د. مخلص الصيادي
لم يضف انضمام البحرين إلى “الاتفاق الإبراهيمي” شيئًا جديدًا على المشهد الذي رسمه الاتفاق الإماراتي ـ الإسرائيلي، ولم يأت مفاجئًا، وجل ما فعله أنه أخرج المستور إلى العلن، وأعطاه الصبغة الرسمية، وحدد وبشكل علني ورسمي موقع القضية الفلسطينية عند هؤلاء بأنها في المكان الذي يحدده الكيان الصهيوني، وتحدده الولايات المتحدة.
وهذه التطورات، وكل التطورات المرتقبة التي ستشهد انضمام مزيد من النظم العربية إلى هذه المسيرة إنما تعمل على إخراج القضية الفلسطينية من مكونات السياسة العربية، وإعطاء الكيان الصهيوني الشرعية “الممتازة”، التي استنادا إليها تحدد الشرعيات الأخرى جميعها، أي إعطاء هذا الكيان المكانة المعنوية نفسها التي كانت تحظى بها القضية الفلسطينية.
كانت فلسطين في السابق”واسطة العقد”، يلتقي عليها النظام العربي، من أجلها يجتمع هذا النظام، وحولها يعقد تحالفاته، وعلى صدى أحداثها تتحرك فعالياته بتجلياتها المختلفة، وتحت راياتها يخوض معاركه السياسية على المستوى الإقليمي والدولي، والانتماء إليها والارتباط بها من دواعي الشرف الذي يتمسك به كل نظام صادقا كان أم منافقا.
الآن تعمل هذه الاتفاقات على أن تحل ” إسرائيل ” مكان فلسطين، فتصبح إسرائيل هي مربط الفرس، ويصبح الارتباط بها هو الإنجاز، وهو العمل الذي يُفتخر به، وتصبح هي رافعة الأمن الوطني والإقليمي وحاميته، ومحققة فرص الاستثمار والتقدم العلمي، وضامنة النهضة وبناء المستقبل، ومعها وفي ظلها تعقد التحالفات وترتب التعاقدات، ويحصر مستقبل شعوب المنطقة وأممها.
وإذا كانت الاتفاقات السابقة مع الكيان الصهيوني”اتفاقية السلام الإسرائيلية المصرية، ورديفتها اتفاقية وادي عربة مع الأردن”، قد صُورتا حينها بأنهما تمتا تحت ضغط واقع الاحتلال، وبحثا عن فرص استرجاع الأرض، فإن “الاتفاقيات الإبراهيمية” لم تقم على قاعدة الاضطرار، وإنما على قاعدة “اغتنام أواقتناص فرصة للتقدم والنماء والثراء”، والفارق بين الأمرين كبير، وإن كان الرحم واحدة.
وإذا كانت “اتفاقيات الضرورة”، تتضمن بزعمهم جوانب إيجابية وأخرى سلبية لكل طرف من أطرافها، لأنها بالطبيعة فيها أخذ وفيها تنازل، فإن الاتفاقيات الأخرى ليس فيها إلا الأخذ، ليس فيها تنازل، الكل فيها رابح، هكذا يجري تصويرها، وهذا المفهوم هو واحد من أهم دواعي تمريرها، ومن أهم مبررات اعتبارها انجازا، واختراقا يتم وصفه بالتاريخي.
ولأن شيئا ما إيجابيا لم يتغير في مشهد “القضية الفلسطينية”، منذ كامب ديفيد، واتفاقية وادي عربة، رغم كل التنازلات التي قدمتها القيادة الفلسطينية وقدمها النظام العربي للعدو الصهيوني، والتي كانت اتفاقية أوسلو والمبادرة العربية للسلام أبرز محطاتها، فإن الانتقال من “اتفاقات الضرورة والحاجة” إلى اتفاقيات “الفرصة والغنيمة” احتاج إلى إخراج جديد، وقد جاء هذا الاخراج مستندا إلى “مفهوم ونظرية الصدمة”، حيث يكون الانتقال إلى الوضع الجديد انتقالا تاما كاملا وشاملا، ومن غير أي شروط أو استثناءات أو شروحات، ومن غير تمهيدات أو مراحل أو مفاوضات ذات شأن، وتحت شعارات ومفاهيم مناقضة لكل الشعارات والمفاهيم السابقة.
ومفهوم الصدمة المعتمد هنا يستهدف أن يمحو الماضي نهائيا ، أن يتخلص من ” ثقل الماضي وأعبائه، ودروسه، وحدوده”، وأن يقيم ويبني واقعا جديدا محشوا بأفكار ومفاهيم جديدة ـ غير حقيقية ولا تصمد أمام اي تحليل جاد ـ، لكن لأن هذه كلها قائمة على قطيعة حقيقية مع الذاكرة / التاريخ، قديمه وحديثه، فإنها تصبح متقبِلة لكل ما يطرح عليها، ومفهوم الصدمة هذا كما يكون في الاقتصاد وفي السياسة، وفي علم النفس والموارد البشرية، يكون في الأفكار والأديان والقيم.
ومن صلب “نظرية الصدمة” أن تتخلف عنها لدى الجمهور المستهدف حالةٌ من الضياع والتشتت والتضارب في ردود الفعل، بعد أن تم وضع هذا الجمهور المستهدف في منطقة انعدام وزن ، ومنطقة فقد للتوازن ، مما يعطل أي حركة فاعلة تهدف إلى مواجهة هذا التحول.
هذا هو الاستهداف الحقيقي لطريقة إخراج هذه الاتفاقات، ولأن هذه الاتفاقيات تخص القضية الفلسطينية فإن قدرتها على تغيير طبيعة هذه القضية قدرة مشكوك فيها، بل نستطيع القول واثقين أن هذه الاتفاقيات ستفشل في النهاية فيما استهدفته، لأنها تستهدف القضية الفلسطينية، تستهدف فلسطين، ومشكلة كل من تعامل مع هذه القضية أن القوة الأصيلة الحقيقية لهذه القضية،ومنعتها، تنبع من ذاتها، وليس من العوامل أو الظروف التي تمر بها أو تضاف إليها، من طبيعة فلسطين نفسها، وطبيعة المشروع الصهيوني، وتنبع مما يحيط بهذه القضية من أسوار ومصدات وموانع من شأنها أن تفشل كل محاولة لإنهائها أو إسقاطها من الحساب:
** قوة فلسطين تستند إلى وجود الشعب الفلسطيني، وهو شعب لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن الغاؤه، لقد ذهب الزمان الذي تستطيع به قوة غازية أن تبيد شعبا وتلغي وجوده” كما فعل المهاجرون الأوربيون البيض، بسكان القارة الأمريكية”، وقد فشل الغزو الصليبي الذي رسخ وجوده في فلسطين على مدى قرنين من الزمن وفشل في أن يحقق الاستمرارية لهذا الوجود، فكيف يمكن لهذه الغزوة الصهيونية المعاصرة أن تحقق ذلك.
** وقوة فلسطين في “الجغرافيا السياسية” لها، في كونها قائمة في قلب الوطن العربي، ولأجل ذلك تم اختيارها من قبل قوى الاستعمار العالمي لتكون قاعدة لقيام الكيان الصهيوني، وبهذا الموقع هي محاطة بوطن عربي وبأمة عربية، أي محاطة بكتلة بشرية تتوفر فيها كل خصائص الأمة، وهي بحاجة فقط فرصة لتجمع نفسها في كيان واحد، وقد كانت هناك أكثر من محاولة لتحقيق ذلك، وأُفشلت تلك المحاولات، لكن تكرار المحاولات يشير إلى أصالة التوجه، وأنه يستند إلى حقائق موضوعية ستفرض نفسها في لحظة ما، وأكثر ما يدرك ذلك على وجه الحقيقة هي قوى الاستعمار والصهيونية العالمية.
** وقوة فلسطين ترتكز على قاعدتها العقدية، أو ما يمكن أن ندعوه ب”الجغرافيا الروحية” الخاصة بها، والتي ترتكز على الإسلام والقرآن، وفيهما عقيدة الجهاد، وعقيدة قدسية هذا المكان، وعقيدة الولاء والبراء، وعقيدة حفظ العهود والمقدسات الخاصة بأهل الكتاب، وهذه كلها لها في وقائع التاريخ شواهد ومؤيدات لا يستطيع أحد أن يغيرها، إن القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، ليست مجرد أماكن عبادة وصلاة، وإنما لها قدسية دينية مختلفة عما سواها، وقدسية بيت المقدس والمسجد الأقصى تلتحق بقدسية المسجد الحرام والمسجد النبوي فلا يشد الرحال إلا لهذه المساجد الثلاثة، وفي القدس مسرى الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، أي أنها قدسية إلهية غير قابلة للتصرف، وهي أمانة في أعناق المسلمين جميعها، لا تتغير مع الزمن، ولا يبدل حالها اتفاق أو معاهدة، ولا يملك أحد التنازل عنها، ويتطلع إليها في كل لحظة مليار ونصف المليار مسلم، ويلتزمون تجاهها.
** وقوة فلسطين ترتكز أيضا على طبيعة الكيان الصهيوني، أي على طبيعة الكيان المناقض لفلسطين، والذي أقيم ويراد له أن يستمر وينمو على أنقاض فلسطين. وللكيان الصهيوني أربع خصائص، مجتمعة ، كل خصيصة من هذه الخصائص تفرض علينا أن نواجهها بحزم وبوضوح:
1ـ فهو كيان غاصب أقيم على أرض لها شعب وفيها حضارة، ولها تاريخها وقيمها. وهو كذلك كيان حديث جدا، لا وجود مستقل له، فقد بدأ ويستمر مستظلا بحماية موجديه، ليس له تاريخ، والاغتصاب عنده سمة أصيلة، سمة وجود، وسمة ديمومة، اغتصب الأرض، ويعمل على اغتصاب كل مظاهر الحياة فيها، حتى اللباس والطعام والفنون الشعبية، كلها فلسطينية ويسرقها ويقدمها باعتبارها منتج حضاري اسرائيلي، إن أي علاقة تطبيع مع هذا الكيان تتضمن في جوهرها اعترافا بحقه في هذا الاغتصاب، وهو اعتراف يحط من قيمة الأنسان أي إنسان ومكانته.
2ـ وهو كيان عنصري قائم على فكرة عنصرية هي أشد عنصرية من الفكر النازي، لأنه يسند تميزه إلى “عرقية” لا حظ لها من العلم أبدا، وإلى عقيدة دينية “موهومة” تجعل الآخرين بمثابة خدم لهذا “الشعب”، وتخلي مسؤوليته تجاه أي قيمة أخلاقية أو انسانية تخص ” الآخر”. ولذلك فإنه لا ذمة له ولا عهد ولا وخلق لهذا الكيان ولمن ينتمي إليه،، وبهذا الطابع العنصري هو الكيان السياسي الوحيد في العالم الذي يمنح جنسيته الطبيعية فورا ودون أي شروط لليهودي، بمجرد أن تطأ قدمه أرض فلسطين المحتلة.
3ـ وهو كيان معاد للإسلام، وراسخٌ في ثقافته أن هذا الدين هو الذي أقام هذه الأمة، وهو الذي أعطى القدسية لمكوناتها: “اللغة، والأرض، والتاريخ، والقيم المشتركة”، وهو الذي فتحها لتكون حاضنة لكل الشعوب التي دخلها الإسلام، وهو الذي يذخر كتابه المقدس بتحريم موالاة أعداء الإسلام، ويخرج الموالي لهم من ربقة الإسلام، وبالتالي فهذا الدين خصم رئيسي له.
4ـ وهو نظام وظيفي أقامته الحركة الاستعمارية العالمية، في هذا المكان المحدد، حتى يمنع هذه الأمة بالذات من إعادة بناء نفسها، وحتى يتولى هو نفسه قيادة هذه المنطقة، والسيطرة على ثرواتها، والهيمنة على وجودها ومصيرها، وبالتالي فإن مصيره مرتبط بمصير هذا الاستعمار وقوته مرتبطة بقوته، وولاءه متحرك حيث يتحرك مركز القيادة في الحركة الاستعمارية العالمية.
ولهذه الخصائص الأربع، ـ ويمكن أن يضاف إليها أو يفصل منها خصائص عديدة أخرى ـ فإن الموقف من الكيان الصهيوني، وبالتالي الموقف من القضية الفلسطينية، يصبح موقفا وطنيا وقوميا ودينيا وإنسانيا، ويصبح الانفكاك منه نكوص عن هذه المستويات كلها.
لما سبق يمكن بيقين أن نقول إن القضية الفلسطينية، والموقف من الكيان الصهيوني هو التعبير العملي الأوضح والأسمى عن الموقف الوطني والقومي، وهو التعبير العملي الأوضح والأسمى عن الموقف الإسلامي، وهو كذلك التعبير العملي الأوضح والأسمى عن الموقف الإنساني، فالوقوف ضد العنصرية أفكارا وكيانات ومجتمعات، فريضة إنسانية سواء تجسدت هذه في فلسطين أو في جنوب أفريقيا، أو في الأحزاب والحركات العنصرية التي تزخر بها المجتمعات الغربية في هذه المرحلة.
هنا يظهر لنا مدى تردي وسخف ونذالة كاتب أو صحفي عربي يلجأ لتبرير التوجه في التطبيع مع العدو إلى القول: إن “اسرائيل” لم تعتدِ علينا ـ أي لم تعتد عليه في بلده الذي يعيش فيه!. وإن فلسطين ليست قضيتنا!. وإن الفلسطينيين هم المسؤولون عما آلت إليه القضية الفلسطينية!. وإن علينا أن ننتبه إلى مصالحنا!، وإن “الإسرائيليين” أقرب إلينا من أولئك الفلسطينيين الذين لم يحفظوا معروفنا معهم !. …. الخ. وحين ندقق في هذه العبارات والشعارات والتعليلات نكتشف أن هذا كله وجه من أوجه الهجوم على الأمة، في وجودها ودينها وتاريخها ورموزها، وقيمها، ووحدتها.
ولقد كان ملفتا في هذه الاتفاقات الإبراهيمية الحديث عن الأمن: الأمن الوطني والعربي الذي يمكن أن تحققه هذه الاتفاقات مع العدو الصهيوني، تجاه المخاطر الذي تحيط ببلداننا، وعلى وجه التحديد إزاء إيران.
ولا شك فإن إيران الراهنة تمثل خطرا على الأمن القومي العربي، والأمن الوطني، ويمكن أن نقول إنها تمثل خطرا أكبر من الخطر الذي مثلته إيران زمن الشاه، لكن من المهم أن نحدد زاوية هذا الخطر، وأن نجيب على تساؤل يختص بالظروف التي جعلت إيران خطرا علينا، ومن المهم أيضا أن نحدد كيفية مواجهة هذا الخطر.
إيران التي تمثل خطرا علينا في هذه المرحلة، هي إيران الطائفية التي تمثلها نظرية “ولاية الفقيه”، والتي يقوم عليها نظام الملالي، وكل من يعرف نظرية “ولاية الفقيه”، يدرك معنى وحدود الخطر الايراني.
نظرية ولاية الفقيه ترى أن المسلمين السنة في كل مكان، منحرفون عن الطريق القويم، دينهم ناقص، وعبادتهم مثلومة، وترى أن من واجبها أن تعمل على تغيير هذا الأمر، وإعادة هذا القطيع من المسلمين” وهم الأغلبية الغالبة” إلى جادة الصواب.
هذه النظرية هي القاعدة العقدية للنظام القائم في إيران، ويجب أن نستدرك ونقول إنها ليست نظرية الشيعة، كل الشيعة لا تاريخيا ولا راهنا، وأنه تحت عباءة هذه النظرة تتخفى العصبية الفارسية. لكن نظام الملالي يريد أن يضع كل الشيعة تحت رعايته، وهيمنته، ويلبسهم جميعا هذا الثوب الطائفي، ويعطي سياساته وتوجهاته طابعا مقدسا.
وهذا النظام يحتاج في حقيقة الأمر إلى ثلاث ركائز حتى ينفذ رؤيته:
** هو يحتاج إلى القوة العسكرية والاقتصادية والمادية بأوجهها المختلفة، والتي يمكن استخدامها في أي وقت وفي كل اتجاه.
** ويحتاج إلى القوة الحامية التي تجعله في مأمن من العدو الخارجي، وليس هناك قوة أكثر مناعة من القوة النووية تعطيه هذه الحماية.
** وهو يحتاج أن يكون هو وحده ممثلا لقوة المسلمين، وحاميا لقضاياهم، ومن أهم قضايا المسلمين التي يجنمعون حولها هي القضية الفلسطينية، لذلك كان حريصا على إظهار نفسه بمظهر الحامي لها والمدافع عنها والداعم لقوى المقاومة فيها.
الركائز الثلاثة السابقة ضرورة لنظام الملالي حتى ينمو ويحقق استهدافاته، لكن السؤال الحقيقي الذي يجب البحث عن جواب له هو ما الذي مكن هذا النظام ليكون قادرا على تهديد محيطه “السني”؟!. من أين أتته هذه القوة؟. ولماذا بات قادرا على أن يكون له امتداد في العديد من البلدان العربية، وفي مختلف دول شبه الجزيرة العربية؟.
يمكن ونحن نبحث عن الجواب أن نضع أيدينا على الكثير من الأسباب، لكن كلها يمكن اختصارها بمعادلة واحدة، وهي أن إيران الملالي، لم تجد مكافئا أو معادلا موضوعيا لها على الجانب الآخر.
لم تجد نظاما عربيا تتجسد فيه جوانب الدين الإسلامي، ويحمل عبء وهمَ المسلمين جميعا،وبالتالي همَ العرب جميعا.
لم يجد نظاما عربيا أخذ على نفسه أن يبني قوة ذاتية يحمي بها نفسه، ويحمي بها مشروع أمته العربية والإسلامية.
لقد وجد النظام الإيراني منذ ولادته ـ خصوصا بعد أن تم محو العراق ونظامه ـ الساحة خالية، فدخلها وبدأ اقتناص الفرص فيها، بالدعم هنا وهناك، وبالتمدد الطائفي المنظم والمخطط، وقد نجح في كثير مما أراد حتى بات فعلا يهدد النظام العربي الرسمي، ويهدد في الوقت نفسه بطائفيته النسيج واللحمة الوطنية والقومية في كل بلد عربي.
ما نشير إليه صحيح لا تشوبه شائبه، ويؤكده وصول اليد الإيرانية المؤثرة والفاعلة إلى عدد كبير من المجتمعات العربية، ونستطيع أن نضيف هنا أن هذه الاتفاقات التي تعقد مع الكيان الصهيوني تقدم لنظام الملالي خدمة جليلة وتحقق له ما يريد، وتفرده في موقع الدفاع عن فلسطين وقواها وشعبها، وتصوره بموقع الأمين عليها، فتعطيه بذلك صفة لا يستحقها، وشرفا ليس بأهل له، بل ويمتد ذلك إلى كل القوى التي يتحالف معها ويستنبتها، فتصحب هذه القوى والأنظمة التابعة لها،ـ وهي قوى وأنظمة طائفية مستبدة وقاتلة ـ ، عنوانا في الحفاظ على فلسطين، وفي الدفاع عن مقدساتها.
وليس هناك عطاء، أكثر قيمة، وأشد تأثيرا، وأكثر نفعا يقدم لنظام الملالي وحلفائه من هذا العطاء.
إن الحديث عن الأمن الذي توفره هذه الاتفاقات تجاه إيران ـ إن صدق ـ ، حديث مثير للقلق، لأنه يتضمن اعترافا بالضعف غير مبرر، واعترافا بالحاجة الى قوة حماية خارجية، فإذا كان تحالفا عربيا يضم مصر والسعودية ودول الخليج والسودان ودول اخرى غير قادر على تأمين حماية لهذه البلاد في مواجهة الخطر الإيراني، فما الذي ستضيفه “اسرائيل” إلى هذا التحالف.
لقد كان مفهوما ومطلوبا أن تتجه السعودية أو مصر معا ـ إن لم تستطع كل منهما منفردة ـ إلى بناء قوة نووية رادعة توازي فيها قوة إسرائيل، وطموحات إيران، وليس مقبولا أن يقول أحد أن ذلك غير ممكن من زاوية التكلفة المادية أو القدرة العلمية أو الظرف الدولي، ونحن نرى بأم أعيننا كيف أن إيران تسعى لذلك، وهي تكاد تحققه رغم كل ما تفعله الولايات المتحدة وأوربا، وحين تتمكن السعودية أو مصر مجتمعتين أو منفصلتين من ذلك فإنها تحقق من خلالها أمنها وأمن أمتها، وأمن العالم المهدد بنووية اسرائيلية عنصرية مجنونة، لكن أن يتم اللجوء إلى “إسرائيل” ـ وهي العدو الوجودي للأمة ـ بدعوى مواجهة عدو ظرفي قد يتغير حاله في أي لحظة، فهذا مما لا يفهم، لا تدركه الأبصار، ولا تفقه العقول.
اسرائيل كانت وستبقى عدوا لهذه الأمة لوجودها ولدينها ولمستقبلها، ولن تغير اي اتفاقات من هذه الحقيقة.
وفلسطين هي قلب الأمة العربية والاسلامية، بدونها لا يكون للأمة شيء، وبها تستطيع أن تفعل كل شيء.
والنظام العربي مجتمعا، والأنظمة العربية جميعها بحاجة إلى التطبيع مع فلسطين، ومع الشعب الفلسطيني، ومع روح المقاومة التي جسدها هذا الشعب دائما وفي مختلف المراحل. هذا هو التطبيع الوحيد الذي نحتاجه، والذي يجب أن نسعى إليه بكل طاقتنا، وهذا هو التطبيع الذي يحمينا جميعا شعوبا ودولا ويحقق أمننا الحقيقي والراسخ، ويقدم لنا جميعا فرصة لبناء النفس والمستقبل، ويمثل لنا جميعا فرصة للاستثمار والتقدم والرقي على المستويين المادي والقيمي.