حسن فحص
على الرغم من حالة الاسترخاء الايرانية “المصطنعة” في التعامل مع تطورات الساحة العراقية وما تشهده من توترات وتصاعد في حدة الاحداث، الا ان المسار الذي تسلكه الاوضاع السياسية والعسكرية والامنية لا تعبر عن حالة صحية يعيشها النظام الايراني ومشروعه في المنطقة والاقليم. فالضغوط التي يتعرض لها لا تقتصر على الساحة العراقية، لا بل قد تكون هذه الضغوط التي تنزل عليه في الساحتين السورية واللبنانية اكثر تعقيدا واشد وطأة مما هي في العراق على الرغم من اهمية هذه الساحة وحيويتها بالنسبة له. الا ان الساحة العراقية تبقى مفتوحة منذ البداية على التسويات مع الادارة الامريكية والمجتمع الدولي على حد سواء. في حين ان اي تنازلات على الساحة اللبنانية ستكون ذات اثمان كبيرة قد لا تظهر انعكاساتها السلبية في المدى القريب، خصوصا وان الاعتقاد السائد لديه كان يرى قدرته على فرض شروطه انطلاقا من امتلاكه لورقة المقاومة ضد اسرائيل وان التداخلات الدولية تدور حول حاجتها للحصول على ضمانات امنية لمنع اي تهديد لامن تل ابيب. من هنا فان تداعياتها على المدى البعيد قد تكون مؤلمة وتتطلب تمهيدا وجهدا كبيرين في تسويغها، وقد بدأت مؤشراتها في الخطاب الذي القاه الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بتاريخ 14 من آب/ اغسطس 2020 عندما اعتبر ان “المقاومة وسلاحها مسألة وجودية للحزب لا يمكن التخلي عنهما طالما لم يقدم بديل حقيقي”، ثم استكمله في خطابه الذي القاه ليل 28 آب/ اغسطس 2020 مستحضرا الحدث التاريخي الذي رافق الصلح الشهير بين الامام الحسن بن علي بن ابي طالب مع معاوية بن ابي سفيان سنة 41 للهجرة، والذي تنازل فيه الحسن عن الخلافة لمعاوية في اطار شروط لم يلتزم بها معاوية. مؤكدا على وحدة النهج بين صلح الحسن وثورة الحسين في كربلاء، معتبرا ان مؤدى صلح الحسن هو نفسه مؤدى الثورة التي قام بها الحسين، مصوبا الرواية الشعبية الشيعية التي تقول بان الشيعة هم “شيعة علي والحسين” ليقول بان الصحيح هو ان الشيعة هم “شيعة علي والحسن والحسين”، اي انهم دعاة العدل والصلح والثورة، على الرغم من اشارته الى حتمية الانقلاب على هذه الجماعة في حال ذهبت الى الصلح، من دون ان يسقط امكانية اعتماد هذا الخيار.
في ازاء هاتين الساحتين، يواجه النظام الايراني تعقيدا كبيرا في ما يتعلق بالساحة السورية، ولعل التطور الاخير المتمثل بانتقال جزء من القوات الامريكية المنسحبة من قاعدة التاجي بالقرب من بغداد الى الداخل السوري، يزيد من تحديات اللاعب الايراني على هذه الساحة. لان الانسحاب من العراق وان صب بظاهره في سياق المصالح الايرانية التي تطالب وتسعى لاجبار هذه القوات على ترك العراق، الا ان طهران تعرف وتدرك بان هذه الخطوة ليست سوى حلقة وخطوة في اطار استراتيجية واشنطن لاعادة انتشارها في العراق والتخفيف من قواعدها والاعباء الامنية المترتبة على ذلك، مع الاحتفاظ واستمرار وجودها.
التعقيد السوري بالنسبة للنظام الايراني ليس مصدره الوجود الامريكي في منطقة شرق الفرات وسيطرته على مواقع حيوية يحتاجها نظام دمشق في عملية اعادة بناء سلطته واعادة الاعمار، فهذا الوجود يشكل عقدة مزدوجة له- اي النظام الايراني- ولحليفه الروسي، وهذا الوجود الى جانب الجيب التركي في شمال شرق سوريا يمثلان عائقا امام مساعي الطرفين الروسي والايراني في جر المجتمع الدولي واقناعه بالانتقال الى اطلاق التسوية السياسية في سوريا. خاصة وان الجهود الروسية في هذا الاطار تصطدم بالمطلب الامريكي والدولي والاسرائيلي بالتخلص من الوجود الايراني في هذا البلد قبل اي حديث عن عملية سياسية.
وفي الوقت الذي استطاع الطرفان – الايراني والروسي- التوصل الى تسوية حول حدود المصالح والنفوذ الاقتصادي في سوريا وفي عملية اعادة الاعمار، الا انهما حتى الان لم يستطيعا التوصل الى صيغة ترسم حدود الدور والنفوذ داخل النظام على خلفية سعي كل طرف ليكون صاحب التأثير المباشر والاساس في توجهات النظام السياسية، وقد تمظهر هذا التجاذب بشكل واضح في التنافس الواضح بين الطرفين على الامساك بالمؤسسة العسكرية بكل اصنافها من جيش ودفاع وطني، ومن ضمنها القواعد العسكرية لحرس الثورة الايراني والفصائل والميليشيات المتحالفة معه والتي قاتلت الى جانبه دفاعا عن النظام.
وتشكل المؤسسة العسكرية السورية ساحة التنافس الرئيسة بين الطرفين، لادراكهما حقيقة دور وتأثير هذه المؤسسة على مستقبل النظام وبقائه، ولان الاستثمار في هذه المؤسسة يسمح للطرف المؤثر في تأكيد دوره ونفوذه على هذه الساحة ومنها في المنطقة بشكل عام، خصوصا وان هذه المؤسسة لعبت الدور المحوري والوحيد في بقاء النظام واستمراره، وستبقى مؤثرة في المستقبل وبعد انتهاء الحرب التي بدأت قبل نحو 9 سنوات.
اللاعب الروسي ينطلق في مساعيه للاستئثار بالساحة السورية من مسلمة اساسية تقوم على ان تدخله العسكري المباشر الذي بدأ في 30 تموز/ يوليو 2015 كانت نتيجة الحاجة الايرانية التي ادركت عجزها في الحفاظ على النظام واستمراره امام فصائل المعارضة التي استطاعت السيطرة على معظم الاراضي السورية وحتى بات ازيز رصاصها يسمع في أروقة قصر تشرين الرئاسي. في حين يعتقد اللاعب الايراني وحلفاؤه ان التنسيق بين قوة النار الروسية والقوة البشرية التي وفرها هو انتجت تغييرا في المعادلات الميدانية. وعليه فان الطرفين يعتقدان ان استمرارية النظام وبقاءه تعتمد على اعادة بناء المؤسسة العسكرية لتكون القوة التي تحمي النظام والاراضي السورية، ما جعل هذه المؤسسة ساحة صراع بينهما.
ففي مقابل الجهد الذي بذلته موسكو في اعادة بناء الجيش السوري وتدريبه وتحويله الى جيش حقيقي قادر على الدفاع عن الاستقرار ووحدة الاراضي السورية، برز الدور الإيراني الذي لم يكتف بالدخول على خط الحصول على حصته في اعادة التأهيل، بل ايضا في مجال السعي لتكريس وجوده من خلال الاتفاق على بناء قواعد ومعسكرات خاصة به تشكل غطاء لاستمرار وجوده.
وامام الزخم الروسي باتجاه امتلاك القرار السوري تمهيدا للانتقال الى الحل السياسي، أحست طهران بان التطورات قد تكون على حسابها، خصوصا وان الوجود الروسي وسيطرته على المعادلات السياسية الاقليمية كشف وجودها العسكري أمام العمليات والضربات الاسرائيلية من دون أن تكون قادرة على الرد. وفي خطوة تعبر عن مدى قلقها من الدور الروسي في فتح الاجواء لاستهداف هذا الوجود، عمدت طهران لرفع مستوى تعاونها مع النظام في دمشق من خلال التوقيع على اتفاقية لتزويده بمنظومة صواريخ مضادة للاهداف الجوية من نوع “3 خرداد” و”باور 373″ لتكون شريكا في امرتها بعيدا عن منظومة اس 300 الروسية التي تخضع لسلطة القرار الروسي ولم توفر الحماية للحليف المفترض وهي تتحرك بناء لاعتبار مصالح موسكو في المنطقة.
يمكن القول ان التطورات التي شهدتها مناطق المحور الايراني في الشهرين الاخيرين، خصوصا الضغوط الامريكية على طهران في مجلس الامن واعادة العقوبات الدولية ضدها، اضافة الى التصعيد الامني بين حزب الله واسرائيل بعد مقتل عنصر من الحزب في سوريا، فرض على الحليفين الروسي والايراني تأجيل الوصول الى حافة التفجير بينهما لمواجهة الهجمة الامريكية التي قد تعيد تركيب المعادلات على نصاب مختلف لا يخدم المصالح الروسية في الشرق الاوسط. وتراجع الحديث عن منظومة الصواريخ الايرانية لسوريا لصالح البحث عن تسويات تمنع الوصول الى المواجهة وتفجير المنطقة. الا ان الامور قد تكون مرشحة لمزيد من التسويات بين موسكو وطهران في ظل تطور التنسيق بينهما والبحث عن تسويات تضمن لهما الحافظ والدفاع عن مصالحهما المشتركة في بقاء نفوذهما في سوريا والشرق الاوسط، والمختلفة في اهدافها وآلية تحقيقها وحجم دور كل منهما.
المصدر: المدن