مصعب عيسى
منذ انطلاق قطار التغيير في ساحات العواصم العربية ،حملت الثورات والحراكات والانتفاضات مضامين عدة تجسدت في شعاراتها التي دعت بغالبها الى تغيير سياسي ضد الطغمة الحاكمة والوصول الى شكل مقبول ومتوازن لصيغة دولة ديمقراطية مدنية تتوافق مع تعريف المواطن والمواطنة وتلبي احتياجات الفرد بشعوره بالانتماء والتماهي مع دولته ووطنه ومجتمعه ،برغم ما تعرضت له الانتفاضات من حملات ممنهجة ومنظمة من خلال احداث ثورات مضادة تعيد انتاج وتجميل النظام السابق ، او من خلال ما تعرضت له من اسلمة للتغيير وإعادة انتاج خطاب متأسلم بالي برواسب عفنة لا يمكن ان تتلاءم وتتناسب مع روح العصر وفكره وجيله ،او ما تم أيضا من خلال حرف مسار الثورة وتقطير ماهية الحرية بفصل الحرية عن التحرر وقد تمثل هذا الجانب بمشاهد لجماعات وأحزاب واشخاص دعت الى فض يدها من الصراع الإسرائيلي العربي والدعوة سرا وعلنا الى تجميل صورة إسرائيل بحملات ترويج واضحة وفاضحة للتطبيع مع المحتل .
لكن بكل ما صنعته الثورات وما انتجته وما أطلقته من شعارات يبقى هناك جانب مخفي لم يتم تسليط الضوء عليه. برأيي ان الثورات العربية والتي قادها جيل شاب ابن عصره كان هدفه الأول والأخير ربما هو الانتفاضة على الموروث القديم هذا الموروث الذي يحمل بين طياته عديد من الجوانب السياسية والدينية والاجتماعية.
فعلى الصعيد السياسي كان شباب الثورات اكثر جرأة ممن سبقهم من أجيال في طرح الأهداف بلغة بسيطة وواضحة وجريئة تجسدت في الهتاف الاشمل (الشعب يريد اسقاط النظام ) والمطالبة بدمقرطة الدولة وإعطاء الحرية السياسية جانب أوسع ليتسنى لهذا الجيل التعبير عن رؤيته في انتاج دولته ، هذا الجيل الذي لم يتعلم في مدارس ماركس ولم يعاصر عصر القوميات ولم ينهل من كتاتيب حسن البنا وسيد قطب ، كان يريد فقط وطن ومواطن ومواطنة بكل بساطة كما في باقي الدول المتقدمة ، الامر الذي دفعه الى الثورة والصراخ هو انه لم يعد يشعر بانه مواطن منتمي لبلد وهو يرى بلده في حالة من تهافت التهافت وفي حالة من سقوط لآخر بفعل فساد وطغيان هذه الأنظمة فراح يطرح شعاره السياسي الذي هو مقدمة لباقي التغيرات وكون ان كل شيء في بلده مرتبط بالسياسة حتى قوت يومه.
تداخلت مطالبه السياسية مع مطالبته بإحداث تغيير في الموروث الاجتماعي من حيث انه لايزال يشعر انه ضمن عالم هرمي ممنهج بدءا من السلطة السياسية وصولا الى اصغر بيئة اجتماعية الا وهي الاسرة هذا الموروث الاجتماعي العفن والذي انتجته الطغمة السياسية الحاكمة قد احدثا استبدادا هرميا يبدا من القبضة الأمنية التي فرضتها السلطة على المؤسسات والقطاعات والافراد ، وراح الافراد بدورهم يمارسون هذا العمل الاستعبادي على بعضهم من خلال سلطة الأقوى على الأضعف ، وسلطة الأكبر على الأصغر ، وسلطة الاقدم على الاحدث ، وكل تلك السلطات الممارسة مجتمعيًا كان سرها هو الخوف ، الخوف من الأكبر ، الخوف من الاقدم ، الخوف من الأقوى …دول بأكملها قائمة على سياسة الخوف ، الخوف كما جسده جورج اوريل في روايته ( 1984) : الأخ الأكبر يراقبكم …لذا كان الشعار الاجتماعي الباطني للثورات هو : يسقط الأخ الأكبر ، يسقط الأقوى ، يسقط الاقدم …
الامر الذي أدى الى الاصطدام حتما بجدار الموروث الديني البالي والذي ساعد بدوره على تمكين الموروث الاجتماعي العفن من الديمومة والثبات من خلال الخطاب الديني الذي انتجته او قولبته الدولة الأمنية من اجل مصلحتها ومن اجل إبقاء الشعب تحت تاثيرات سلطة سياسية واجتماعية ودينية مترابطة.
هذا الدين السلطوي ربما او الخطاب الديني كان سلاحا ذو حدين كما حدده ماركس الذي يرى أن الدين هو مؤسسة اجتماعية، تنتعش في مجتمع معين، وأنها اداة تستخدمها الطبقة الحاكمة( الرأسمالية ) ليتحكموا بالطبقة العاملة “البروليتاريا” ويرى أن الدين يمد الطبقة العاملة بالراحة في ظل العقبات البائسة التي يعانون منها، حيث أنه يركز على ما ينتظرهم من المتع بعد الموت، فهو لا يجذبهم الى تحسين ظروفهم الحالية ودفعهم إلى الأمام.بل دفعهم الى التحول الى دراويش في حضرة السلطان يطوفون كالسكارى متعبدين سريريا لا روحيا ، غائبين عن المجتمع وازماته ، حاضرين في طلب الرضى من السلطة .
فراح الموروث الديني الفاسد أصلا يعيد احياء تراث الحكايات والاخبار عن فلان وفلان ويبتعد عن جوهر القيم التي نزلت بالكتب السماوية فأصبح الحديث أقدس من النص القرآني ومرجعا أساسيا وان كان هذا الحديث غير مسند وغير صحيح ولكنه يخدم الحالة الاجتماعية المناسبة لأداء السلطات الحاكمة.
فتحولت العبادة الى عادة لدى المجتمع من اجل تجميل صورة الفضيلة والورع كي يتناسب مع حاجيات المجتمع لا اكثر ولا اقل اما التحدث بأمور الفساد والثورة على النظام والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية رجس من عمل الشيطان ورجس من عمل الاحتلال.. فعلى الشعب الابتعاد عنه لأنه يجهض الامة والاجهاض حد من حدود الله يعاقب عليه الشرع المتمثل بقبضة السلطان وشبيحته.
لذا كانت الحراكات الشبابية هي حراكات اجتماعية بالدرجة الأولى طالبت بالحرية والتحرر من نص الخطابة وقوالب اللغة القديمة والخروج من عباءة الامام وقلب أسس الحكم ، وإعادة تشكيل التاريخ العربي كما يتلاءم مع التاريخ الإنساني لأننا جزء من هذا الكون ولابد لنا ان نلحق به ، ولا يمكن اللحاق بركب الحضارات الا اذا امتثلنا قول المولى عز وجل : (حتى يغيروا ما بأنفسهم ) حتى نخرج من عباءة الخوف المحيطة بنا من كل حدب وصوب وان نؤمن ان العدالة اقدس من الايمان، ان الحرية اقدس من النص ، ان الانسان اقدس من المعابد والمؤسسات والمصانع والشركات …ان الدين لله والوطن للجميع …فهل سينجح شباب الثورة في مواجهة هذه الرواسب المتشربة بواقعنا العربي …انها مهمة صعبة ولكن ما هو اصعب هو فقدان الامل.