ – نعم أنا . لمَ وضعتها على هذا الباب ؟. لم يجبْ مسعود ، بل خاطب المدير سائلاً : – هل عندكم يا سيادة المدير اعتراضٌ على تعبيرنا عن حبنا للصورة ، ووضعها حيث نريد ؟. – أم أن المهندس سمير لا يرغب أن تتصدر الصورة باب مكتبه ويتشرف برؤيتها ؟. ارتبك المدير ، صمت الحضور ، تداخل سمير ببعضه ، وانكمش كعلبة تبغ معجونة ، وآمن أن مصيره ومستقبل عائلته أصبحا بقبضة هذا الرجل . أصدر المدير تكليفاً لمسعود بحراسة الصورة لحين تقرر الجهات المعنية الإجراء المناسب بشأنها ، وغطت قضية الصورة على ما يدور من أحاديث في المعمل ، حول الإنتاج وقطع الغيار وغلاء المعيشة والراتب ، وما يجري في المنطقة .. وضع مسعود كرسياً أمام باب مكتب سمير ، وكان ينظر بتشفٍ للمهندس عند دخوله وخروجه ، يغمره الشعور بالنصر والسعادة ، التي لم تدمْ طويلاً ، فبعد بضعة أيام أخذ يأتي على نفقته قبل الدوام ، ويعود على نفقته بعد الدوام خشية أن يلحقَ سميرٌ أو غيرُه الضرر بالباب . تسرب خبر زيارة المسؤولين للمعمل ، فالتصق مسعود بالباب ليلاً نهاراً متدثراً بمعطفٍ صوفي عتيق، لاعناً الساعة التي سمي فيها مسعودٌ ، بينما كان سمير يمرُّ بالباب غير عابئ به ، فأدمى الخوف قلب مسعود واعتقد أن مصيره مرهونٌ بهذه المهمة . في هذه الأثناء هبت عاصفة خريفية على المدينة ، وجالت في أنحائها ، واجتاحت شوارعها و أزقتها ، وكسرت الأشجار ، وقطَّعت أسلاك الكهرباء وخطوط الهاتف ، وشكلتْ دواماتٍ رمليةٍ استباحت المدينة لساعات ، وغطت عين الشمس ، ونشرت الرعب بين الناس ، وأمطرت طيناً ، ثم اتجهت شمالاً ، فاعترض المعمل طريقها فاقتحمته وعبثت به ، وكنست ساحاته وتسللت إلى أقسامه فتأوهت أبوابُها ونوافذُها ، ثم رقصت عليه حتى تعبت مفاصلها وغادرته ، فارتعشت جدرانه . لم يستطع مسعود من فتح عينيه ، فحبات الرمل جلدت وجهه بسياطها ، وعندما هدأت العاصفة ألقى عينيه على الباب بلهفة ، فقعد على الأرض يلطم وجهه .