وليد شقير
ما هي التفاهمات الإقليمية والدولية التي دفعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى خوض ما سماه في حديث لمجلة “بوليتيكو”، “الرهان المحفوف بالمخاطر” على إحداث اختراق في الوضع اللبناني المأزوم؟
فهذا الرهان على أن يلتزم أقطاب السياسة اللبنانية معيار تشكيل حكومة من المستقلين وذوي الكفاءة من غير الحزبيين، وأن يدعموا الإصلاحات في خريطة الطريق التي صاغتها الديبلوماسية الفرنسية خلال زيارة ماكرون إلى بيروت في الأول من سبتمبر (أيلول) للمشاركة في الاحتفال بمئوية لبنان الكبير، يشكل بحد ذاته مغامرة بما وصفه ماكرون “رصيدي السياسي”. وتصحيح سلوك الطبقة السياسية اللبنانية التي أوصلت ممارساتها البلد إلى حالة من الاهتراء والإفلاس، بفعل خلافاتها على السلطة وانحياز الأكثرية بقيادة “حزب الله” للمحور الإيراني، قارب الاستحالة في السنوات الأربع الماضية.
والآثار السلبية للفساد والتمسك، باسم الحقوق الطائفية، بالمكاسب النفعية في المؤسسات، على الاقتصاد والمالية العامة، تتساوى مع الآثار الكارثية لاستفادة إيران عبر “حزب الله” من تحويل البلد إلى منصة للتدخلات في عدد من دول المنطقة، لا سيما في سوريا فضلاً عن اليمن ودول الخليج، ما أدى إلى عزل لبنان عن الدول العربية وحرمانه مصدراً للاستثمارات لطالما اعتمد عليه تاريخياً، فضلاً عن العقوبات الأميركية على الحزب التي طالت بيئته.
والسوابق الفاشلة في لجم التدهور دفعت إلى التساؤل عما إذا كان هناك تغيير في المواقف الخارجية سمح لماكرون بانتزاع تعهد القادة السياسيين اللبنانيين بتسهيل تأليف الحكومة الجديدة برئاسة السفير مصطفى أديب خلال 15 يوماً وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة خلال ثمانية أسابيع، ليجري في ضوئها تأمين دعم مالي لاقتصاده. فهل حصلت باريس على تسهيل من إيران لمبادرتها اللبنانية، أم أن ماكرون يقوم باختبار قدرة بلاده على تأمين مصالحها عبر ممارسة دورها في بلد ارتكز دورها الإقليمي إلى علاقتها الخاصة به، بعدما كانت سبباً في نشوئه في عام 1920؟
حقبة من التدويل ولبننة التدخلات
وفي وقت تؤكد وقائع مبادرة ماكرون أن أزمة لبنان دخلت حقبة جديدة من التدويل، تقول معلومات “اندبندنت عربية”، إن أكثر من قطب سياسي فاعل يعتقد أن البلد يحتاج إلى إخضاعه لنوع من الإشراف الدولي أو الوصاية على شؤونه كي يتمكن من تجاوز مخاطر “الاختفاء” أي الزوال، كما حذر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان قبل زيارة الرئيس الفرنسي، ولتفادي “غرقه في الحرب الأهلية” كما تخوف ماكرون نفسه.
ومع أن ماكرون كان واضحاً في تحذير السياسيين اللبنانيين من أنه إذا لم يسهلوا تنفيذ خريطة الطريق التي عرضها عليهم والتي قال إنها ستتحول إلى البيان الوزاري للحكومة الجديدة، فإنه حرص من باب اللياقة الديبلوماسية قائلاً، “لم آت إلى هنا لأفرض أي إنذار أو تنبيه لأي طرف”. لكنه عاد فشدد على أنه في حال لم يتمّ الالتزام (من قبل القادة السياسيين والأحزاب الفاعلة) فسأحاول في البداية أن أفهم ما حصل بكل شفافية، وأن أرى من المسؤول سياسياً، وسأقول ذلك بكل صراحة وبشكل حسي. وهذا سيعني أن بعض الآليات التي كان من المفترض أن ترافق وتساعد الشعب اللبناني لن نتمكن من إطلاقها”، أي أن المؤتمرات التي وعد بتنظيمها سواء لمجموعة الدعم الدولية زائد دول أخرى في باريس في أكتوبر (تشرين الأول) وفي الأمم المتحدة، لتأمين الدعم المالي للاقتصاد، لن تنعقد وسيترك لبنان إلى مصيره السيء. أي أنه رفع “جزرة” التمويل مقابل تنفيذ ملموس للإصلاحات، وعصا التخلي عن أي مساعدة ملوحاً بالعقوبات على “مسؤولين نتيجة مشاركتهم في عمليات غير شرعية وغير قانونية تم تحديدها”.
وإذا كان صحيحاً أن إنقاذ لبنان من مأزقه المزدوج، الاقتصادي والسياسي، ومن كارثة انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس (آب) منوط بقرارات قياداته وحكومته الإصلاحية، فإن ضغوط فرنسا وسائر الدول على هؤلاء هو نوع من التدويل في العمق، مع لبننة القرارات المطلوبة. ولذلك أوحى ماكرون بأن الورقة التي عرضها على الفرقاء ووافقوا عليها هي من صنع رئيسي الجمهورية العماد ميشال عون والبرلمان نبيه بري. فالإدارة الفرنسية التي تعرف عن ظهر قلب الحلول التي سبق أن شاركت في وضعها في مؤتمر “سيدر” عام 2018، قامت بتجميع الخطوات المطلوبة والتي لم تنفذ منذ سنوات في ترتيب جديد بالتشاور مع سائر الفرقاء، هي بالإصلاحات في قطاع الكهرباء والقطاع المصرفي، واستقلالية القضاء، والتدقيق الحسابي الأساسي والضروري للبنك المركزي، ومكافحة الفساد والتهريب، وقانون الشراء العام. والجديد في خريطة الطريق هذه هو تحديث للجدول الزمني للتنفيذ بحيث هناك خطوات يفترض إنجازها “فوراً” (بعد تأليف الحكومة) في شهر وأخرى في ثلاثة أشهر.
حماية الإصلاحات من “الخارج”
ولم يكن ممكناً أن يتمّ تفادي تأخير الخلافات اللبنانية لتشكيل الحكومة وتحكمها باختيار الرئيس المكلف تأليفها أن يتمّ من دون مساعدة فرنسية، وبدأت إجراءات اللبننة مع وقوع القرعة على اسم السفير مصطفى أديب. وفي هذه الخطوة صدرت الفكرة من بيروت، ومن الرئيس نجيب ميقاتي الذي اقترحها على رؤساء الحكومة السابقين من بين لائحة من 25-30 اسماً درسوها فكان زعيم تيار “المستقبل” رئيس الحكومة سعد الحريري ميالاً إليه أكثر من الأسماء الأخرى، فتولى ميقاتي إيصال الاسم إلى الجانب الفرنسي الذي يعرف بعض ديبلوماسييه السفير أديب وسبق أن تعاملوا معه، فاستمزج عون وبري فيها موحياً بأنه خيار جيد يقبل به الحريري الذي يلحّ عليه “الثنائي الشيعي” أن يسمي بديلاً منه للمهمة. وهكذا جرى إخراج وقوع الخيار عليه لبنانياً. وهذا ما سمح لماكرون أن يقول بعد لقائه الرئيس المكلف في بيروت إنه يتمتع بدعم كبير أوسع من الدعم الذي حصل عليه الرئيس السابق (حسان دياب) وسيرته تظهر مهنية واعدة، وهو يعي ما يحصل ويعرف أنّه ليس “المخلص”.
وترك الرئيس الفرنسي لمن يقرأ بين السطور أن يستنتج مدى التوافق الدولي والإقليمي على ما يقوم به. والبارز في سياق حديثه عن خريطة الطريق التي ستتحول إلى البيان الوزاري قوله “سأبذل ما بوسعي لمرافقة برنامج الإصلاح شخصياً لحمايته من أي عوامل خارجية”. وجاء إعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بعد مغادرة الرئيس الفرنسي بيروت عن التنسيق المتواصل مع فرنسا حول خطوات الرئيس ماكرون، ليثبّت التوافق مع واشنطن على ما يقوم به، بل تفويضها “الأم الحنون” محاولة إيجاد مرحلة انتقالية في لبنان، على الرغم من إعلان مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط السفير ديفيد شينكر غداة وصوله إلى بيروت في حديثه لصحيفة “النهار”، أن “لدينا اختلافات صغيرة” في معرض تقديره المبادرة الفرنسية. وهو قصد بذلك الاختلاف حول العلاقة مع “حزب الله”، التي تعتبر باريس أنها ضرورية للحوار مع الحزب، من أجل تمتين التوافق على الخطوات الإنقاذية.
التسهيل الإيراني
في مؤتمره الصحافي في بيروت، كرر ماكرون القول إنه اتصل بالرئيس الإيراني حسن روحاني وتحدث إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وأضاف “لمست إرادة لترك لبنان يقوم بما هو عليه بحرية. ولكنني أنا لست ساذجاً في ما يتعلق بكل العلاقات والروابط الخاصة والعامة، وهل سنتمكن من حلّ كل هذه الروابط مع الدول الأخرى الخارجية، ولكن أعتقد أن البرنامج الذي التزم به الرئيس المكلف أمام القوى السياسية والرؤساء واضح وحسي وقصير الأمد، كي لا تتمكن هذه القوى التي تحدثنا عنها من أن تشكل خطراً على لبنان وعلى هذا المشروع”. وعندما سئل عما إذا كان حصل على ضوء أخضر من طهران قال “لا أتحدث عن ضوء أخضر، المسؤولون والرؤساء (اللبنانيون)، هم من يلتزمون ويعطون الضوء الأخضر”. وهنا أيضاً أوحى بأن هناك وعداً إيرانياً بعدم عرقلة الخطوات التي اقترحها، مع لبننة هذا الجانب الإقليمي.
وفي وقت قال عن لقائه مع رئيس كتلة نواب “حزب الله” محمد رعد إنه تعهّد بالإصلاحات وعارض الانتخابات المبكرة وقانون الانتخاب الحالي وكذلك التحقيق الدولي بانفجار المرفأ، سبق لماكرون أن أبلغ رعد في زيارته في السادس من أغسطس الماضي، أن على الحزب العودة إلى لبنان وترك الحروب في سوريا واليمن وغيرها لأن لكم وزناً قوياً فيه وتأثيركم يعترف به الجميع.
ويستدل المراقبون في بيروت من الليونة التي اعتمدها ماكرون و”حزب الله” لتغليب وجهة النظر القائلة إن طهران تسلّف باريس مواقف إيجابية في لبنان، مقابل استبعاد ماكرون النقاط التي يمكن أن تكون موضوع خلاف في خريطة الطريق التي طرحها. فهو اعتبر أن الأولوية هي للإصلاحات قياساً إلى موضوع الانتخابات النيابية المبكرة، في مايو (أيار) 2021 بدلاً من عام 2022، التي تؤيدها فرنسا والولايات المتحدة وعارضها رعد، وكذلك حليفه سليمان فرنجية، و”التيار الوطني الحر” الذي اشترط إجراءها على القانون الحالي في وقت يؤدي ذلك إلى تعطيل إجرائها نظراً إلى إصرار سائر المطالبين بتقديم موعدها على تغيير القانون الحالي، على الرغم من أنها البند الأخير في خريطة الطريق الفرنسية. كما أنه كان واضحاً بتأجيله مسألة البحث بسلاح الحزب الذي أقرّ بوجوب مناقشة مصيره، إلى ما بعد مرحلة انطلاق التعافي الاقتصادي وإعمار ما تهدم في بيروت.
خصوصية العلاقة الإيرانية – الفرنسية
ومقابل مراعاة ماكرون لقبول النائب رعد ما وصفه بـ “90 في المئة من خريطة الطريق الفرنسية خلال اجتماع القادة السياسيين مع الرئيس الفرنسي، يقول سياسي بارز مواكب للمواقف الخارجية، لا سيما للعلاقات الإيرانية- الغربية لـ”اندبندنت عربية”، إن إيران و”حزب الله” مضطران لمراعاة الطلب الفرنسي، نتيجة عوامل عدة تتعلق بموقع فرنسا في الصراع الدولي مع طهران. فباريس تقدمت الدول التي عارضت في مجلس الأمن توجهات واشنطن للإبقاء على حظر بيع الأسلحة لإيران الذي يفترض رفعه في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهي التي تولت التسوية على قرار مجلس الأمن بالتجديد لقوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان والذي أرادت منه إدارة الرئيس دونالد ترمب تشديد إجراءات “يونيفيل” للبحث عن سلاح “حزب الله” في منطقة عملياتها في إطار الضغوط عليه، ويلفت السياسي نفسه إلى أن من مصلحة إيران الحفاظ على علاقات إيجابية مع فرنسا التي تمتنع حتى الآن عن تصنيف “حزب الله” إرهابياً وتصرّ على إبقاء خيوط التواصل والحوار معه، في وقت تكر سبحة الدول الأوروبية التي تحظر نشاطه فيها وتفرض عقوبات عليه ويتوقع أن تتزايد هذه الدول، ويشير السياسي نفسه إلى أن شركة “توتال” النفطية الفرنسية هي الوحيدة التي تعول عليها طهران من أجل تطوير أحد أكبر حقول الغاز في بارس، والذي انسحبت منه موقتاً عام 2018 بعد فرض ترمب العقوبات على طهران.
ويدعو السياسي نفسه إلى مراقبة خصوصية العلاقة الإيرانية- الفرنسية وتأثيرها المحتمل إيجاباً في لبنان ولو في شكل محدود. فالرئيس الفرنسي يتعاطى ببراغماتية، كما قال هو نفسه، مع الدور الإيراني في لبنان بسبب حسابات هذه العلاقة، ويبقى اختبار مدى الليونة المتبادلة عبر رصد موقف “حزب الله” من عملية تأليف الحكومة الجديدة، ثم في صياغة البيان الوزاري.
المصدر: اندبندنت عربية