وليد شقير
الثنائي الشيعي وافق على مجلس وزراء مؤلف من 14 وزيراً من غير الحزبيين وتوزير سني للمال ثم تراجع.
الصعوبات التي واجهت المبادرة الفرنسية في لبنان وضعت الفريق الرئاسي الفرنسي، الذي يعمل على تذليل العقبات من أمام الخطوة الأولى منها، أي تشكيل “حكومة مهمة” من الاختصاصيين غير الحزبيين يشبهون الرئيس المكلف الذي دعمت باريس تسميته، السفير في برلين مصطفى أديب، في حال من الإحراج والإرباك أمام المناورات والألاعيب التي يتقنها الفرقاء السياسيون اللبنانيون، وكذلك الثنائي الشيعي الذي جمدت مطالبه ولادة التركيبة الحكومية، وأخرتها ثلاثة أيام بعد مهلة الـ15 يوماً، التي كان الرئيس إيمانويل ماكرون اتفق عليها مع سائر القيادات اللبنانية.
وكثرت التسريبات حول المواقف المتباعدة، وشهدت وسائل الإعلام اللبنانية كماً هائلاً من المعطيات والوقائع، معظمها مفتعل، وأخذ أحياناً طابعاً مسرحياً عن وساطات الجانب الفرنسي بعد انغماسه في تفاصيل السياسة اللبنانية ودهاليزها.
ودفعت العراقيل ماكرون إلى النزول إلى حلبة المداولات، فاتصل بالرئيس أديب، الأربعاء الـ16 من سبتمبر (أيلول)، ليتمنى عليه التريث في الاعتذار. واتصل الجمعة، الـ18 من سبتمبر، برئيس الجمهورية ميشال عون الذي أفاد مكتبه الإعلامي بأنه “عرض معه الملف الحكومي، واتفق الرئيسان على الاستمرار في بذل المساعي على مختلف المستويات، لتأمين ولادة الحكومة العتيدة ضمن أجل محدود. وتمنى الرئيس الفرنسي على الرئيس عون بذل أقصى الجهود للوصول إلى نتيجة إيجابية”، مشيراً إلى أنه “سيجري بدوره اتصالات لهذه الغاية”.
وعلمت “اندبندنت عربية” أن ماكرون يجري اتصالات مع عدد من الزعامات السياسية من دون الإعلان عنها، لمتابعة آخر المعطيات والاستفسار عنها في شأن تذليل العقد من أمام ولادة الحكومة. ويعاونه في هذه المهمة مدير الاستخبارات الخارجية السفير السابق في بيروت برنار إيمييه، وكبير المستشارين الدبلوماسيين في الإليزيه السفير السابق في بيروت إيمانويل بون، إضافة إلى السفير برونو فوشيه الذي التقى قبل أيام مسؤول العلاقات الدولية في حزب الله عمار الموسوي، وغادر إلى باريس اليوم الجمعة.
إغراق باريس بالتفاصيل اللبنانية
واقع الحال أن فريق خلية الأزمة في قصر الإليزيه شدد في مداولاته مع سائر الفرقاء اللبنانيين على عدم إقحامه في التفاصيل المحلية، لكنه اضطر خلال الأسبوع الفائت إلى الانخراط مع هؤلاء، لا سيما حزب الله، في مباحثات دافعها الأساس إنقاذ مبادرة رئيسهم، بعدما أخذ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ينتقد توجهات ماكرون حيال الحزب، بما يشبه الشماتة حين أسف في مقاله في “لو فيغارو” لعدم وضع باريس حزب الله على لائحة الإرهاب، متسائلاً كيف يلتقي ماكرون مسؤولاً في الحزب (رئيس كتلة نوابه محمد رعد) خلال زيارته إلى بيروت، في وقت بدا واضحاً أن ما أوصل المبادرة الفرنسية إلى حافة الفشل هو اشتراط الحزب احتفاظ الطائفة الشيعية بحقيبة المال، بحجة حصوله على التوقيع الثالث في السلطة الإجرائية، إضافة إلى توقيع رئيس الجمهورية الماروني، ورئيس الحكومة السني. وهو أمر عارضه المسيحيون والسنة، لأنه غير دستوري.
أغرق الثنائي الشيعي الجانب الفرنسي في سجال حول ميثاقية هذا المطلب ومدى صحة أنه كان مدار بحث في اتفاق الطائف عام 1989، وحول ما إذا صار عرفاً أقوى من الدستور، نظراً إلى تولي وزير شيعي الحقيبة في السنوات السبع الماضية.
وعكس تمسك الثنائي بحقيبة المال، وبأن يسمي هو الوزراء الشيعة في حكومة أديب بدلاً من أن يسميهم الأخير، بالتعاون مع رؤساء الحكومات السابقين، إصراراً على أن تكون الكلمة الأخيرة له في تأليف الحكومة، مخالفاً بذلك الأجواء الإيجابية التي نشأت بين حزب الله وماكرون، بسبب حرص الأخير على إظهار تمايزه عن واشنطن ودول أوروبية أخرى انضمت إليها في اعتباره إرهابياً.
وأغرق الثنائي باريس في عملية البحث عن صحة هذه الحجة: مبادرة ماكرون لم تنص على المداورة في الحقائب، بينما الفريق الآخر، لا سيما رؤساء الحكومات السابقين، يقول إن اتفاق الطائف لم ينص على تخصيص حقيبة المال للطائفة الشيعية. وشملت عملية الإغراق ترويج معلومات عن أن رئيس الحكومة السابق سعد الحريري وافق خلال اتصالات الفرنسيين معه على إسناد الحقيبة إلى الشيعة، وهي معلومات نفاها لاحقاً بإعلان رفضه تخصيص أي حقيبة لأي طائفة.
وقال العارفون بموقفه إن هناك استحالة أن يوافق هو وأي من رؤساء الحكومات على أمر غير دستوري، يريد الثنائي تكريسه باسم المبادرة الفرنسية. وهو لم يعد ممكناً أن يقدم المزيد من التنازلات أمام جمهوره الذي غضب من تساهله طوال السنوات الماضية مع حزب الله، بحجة تجنب الفتنة السنية الشيعية.
وبلغت هذه المناورات حد اقتراح فريق رئيس البرلمان نبيه بري على باريس بأن تسمي هي الوزير الشيعي الذي يمكن أن يتولى وزارة المال، الأمر الذي رفضه معاونو ماكرون.
قراءة إقليمية للعرقلة
لدى بعض المتابعين عن قرب مسلسل الاتصالات التي جرت قراءة مختلفة عن الأسباب التي دفعت الثنائي الشيعي إلى التشدد. ويؤكد سياسيون مقربون من رؤساء الحكومات السابقين لـ”اندبندنت عربية” أن سبباً قاهراً جعل بري يتراجع عن تسهيله تأليف الحكومة، أبعد من السجال الذي جرى حول حقيبة المال وحصر تسمية الوزراء الشيعة بالثنائي. ويشير هؤلاء إلى أن بري ذهب إلى حد اقتراح أن تؤول وزارة المال إلى وزير سني في إطار المداورة في الحقائب، لكن شيئاً ما طرأ يتجاوز الساحة اللبنانية أعاد الأمور إلى الوراء، لا سيما أن الثنائي الشيعي يدرك أن وظيفة حكومة أديب هي العمل على الإنقاذ الاقتصادي وفق البرنامج الذي وعد به ماكرون، وأن لا مهمات سياسية لها طالما استبعدت الانتخابات النيابية المبكرة من خريطة الطريق التي جرى التوافق عليها.
كما أن أديب نفسه تهيأ للاعتذار الذي طلب منه ماكرون التريث في الإقدام عليه، بحجة أنه لا يريد الاصطدام بالثنائي الشيعي، وأنه قبل ترؤس الحكومة من موقعه غير السياسي ليشكل فريقاً غير سياسي، بل من المتخصصين، على أساس أنها لبضعة أشهر تنفذ الإصلاحات، وتضع البلد على سكة الإنقاذ، ليأتي بعدها غيره كي يتولى مرحلة جديدة عنوانها سياسي، فإذا كان هناك فرقاء يودون إقحامه في الصراع السياسي، فإنه يفضل التنحي ليأتي غيره ممن لهم صفة سياسية.
وفي اعتقاد هؤلاء السياسيين أن تبرير العودة عن تسهيل ولادة الحكومة هو غطاء لجملة أسباب لدى حزب الله لا بد لبري من أن يراعيها، وأن يتناغم معها خلافاً لاستعداداته الإيجابية في الأيام الأولى لتكليف السفير أديب تأليف الحكومة، مهما كانت الظروف.
العقوبات السابقة واللاحقة
فالعقوبات التي طاولت وزير المال السابق معاون بري، النائب علي حسن خليل ووزير الأشغال العامة السابق يوسف فنيانوس المنتمي إلى تيار سليمان فرنجية المقرب من الحزب، كانت مؤشراً سلبياً دفع بري إلى التراجع عما أبلغه إلى غير فريق، قائلاً إنه غير راضٍ عن طريقة تأليف الحكومة، لكنه سيسهل قيامها، ويعطيها الثقة في البرلمان ويسرع إقرار قوانين الإصلاح في الندوة النيابية، وبعدها لكل حادث حديث.
بل إن مصدراً واكب التحضيرات لولادة الحكومة أوضح لـ”اندبندنت عربية” أن الثنائي الشيعي أعطى موافقته على أن تكون الحكومة من 14 وزيراً من غير الحزبيين، مع مداورة كاملة في الحقائب، وتفضيله أن يكون وزير المال سنياً، في السابع من سبتمبر، بينما أُعلنت العقوبات في اليوم التالي الثلاثاء الثامن من سبتمبر، ولو تأخرت ثلاثة أيام لربما كانت الحكومة أبصرت النور قبل نهاية الأسبوع الماضي.
ويرجح أصحاب هذه القراءة أن بري رأى في استهداف واشنطن النائب خليل وفنيانوس في ظل المبادرة الفرنسية نوعاً من الاستضعاف للثنائي الشيعي، في ظل الحديث عن لوائح بأسماء جديدة ستطالها العقوبات. ويسأل هؤلاء: هل أراد بري ومعه حزب الله من وراء عرقلة المبادرة الفرنسية دفع ماكرون إلى مطالبة واشنطن بتجنيب من يحيطون برئيس البرلمان موجات العقوبات اللاحقة؟ وهل هذا ما دفع بري إلى التصريح بأن العقوبات موجهة ضد المبادرة الفرنسية لإفشالها، مشدداً على أنه يريد إنجاحها؟
وسرعان ما يرد هؤلاء بالقول إن الجانب الأميركي لا يهتم إذا كانت عقوباته تفرمل المبادرة الفرنسية، بدليل تأكيده أكثر من مرة أنه ينسق مع باريس، ويؤيد تحركها، للضغط من أجل الإصلاحات، لكنه يختلف معها حول الموقف من حزب الله. ويختم أصحاب هذه القراءة بالقول إنه إذا كان من أهداف عرقلة المبادرة الفرنسية الضغط لفرملة العقوبات الأميركية على حلفاء الحزب، فإن فرنسا غير قادرة على تحقيق ذلك مع واشنطن.
العين الإيرانية على مشهد واشنطن
لكن، أصحاب القراءة التي تدعو إلى التفتيش عن أسباب غير تلك الداخلية أو المحلية، التي يسوقها الثنائي الشيعي لفرملة تأليف الحكومة، يشيرون إلى عنصر أكثر أهمية في الحسابات الإيرانية. إذ يصعب فصل ما يجري في بيروت عن المشهد الذي كان البيت الأبيض مسرحاً له في الـ15 من الشهر الحالي، إذ جرى توقيع اتفاق السلام برعاية الرئيس دونالد ترمب بين إسرائيل والإمارات والبحرين، الذي وجدت فيه إيران تطويقاً لها في ظل سياسة “الضغط الأقصى” الأميركية.
ويرى أحد السياسيين المراقبين بدقة لرد فعل إيران وحزب الله على اتفاق السلام بين الدولتين وإسرائيل أنه بينما الانطباع السائد أن إيران تنتظر الانتخابات الرئاسية الأميركية في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني)، ليتبين وفق نتيجتها ما إذا كانت ستخوض مفاوضات مع واشنطن، وسط اعتقاد بأن تمسكها بأوراقها الإقليمية مصدر قوتها التفاوضية، فإن تعديلاً طرأ على المسرح الإقليمي يجعلها تتشدد في موقفها.
فاتفاق إسرائيل مع الإمارات إذا تطور إلى تعاون أمني، إضافة إلى المجالات الأخرى، يعني أنه بات لإسرائيل حضور بشكل أو بآخر في بلد له حدود برية وجوية وبحرية (على مضيق هرمز) مع إيران، بالمعنى الاستراتيجي والافتراضي. أما في البحرين، حيث لطهران صلات مع بعض تشكيلات الأكثرية الشيعية، فإن السلام مع إسرائيل سيأخذ المملكة إلى علاقات مع الدولة العبرية لا بد من أن يتأثر بها شيعة العراق ولبنان.
ويقول السياسي نفسه إن النفوذ الإيراني يتعرض منذ أشهر إلى ضغط مؤثر في العراق، الذي بات له رئيس للحكومة (مصطفى الكاظمي) يتميز بقدر من الاستقلالية عن طهران، ولواشنطن حصة في العلاقة معه، مع مراعاته دور طهران في بلده.
وينتهي السياسي نفسه إلى الاستنتاج بأن الحدث في واشنطن إذا أضيف إلى الضغط العسكري الذي تتعرض له طهران في سوريا ربما يكون دفعها إلى العودة للإمساك بورقة تشكيل الحكومة في لبنان التي كانت تركت لحزب الله خيار أن يتساهل في شأنها بعلاقته مع فرنسا، حتى لو كلف ذلك البلد الصغير تدهوراً جديداً في أوضاعه المالية والاقتصادية.
المصدر: اندبندنت عربية